لقد أثرت في مقال سابق موضوع عدم إكتراث و جهل العرب بحقيقة أن الحضارة العربية في القرن العشرين تمكنت من تحقيق إنجاز عجزت عنه كافة الحضارات العالمية الأخرى ألا وهو إنتاج حركتين آيدولوجيتين شعبيتين شموليّتين إمتازت كلتيهما بالدموية المفرطة والوحشية غير المسبوقة. إن الفاشيتين القومية العربية والإسلاموية (الإسلام السياسي) التي هيمنتا على الساحة السياسية العربية (القومية العربية لغاية الثمانينات ثم الإسلاموية بعد ذلك) قد سببتا في إنتاج ردة حضارية مروعة بسبب إتجاهها الطوباوي المهووس بإعادة أمجاد الإمبراطورية الإسلامية والمتعطش الى الهيمنة على الآخر وإلغاءه.

إن هذه الآيديولوجيات الفاشية لها جذورتأريخية وحضارية مشتركة موغلة في العمق في الشخصية العربية والتي تجعل الفرد العربي العادي وعلى الرغم من بؤس حاله وعجزه في معظم الأحيان حتى عن توفير قوت يومه أن ينظر بإزدراء وإحتقار نحو حضارة الآخر وأن يعتقد بحقه الألهي في أن يسود على الآخرين.

لذا نجد أن معظم العرب هللوا لإنتصارات صدام حسين الدونكيشوتية خصوصاً عند إحتلاله للكويت لكونها دغدغت فيهم الأحلام الإمبراطورية.
وقد تسببت هاتين الحركتين الفاشيتين في مئات آلاف الضحايا خلال حكم الأنظمة القومية العربية و مئات آلاف أخرى في العنف الإسلاموي في الجزائر والعراق والبلدان الأخرى. إضافة الى هذا فقد أنتجت الفاشية الإسلاموية حركة إرهابية عالمية عابرة للحدود ترتكز على القتل الجماعي العشوائي لأكبر عدد ممكن من المدنيين لتحقيق أهدافهم السياسية ألا وهي إسقاط النظام العالمي الحالي وتبديله بنظام إسلامي تهيمن عليه الخلافة.

إن جرائم الأنظمة القومجية معروفة للجميع في الحروب العبثية الطاحنة (البعث العراقي) وعمليات القتل الجماعي للمعارضين (النظام السوري والليبي والعراقي) إضافة الى إرتكاب عمليات إرهابية مروعة (مثال: لوكربي التي إعترف بها النظام الليبي و التي أدت الى دفع تعويضات تفوق ال 3 مليارات دولار الى ذوي الضحايا و المثال الآخر بالطبع هو quot;غزوة مانهاتنquot; وهناك المئات من الأمثلة الأخرى).

والغريب أن الأغلبية الساحقة من العرب والمسلمين لا يشعرون بأي مسؤولية أخلاقية عن هذه الآيديولوجيات الإجرامية أو ما يقوم به أبناء جلدتهم أو طائفتهم أو دينهم من جرائم ضد الإنسانية. والأغرب هو قدرة العربي والمسلم على لوم الغير وخصوصاً الغرب وتحميله مسؤولية كافة الجرائم التي يقوم بها الحكام العرب والمسلمين بدعوى أن هؤلاء الحكام كانت لهم (أو ما زالت) علاقات بهذه الدولة الغربية أو تلك. وطبعاَ يتناسى هؤلاء المبتلين بالبلادة السياسية التي تجعلهم يتهمون الآخرين أياَ كانوا دون أدنى وعي بأن العلة والخلل يكمن فينا وفي موروثنا الثقافي والديني والحضاري الذي ينمي التعالى الأجوف و العدوانية والعدمية وإحتقار الآخر و التعلق بالغيبيات. وأن الطغاة والجلادين والإرهابيين في البلاد الإسلامية هم أبناء هذه الأمة، وهم متشبعون بحضارتها ومهووسون بتأريخها، وهم بالتالي يمثلون جانباً مظلماَ من حضارة الأمة يتجنب الجميع الإعتراف به.

واليوم يطحن العراق طحناً من قبل أحزاب والقوى الإسلام السياسي السني والشيعي، المحلي منه والمستورد من دول الجوار مما يتسبب في مقتل الآلاف شهرياً قرباناً لآيديولوجية دموية طوباوية هدفها الأوحد ليس في توفير الأمن أو الخدمات أو في تطوير العلوم أو الفنون وإنما هو إنشاء مجتمع يضمن لقادته الدخول الى الجنة في الحياة القادمة.

وعلى الرغم من جعجعة العروبيين والإسلامويين عن مسؤولية الحلف الأميريكي الصهيوني فيما يحدث في العراق فإن الدلائل على الأرض تحكي قصة أخرى تماماًَ. فإن الزائر للعراق اليوم سوف يجد بلداَ تسيطر عليه الأصولية الأسلامية بشقيها السني والشيعي بشكل غير مسبوق في تأريخ العراق. سوف تجد أن رجال الدين (المسلمين) يصولون ويجولون ويفرضون على العامة أساليب في السلوك والتعامل تعود بالمجتمع العراقي للوراء عقوداَ إن لم يكن قروناَ. فعلى سبيل المثال قد تم فرض الحجاب على النساء العراقيات فرضاَ في مدن وأحياء بأكملها ومنعوا النساء من قيادة السيارات في معظم أنحاء العراق. فهل هذه من المظاهر الأميريكية أو الصهيونية؟ كذلك فقد أجبر الإرهابيون المدارس والجامعات و المعامل ومحطات تكرير النفط ومحطات توليد الكهرباء والكثير من دوائر ومؤسسات الدولة العراقية والتي بذلت أميريكا المليارات في سبيل إعادة تأهيلها على غلق أبوابها ولكن المؤسسات الوحيدة التي لم تغلق وإنما أخذت بالإنتشار بشكل هائل هي الجوامع والحسينيات، فهل يعقل أن تقوم الصهيونية والإمبريالية الأميريكية بغلق الجامعات التي تدرس العلوم العلمانية والحياتية وأن تشجع وتمول الجوامع والحسينيات حيث تشتم فيها أميريكا ليل نهار؟

لذا فإن على العكس مما يعتقده البعض فإن الذي يحصل في العراق اليوم هو تجسيد حي لبرنامج الإسلام السياسي. فقد إتضح أن أميريكا قد فشلت فشلاَ ذريعاَ في تطبيق برنامجها لتصدير الديمقراطية الى الشرق الإسلامي وقد إنتصر الإسلاميون ومن لف لفهم. لقد فهم الإسلاميون أن هذه الحرب هي حرب مصيرية ولذا فقد رموا بثقلهم الكامل في هذه الحرب وإستخدموا الإستراتيجيات الجهادية الحديثة (الإرهاب الإنتحاري) بكثافة غير مسبوقة. ولكون الإسلام السياسي لا يلتزم بعرف أو قانون ولا يعيرلحياة الفرد أي قيمة فقد إنهمك هؤلاء في قتل العراقيين المدنيين بالجملة وخصوصاَ ذوي الإختصاصات والمهارات وذلك لشلّ ما يعتبرونه بدولة الكفر والعمالة وقد نجحوا نجاحاَ كبيراَ في مسعاهم لجر العراق قروناَ الى الوراء. وكل هذا يحدث وسط تهليل وتهريج العرب والمسلمين. بل أقول أن الأغلبية العظمى من العرب قد أيدوا بشكل مباشر أو غير مباشر القتل والتنكيل بالعراقيين بعد سقوط صدام وذلك نكاية بأميريكا وأملاَ بعودة الأحلام الإمبراطورية التي طالما دغدغها صدام المقبور.

لذا لم نسمع منظمة عربية واحدة أو حزب سياسي أو حكومة عربية واحدة ترفع صوتها دفاعاَ عن العراقيين في عهد صدام المقبور أو دفاعاَ عن الذين يذبحون يومياَ في العراق بفعل أوغاد الإسلام السياسي. وعدا أفراد قلائل يعدون على أصابع اليد من الكتاب العرب الذين وضفوا أقلامهم لقول الحق في ما حدث ويحدث في العراق فإن معظم المثقفين وأنصاف المثقفين العربان قد رموا بثقلهم مع الإرهاب وبالضد من مصالح العراقيين.
وعلى سبيل المثال فقد سمعت وشاهدت مقابلات عديدة في أجهزة الإعلام مع أردنيين وفاسطينيين يستنكرون التفجيرات الإرهابية التي حصلت في عمان ولكن لم أسمع الى الآن مقابلة واحدة مع أي عربي يستنكر التفجيرات المماثلة في العراق والتي غالباَ ما يقوم بها العرب غير العراقيين. بل أعرف معرفة اليقين أن خطب الجمعة في الجوامع في البلدان العربية والبلدان الأوروبية غالباَ ما تختتم بالدعاء بالإنتصار للمجاهدين في العراق و أفغانستان والدعوة لجمع الأموال لهم وهم ذات الإرهابيين الذين تسببوا في تفجيرات الأردن وسيناء والمغرب و تركيا غيرها.

والملاحظ أن هؤلاء العرب الذين يهللون لمذابح الإسلاميين في العراق أو على الأقل يسكتون عنها رفعوا أصواتهم عالياَ إثر إعدام مجرم العروبة الأول صدام حسين. فنجد أن عدة حكومات عربية إعترضت على حكم الإعدام أو على توقيته وكانت للكثير منهم تحفظات على عدالة المحاكمة. ومن المثير للعجب أن تصدرهذه الإعتراضات من بلدان ليس في أي منها قضاءاَ مستقلاَ وفي بعضها (ليبيا وسوريا على سبيل المثال) تنفذ أحكام الإعدام بالمعارضين دون محاكمة أصلاَ.

فكيف نفسر إذن إنتاج هذه الأمة لهذه الثقافات الفاشية؟ كيف نفسر هذا النتاج الحضاري المرضي و كيف نفسرالفصام الذي يعيشه معظم العرب والمسلمين في قدرتهم في أن يعيشوا حياتاَ طبيعية ومسالمة من جهة وأن يؤيدوا بوعي أو دون وعي أبشع طغاة الأرض و أبشع عمليات القتل العشوائي للمدنيين؟

يبدو أن الفرد العربي والمسلم العادي يعيش ساكولوجية مزدوجة. ففي حياته اليومية هو يحاول أن يتأقلم مع القرن الواحد والعشرين لكنه في أخلاقياته حبيس القرن السابع. لذا فإنه ليس بإستطاعة الإنسان المسلم حتى أن يدرك أن حضارته قد أنتجت هذه الأهوال الفاشية ناهيك عن قدرته على مراجعة الذات أو الشعور بالمسؤولية أو الذنب. إن هذا الفصام الناتج عن الجمود والتفسخ الحضاري لن تنفع معه محاولات الإصلاح الشكلية. نحتاج الى مراجعة للذات حقيقية وجرداَ أميناَ لموروثنا الحضاري حتى نكتشف مصدر الداء.
فيا أمة الفاشيتين آن الأوان لكي تكشفي أوراقك. يا أمة الفاشيتين آن الأوان كي نتحاسب.