كانت الآلهة القديمة تحبّ رائحة الشّواء البشريّ، وكان الإنسان في العصور الغابرة يسترضيها بقتل البشر وإهراق دمائهم على مذابح المعابد حتّى يتّقي شرور تلك الآلهة التي تتصرّف على الأرض وفي أقدار القدماء بعبثيّة مفجعة.
ورويدا رويدا بدأ الإنسان يخترع آلهة جديدة أكثر تسامحا وأقلّ عبثيّة، وأصبح الإنسان أكثر رشدا، وذلك بتحمّل جزء من مسؤوليّاته، فاستبدل القرابين البشريّة القديمة بقرابين رمزيّة، وجعل هذه الآلهة مسؤولة عمّا لا يستطيع فهمه أو التّحكّم فيه، فكلّما استطاع الإنسان أن يخضع الطّبيعة ويسخّرها لمصلحته اتّسعت رقعة الحرّيّة والمسؤوليّة لديه على حساب قدريّة الآلهة وقسوتها الأبديّة. ولذلك يختلف سلوك البشر باختلاف ثقافاتهم وتراكم الأخلاق المدنيّة التي تصوغ تصرّفاتهم. فالإنسان المتحضّر لم ينبذ فكرة القرابين التي يقدّمها للآلهة حتّى ينجو من ثأرها وانتقامها فحسب، بل تخطّى ذلك إلى كبح جماح شهوة الثّأر والانتقام المتأصّلة في نفسه، وأضحى يرى أنّ الحياة لا تستقيم بقانون العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، وإنّما بإرساء قواعد العدالة، وهي غير الانتقام، وبالابتعاد عن قوانين الغاب التي مارسها عندما كان يقاتل من أجل البقاء مواجها طبيعة غاضبة وحيوانات كاسرة ومجموعات بشريّة لا تقلّ عنها وحشيّة.
ومن خلال الخبرة التي تراكمت مئات الآلاف من السّنين، عرف الإنسان أنّ الانتقام لا يولّد غير الحقد، وأنّ الكراهية لا تنتج غير المزيد من المآسي والفواجع.
بدأت أكتب هذا المقال عندما رأيت رأس صدّام حسين يخفض لحبل المشنقة والسّباب واللّعنات تنهال عليه من كلّ صوب. تذكّرت عندها قصّة الجعد بن درهم عندما بعث به الخليفة الأمويّ هشام بن عبد الملك لأمير العراق خالد القسريّ، وأوصاه بقتله، وكان ذلك في محنة خلق القرآن الأولى. فقال هذا الأمير في آخر خطبة عيد الأضحى مخاطبا المسلمين : quot;انصرفوا وضحّوا يقبل اللّه منكم، فإنّي أريد أن أضحّي اليوم بالجعد بن إبراهيمquot;... وذبحه من الوريد إلى الوريد تحت المنبر وأمام أنظار المصلّين. وربّما عمد يومها بعض الحاقدين أو المزايدين إلى التّهليل والتّكبير، وربّما عمد بعضهم إلى ركل الجثّة الهامدة بنعله، وربّما أغفل المؤرّخون ذكر مشاهد التّشفّي هذه.
في تلك الرّقعة من الأرض التي تسمّى العراق، يبدو أنّ التّاريخ قد توقّف عند حمورابي وألواح مدوّنته الثّأريّة، فلا تصرّف الحجّاج بن يوسف وأتباع هشام بن عبد الملك، ولا تصرّف أتباع مقتدى الصّدر تخرج عن روح هذه المدوّنة، ولا تصرّف صدّام حسين المجرم الذي صيّره الصّدريّون ضحيّة تشذّ على هذه المدوّنة التي كتبت في فجر التّاريخ البشريّ.
أعترف بأنّني من أشدّ النّاس كرها لصدّام حسين وحقبته الدّمويّة، ولكنّني ضدّ هذا الإعدام الذي لم يكن سوى اغتيال لا يبعد كثيرا عن جرائمه الصّارخة.
كيف يمكن أن نطلق على دولة العراق الحاليّة اسم quot;الدّولةquot; بعد أن رأينا وسمعنا السّباب والشّتائم المنهالة عليه في لحظة تطبيق حكم يفترض أنّه قضائيّ... إنّني لا أستطيع أن أرى في هذه الواقعة سوى عمليّة قتل لمجرم من قبل حاقدين متسلّحين بفكرة الثّأر البدائيّة، ضاربين قوانين الدّولة عرض الحائط الحمورابي.
إنّ ما حصل في بغداد فجر عيد الأضحى ليس إلاّ إعلانا صارخا عن تمكّن ذهنيّة الانتقام والحقد والثّأر من الحقبة الجديدة في العراق، فهي إلى حدّ اليوم لا تختلف عن الحقبات المظلمة السّابقة. ولنا أن نتساءل : هل يشفي إعدام صدّام حسين غليل المتعطّشين إلى الشّرعيّة والعدالة؟ هل يستطيع إعدامه أن يعوّضنا عن مئات الآلاف من البشر الذين أعدمهم هذا الطّاغية؟ هل يعادل إزهاق روحه ملايين الأرواح التي أزهقها في الحروب القذرة التي شنّها على جيرانه؟
كان بودّي أن يبقى صدّام حسين في السّجن سليما معافى، وأن تكون العقوبة الأكبر التي ننزلها به هو أن يرى العراق موحّدا وديمقراطيّا ومزدهرا. ولكنّني عندما رأت المليشيات سيّئة السّمعة أن لا أمل في بناء العراق بفعل إملاءات منشئيها وداعميها ومموّليها قتلت المجرم حتّى لا يتمتّع بقيّة حياته برؤية هذا العارق المهشّم الدّامي والمنقسم على نفسه.
لقد مات صدّام المرعب، فهل سيحيى العراق السّعيد؟
تألّمنا ونحن نشاهد الحقد والانتقام يتلبّسان رداء الشّرعيّة، وعندما رأينا مشنقة الدّولة تتحوّل إلى مقصلة للضّغائن، ورأينا السّباب يحلّ محلّ قراءة منطوق حكم المحكمة.
لقد حوّلت المليشيات عيد الأضحى إلى عيد قربان، وقد قدّم القربان البشريّ على مذبح آلهة الملالي.
إلاّ أنّنا لا نفقد الأمل، وكلّنا رجاء في أن لا يقدّم العراق كلّه قربانا لآلهة العالم السّفليّ.

[email protected]