من يتابع الفضائيات والصحف العربية في تغطيتها لإعدام صدام، ربما يبدو الأمر له كما لو أن القبيلة العروبجية قد أصيبت بطعنة في الصدر، وأن الطعنة رغم أنها أصابت منها القلب، إلا أنها تتحامل على نفسها، وتتصنع الاستمرار واقفة على قدميها، بل والسير في ذات طريقها، وكأن كل العروبجيين من المحيط إلى الخليج يرددون كلمات رئيس عشيرة صدام التي رددها اليوم في إحدى الفضائيات:
quot;ليعلم الجميع بأن عشيرتنا سبق لها أن أنجبت الكثيرين من الأبطال على شاكلة البطل صدام حسين، وستستمر في تقديم أمثاله من الأبطال المجاهدينquot;!!
كل هذا الحزن ولطم الخدود إذن ليس على شخص واحد أعدم عدلاً أو ظلماً، فلم يكن صدام مجرد فرد من أفراد قبيلة العروبة التي تناسلت واستشرت في النصف قرن الماضي، فالرجل كان (والأغلب سيظل) درة تاجها، فيما جسَّد كمال صفاتها وأخلاقها، فهو المثل الأعلى بما وصل إليه من مجد وسلطان، وبما حاز من قدرة وحشية تتصاغر أمامها قطعان أعراب القومية وأعلامهم، طوال تاريخها الذي يقطر دماً.
صدامهم إذن ليس مجرد حاكم عربي، لكنه تجسيد لكل أحلام العروبة في التحدي، تحدي كل العالم بما فيه تحدي كل من يرفع رأسه من قومه محاولاً التململ من هيمنة جبروته، هو إعصار العروبة الذي لا يبقي ولا يذر، فهو الذي هاجم إيران بجسارة وشراسة منقطعة النظير فحطم ما حطم، وقتل من قتل على الجانبين، لكنه شخصياً لم يهتز ولم يرمش له جفن كما يقولون، هو أيضاً بذات الجسارة العروبجية النهَّابة السَّلابة من انقض على الكويت الثرية، ليقتل من يقتل، ويسبي من يسبي، وينهب ما ينهب، وهو يقدم على كل هذا بشموخ وإباء عروبجي أصيل ومجيد، فالرجل رغم أنه ابن حضارة الرافدين إلا أنه يتمثل كل قيم البداوة، تلك القيم التي ابتعثتها دعاوى القومية العربية بطبعاتها الناصرية، ثم البعثية الأكثر أصالة وتوحشاً، لتأتي الجهادية البن لادنية والزرقاوية لتعطيها مسحة مقدسة.
صدام إذن هو المتربع على قمة جبل العروبة الذي صار ضخماً وشاهقاً بما يكفي لسحق كل من يسعون على مشارفه أو عند سطحه، فهو لم يكن مناضلاً هارباً بين شقوق الجبال كبن لادن أو الزرقاوي، لكنه الملك المتوج الذي يتبختر بين قصوره التي افترشت أرض العراق، وهو الذي تأتمر بأمره الجيوش الجرارة بعددها وعتادها، وهو الذي يلوح للعالم ويتوعده بأسلحة دمار شامل كيماوية وبيولوجية ونووية، فحتى لو كان لا يمتلكها كما اتضح فيما بعد، إلا أننا صدقناه وصدقه العالم معنا، ولما لا نصدقه وقد جسد حلمنا في القوة بعد ضعف مهين، وفي التنفيس عن مكنونات ثقافتنا ونوازعنا البدائية التواقة للقتل والتخريب؟!
قبيلة العروبة صارت اليوم قبيلتان لهما ذات الأصالة والأيديولوجية، ولا يفرق بينهما إلا خيط رفيع هو الموقف من البطل المغوار، فالأغلبية الكاسحة من الأعراب والمتعربين بكل امتداد البوادي العربية تقف في صف بطلها المعجزة، لا يعنيها في كثير أو قليل ما يقال عن جرائم ارتكبها في حق شعبه وأمته، ولسان حالها يقول: فليفعل ما يفعل، فلقد اعتدنا هذه المعاملة حتى أدمناها عبر عصور تاريخنا المجيد المتعاقبة، فكل هذا يهون بجانب إنجازه الأعظم بتحدي أمريكا والغرب العدو الكافر كله.
في المقابل تقف القبيلة العروبجية الأخرى الأقل عدداً، قوامها الفئات الأكثر تضرراً من مجازر صدام وبطولاته، وكل ما تطلبه هذه الفئة تنفيس مكبوت ثقافتها العروبية أيضاً، بالثأر من قاتلها، ويا حبذا لو كانت القوات المتعددة الجنسية قد أتاحت لها أن يحتسي أفرادها ولو قطرات من دماه، يمكن أن توزع في دنان فخارية بدوية، فتروي عطش الغل في قلوبها المثقلة بالجلافة والبداوة، ونحن لا نذهب بعيداً في قولنا، وقد رأينا قطعان مقتدى الصدر وهي تهلل وتطلق النار في الهواء، وهي ذات القطعان التي تتناوب وتتبادل القتل والذبح مع القبيلة الأخرى، حتى صارت أرض العراق مستنقعاً للدماء.
يبدو جانب من الصورة إذن لشعوبنا المغيبة بالثقافة العروبية كما لو كانت مجرد حلقة من سلسلة الثارات العربية الممتدة من أيام داحس والغبراء وحرب البسوس، لكن الجانب الآخر رغم أنه يحتل الخلفية، إلا أنه يملأ كل مساحتها، ومن ثم يصدم بل يفجع كلا الفريقين، فسقوط رمزنا الأسطورة لم يتم بأيدينا، وإلا لما استدعى كل ذلك الشقاق والأسى، فكم من رئيس عربي ذبحناه بأيدينا ومررنا على الأمر مرور الكرام، ففي أرض العراق ذبحنا الملك فيصل والأمير عبد الإله، ثم عبد الكريم قاسم لتتابع الحلقات حتى أحمد حسن البكر، الذي أعلن صدام المغدور أنه كان فارساً قد سلم الراية إلى فارس، ثم ما لبث أن آثر التخلص منه نهائياً، كل هذا لم يشد اهتمامنا، فهو معتاد في سياق ثقافتنا وعروبتنا، لكن الجديد والمثير اليوم هو أن سقوط درة التاج العروبي أتى عن طريق قوم آخرين ذوي ثقافة مختلفة، بل والأسوأ أن هؤلاء القوم بالتحديد هم المستهدفين بعداء العروبة ونضالها، بل أتوا لشأن آخر يعلنونه بلا مواربة.
المستهدف ليس صدام حسين وحده بل كل ما يمثله، الديكتاتورية والشمولية التي اعتدنا العيش في كنفها، المستهدف ثقافة الرأي الواحد الذي يمثل لنا اليقين والأمان، يستبدلونه بحرية لم نطلبها ولم نسع إليها، ويحدثوننا عن العلم الذي عجزنا طوال عقود عن الإمساك بأهدابه، يحاولون استدراجنا من كهوفنا العتيقة والمقدسة، إلى عالم قاس بارد ومفتوح لكل صنوف العواصف التي لا نستطيع التحليق في أجوائها، يحدثوننا عن الاندماج بعالم لا نستطيع أن نراه إلا بعين الغازي الذي يكر ويفر، يقتل ويسبي وينهب، هم العدو الذي نعيش على العداء له، فكيف نسمح له بالتسلل إلينا، ليقلب حياتنا رأساً على عقب، وما فائدة ما نمتلك من مال وسيوف وخناجر إن لم نوجهها إلى صدره؟!!
هنا المشكلة والمأساة، أن ما يبدو حتى الآن في الأفق أن كل ما نجح رسل الحضارة في إنجازه هو إسقاط الطاغية الأكبر، ليحل محله العديد من الطغاة الصغار، ربما الأكثر شراسة ودموية، فيما شعوبنا على حالها، يلطم بعضها الخدود على سقوط البطل الرمز، ويستمتع البعض الآخر بالتشفي وشهوة الانتقام، ومع ذلك لا مهرب من حقيقة أن عجلة الزمن لا يمكن أن تعود للوراء، فقد حدث شرخ في جبل العروبجية الأزلي، ويبقى الأمل في أن لا يلبث طويلاً حتى ينهار.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات