إلى أحمد نجيب الشابي..*

قبل أن أقرأ رسالتك quot;الغريبةquot; إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، بمناسبة إعدام الطاغية صدّام حسين، كنت أحسب أنك ترنو بوجهة تونس نحو دول متقدمة تمكنت من صناعة نهضتها حديثا بفضل الديمقراطية، كإسبانيا والبرتغال، أو كوريا الجنوبية وتايوان، أو على الأقل نحو تشيلي واليونان..و لم يكن يخطر ببالي أبدا أن النموذج quot;الحضاري الفريدquot; الذي تعد به بلد وشعبك، والذي نذرت له نفسك معارضا لنظام الحكم في دولتك ما يقارب الأربعين عاما، ليس سوى ذلك الذي رسم معالمه القاتمة على أرض الرافدين دما وألما وصنما وخرابا، الطاغية العراقي.
تخيلت وأنا أقرأ كلماتك الذائبة عشقا في أكثر دكتاتور دموية في التاريخ العربي الإسلامي، لو أن فليبي غونزاليس رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق، أو زباتيرو رئيس الحكومة الإسبانية الحالي، قد كتب الكلمات نفسها في حق دكتاتور بلدهم الراحل الجنرال فرانكو، ماذا كان سيحصل، وهل كان سيمكث أي منهما في مكانه يوما واحدا بعد رسالته، فما بالك لو كان المادح سياسيا ألمانيا والممدوح هتلر، أو أن المادح برتغالي والممدوح سلازار، هذا مع أهمية التنويه إلى أن جرائم فرانكو وهتلر وسلازار في حق شعوبهم، تعتبر غير قابلة للمقارنة بالقياس مع ما ارتكبه صدام في حق الشعب العراقي.
لم أفهم ndash; و لا يمكنني أن أفهم- كيف يمكن أن يحب سياسي طاغية كصدام حسين، ثم يقدم لشعبه خطابا ديمقراطيا، أي كيف يمكن أن يحب المرء الإبادة الجماعية و جدع الأنوف والآذان والسحل والتعذيب ونشر أصنام الحاكم في كل مكان وانتخابات ال100% و أمر المواطنين بعبادة السيد الرئيس من دون الله وسياسة الحزب الواحد والعائلة الواحدة والفرد الواحد، وفي نفس الوقت المطالبة باحترام مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والنظام البرلماني الديمقراطي والتعددية الحزبية ذات المصداقية.
أخطاء صدام حسين، التي قلت أن أحدا من الشعب والأمة لم يسايره فيها، ليست أخطاء هينة، حتى يقال أن مقاما لا يسع ذكرها، أو أن مرتكبها ميت لا يجوز تعييره بها، فالأمر يتعلق بكوارث تجاوز مداها المدمر والمأسوي ملايين العراقيين، إلى ملايين العرب والبشر، وحكم الرجل لمدى جاوز الثلاثة عقود، ابتدأت بتعليق المئات من المناوئين في ساحات بغداد (القرية) إلى تعليق الآلاف والملايين في حروب خاسرة وحملات إبادة عامة وسجون ومعتقلات لا عد لها، شملت البعيد والقريب، ونالت من جميع شرائح المجتمع نخبا وعامة، ولم يسلم من الطغيان حتى ابن الخال صاحب الفضل والأصهار والإخوة والأشقاء والأصدقاء ورفاق الدرب.
ولست أدري على وجه التحديد أي وثائق اعتمدت في تعداد انجازات الطاغية العلمية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، فالمدن العراقية عدا بعض الأحياء البغدادية، لا يمكن تصنيفها حتى ضمن دوائر العالمثالثية، عدا الفقر والجوع والمرض الذي كان ينهش غالبية العراقيين، في حين لا تخلو مدينة من قصر رئاسي، ولا تخلو خزانة رئاسية من أرقى الموديلات الباريسية و أفخر علب السيجار الكوبية.
وإنك إذ ترى في هذه الإنجازات -إن ثبت وجودها- مبررا لإقامة أحد أبشع الأنظمة السياسية في تاريخ البشرية، فإنه لن يكون من حقك بعد رسالتك البوشية هذه ndash; وهو أمر يجب أن يسري بأثر رجعي- معارضة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، ومن قبله نظام الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة، لأنهما بكل المقاييس أكثر نجاحا على مستوى التنمية البشرية، الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، فتونس تعتبر اليوم جنة قياسا إلى العراق الذي تركه صدام حسين، تماما كما أن تجاوزات الرئيسين التونسيين السياسية والحقوقية ستعتبر ملائكية (لا تذكر) قياسا إلى الجرائم الإبليسية التي نفذها الطاغية.
وحتى على مستوى العطاء للقضايا العربية، فإن النظام التونسي كان أفضل مليون مرة ndash; إن شئت- مقارنة بنظام الديكتاتور صدام حسين، حيث لم ينخرط التونسيون في أية أدوار يمكن أن تعمق الخلافات العربية العربية، ولم يقرروا يوما إعلان الحرب على جارة مسلمة أو غزو جارة عربية، ولم يخلقوا فصيلا فلسطينيا يذبحون به فصائل أخرى، و لا بذروا أموال الثروات الطبيعية في شراء الأسلحة وإغراق البلاد في المديونية، فعن أي حب لفلسطين تتحدث وعن أي أحلام وأمجاد للأمة لم يقم صدام ببيعها.
صدام لم يحب العرب، بل أحب نفسه إله لا شريك له، وهو لم يذهب إلى المنفى لأنه كان يؤمن بأن العراق ملك له، ولم يسرق المال العام ndash; على الرغم من تأكيد البعض وجود مليارات باسمه في سويسرا- لأن كل المال العام كان بيده ويد أبنائه، فضلا عن البشر الذين كان يعاملهم كما البهائم، والأرض وكل شيء في عراق استبيح طولا وعرضا، شمالا وجنوبا، من حلبجة المدمرة بالكيمياوي إلى الأهوار المجففة عدوانا، طيلة خمسة وثلاثين عاما.
تقول أن خلاف صدام مع طغاة العالم كان الحفاظ على ثروات بلاده، فأي ثروات هذه التي حافظ عليها. لقد تسلم العراق وخزينته فائضة، ليسلمه أكبر دولة مدينة في العالم والتاريخ، بل إنه ليس ثمة طاغية إلا وزعم الزعم نفسه، وكل الطغاة كانوا أكثر حفظا لثروة بلادهم منه، من فرانكو إلى بيونيشيه، ومن سوهارتو إلى سيس سيكو.
لقد كنت أحسب أن التجارب السياسية المتعددة التي خضتها قد عركتك جيدا، وأنضجت فكرك السياسي، وأنك وإن كنت كأي سياسي يسعى إلى الشعبية، فلن تعمد إلى استعمال الأساليب الشعبوية القائمة على مزيد من تعبئة مواطنيك في الاتجاه الخطأ، اتجاه التفكير الغوغائي والشعاراتي، الذي يمكن أن يجعل من أعتى مجرم عرفه التاريخ العربي الإسلامي، شهيد الأمة وبطلها المغوار. كما كنت أحسب أنك أكثر تقدمية من قاعدتك الحزبية، وأعذر بعض مواقفك التي قدرت أنك مضطر لاتخاذها إرضاء لهذه القاعدة، لكن ليس إلى درجة الهيام بصدام حسين، وجعل حكمه الدكتاتوري المدلهم مجرد أخطاء لا تحجب عظمة وشموخ وفروسية الطاغية.
لقد أشعرتني بخيبة أمل كبيرة، أياما قليلة بعد أن سجلت في المرمى السياسي العربي هدفين إصلاحيين نادرين برمية واحدة، الأول تنازلك عن الكرسي ndash; بينما كان الطاغية صدام يعبد نفسه والكرسي-، والثاني فتح المجال أمام امرأة لتكون ثاني رئيسة لحزب سياسي في العالم العربي، فقد كنت أصنفك ضمن قلة من الوحدويين العرب الذي يحملون مشروعا إصلاحيا ديمقراطيا، ويؤمنون بأن الوحدة العربية ممكنة فقط عندما تقوم أنظمة ديمقراطية في الدول العربية..الآن لم يعد أمامي إلا مراجعة تقديراتي الخاطئة هذه.
وأخيرا، فإنني لن أجد بعد اليوم مبررا مقنعا لأي اتصالات أو جولات قد تجريها في الولايات المتحدة أو دول الإتحاد الأوربي أو غيرها من الدول الديمقراطية، دفاعا عن قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان والإصلاحات السياسية في تونس، لأن رجلا قلبه معلق بطاغية كصدام حسين، يصعب أن يكون مساهما فاعلا وصادقا في بناء مشروع ديمقراطي حقيقي في بلده..ربما يحلم بأن يكون رئيسا يمتطي صهوة خطاب ديمقراطي جميل، لكنه لن يعدم المبررات لممارسة الطغيان..ولتعذرني أن قسوت، فبقدر المحبة فعلت.

* أحمد نجيب الشابي: محامي وسياسي تونسي. أسس وقاد الحزب الديمقراطي التقدمي (معترف به) إلى غاية شهر ديسمبر 2006، حيث تخلى طواعية عن موقعه لصالح مي الجريبي، وهي ناشطة وحقوقية وسياسية تونسية معروفة، وقد نشرت الرسالة مناط الرد، يومين بعد إعدام صدام، في عدد من مواقع الانترنت التونسية، من بينها موقع تونس نيوز