مع إعدام الرئيس العراقي الأسبق و الأمين القطري و القومي لحزب البعث العراقي (صدام حسين) بالطريقة البشعة التي حدثت و التي كانت نتيجة طبيعية لمغامرات ورزايا و مصائب أحاقت بالعراق و العالم العربي طيلة أربعة عقود عجفاء و مملة كانت طافحة بالمعاناة و كل عوامل التمزق و الخراب الروحي و الإقتصادي، يدخل العراق و معه العالم العربي في مرحلة جديدة قد لا تكون بالضرورة حافلة بكل معاني و صور التجديد و الأمل و لكنها بالقطع ستؤسس لصورة مستقبلية قادمة مهما بلغت حلكة المشهد الكئيب السائد حاليا وطنيا و إقليميا، فليس سهلا تصور مناظر البؤس و الموت و الدمار و حفلات الإعدام، و ليس سهلا بالمرة أن تنكأ كل جراح الماضي و عقده و مصائبه، و لكن لتحقيق العدالة موجبات و متعلقات صعبة و حاسمة و تحتاج لأعصاب من الحديد، و مصير صدام البشع كان قد رسمه بنفسه منذ أن جعل من حوار الدم هو الوسيلة المفضلة في حل المشاكل، و منذ أن جعل من القانون أضحوكة و من دماء الناس مجرد جسور رخيصة لتحقيق التطلعات الشخصية، صدام كان الإبن البار لمؤسسة المنظمة الحزبية السرية ذات التنظيم المافيوزي الحديدي المحكم، و هو منذ أن برز في مطلع شبابه على الساحة السياسية كانت كل عدته القبضة و الخنجر و المسدس و القتل و التصفية و العنف، و كانت مشاركته البسيطة في عملية محاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في وسط بغداد أواخر عام 1959 هي الإطلالة التي أطل من نافذتها على عالم السياسة العراقية المضطرب و المتخلف و الحافل بكل صور التعصب و العشائرية و التعنت و التطرف في المواقف و الأفعال، كما كان صعوده الحزبي ضمن صفوف البعث مرتبطا بشكل وثيق بالعلاقات العشائرية أكثر من القدرات التنظيمية أو الفكرية أو القابلية الإدارية و هو ما يؤكد على بؤس وفشل التنظيم البعثي في العراق الذي فشل في إستقطاب الطاقات الفكرية و الفنية و كان حزبا معزولا عن الجماهير لا يستند سوى لشعارات قومية مبهمة نجح الرئيس المصري جمال عبد الناصر بكاريزمته السياسية من التغطية عليه، فكان حزب البعث العراقي مجرد تجمع بائس لعسكريين عسكريين فاشلين و لجماعة من الشقاوات و الهامشيين من ذوي المراتب الإجتماعية الدنيا و القدرات العلمية البائسة، لذلك كان عداء نظام البعث العراقي شديدا للغاية ضد نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وإذا كان البعث العراقي قد إستفاد من الخدمات التي قدمتها المخابرات المصرية خلال مرحلة الصراع ضد نظام الزعيم عبد الكريم قاسم مما أدخله لقلوب الطلاب و الشباب العراقي النافرين من موجة الشيوعية و عموم اليسار العراقي خلال أوائل الستينيات، إلا أن ذلك الرصيد سرعان ما تبدد مع إستلام البعثيين للسلطة في العراق عام 1963 و ضياعهم التام في لجتها، و ممارساتهم الوحشية و العدوانية ضد المخالفين و عموم العراقيين و حيث سرعان ما سقطوا و تشتتوا و نبذهم المجتمع العراقي الذي روعته ميليشياتهم المسلحة (الحرس القومي) مما هيأ الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف للإنقضاض عليهم و طردهم من دروب السلطة وإن كانوا ظلوا متواجدين في مساربها و زواياها بفعل المؤثرات العشائرية و المناطقية و الطائفية، و كانت العودة الثانية للسلطة في السابع عشر من تموز 1968 عنوانا واضحا للتعامل العشائري و الطائفي المستند لتداخلات المخابرات و القوى الدولية، ففي ذلك الصيف العراقي الساخن تسنى لزمرة من الشقاة البعثيين يتقدمهم اللواء أحمد حسن البكر و العميد حردان التكريتي و بمعيتهم عناصر بعثية من أمثال صدام و برزان التكريتي و عزة الدوري و طه الجزراوي من التسلل لقصر عبد الرحمن عارف الجمهوري بعد أن فتح لهم الباب قائد الحرس الجمهوري إبراهيم الداود وهيأ لهم الموقف بكامله نائب رئيس المخابرات العسكرية المقدم عبد الرزاق النايف ! ليأخذ البعثيون السلطة على طبق من ذهب و ليعضوا الأيادي التي سلمتهم السلطة و ليباشروا على الفور حملة التعبئة و التجنيد و التبعيث لدوائر الدولة و مؤسساتها وهي العملية التي لاقت مقاومة شعبية شديدة كانت نتيجتها حملات فظيعة من البطش و القمع شمل مختلف القوى الشعبية العراقية يسارا و يمينا فكانت قصص قصر النهاية المرعبة و حملات الموت و التقطيع عنوانا لمرحلة تثبيت الحكم البعثي ذو الوجه العشائري و الشعارات القومية المزيفة، و تضخم الجهاز الحزبي بفعل مغريات السلطة و رشواتها و زادت معه عمليات القمع و التصفية، فكانت تصفيات صيف عام 1973 و التي عرفت بمحاولة إنقلاب مدير الأمن العام (ناظم كزار) التي قتل خلالها وزير الدفاع (حماد شهاب التكريتي)! وجرح فيها وزير الداخلية (سعدون غيدان)!! وتم إعتقال القيادي البعثي المتميز وقتها عبد الخالق السامرائي (أبو دحام)!و الحكم عليه بالإعدام شنقا قبل أن تتكفل الضغوط العربية و الدولية لتخفيف الحكم عليه ولكن إلى حين.... وظل مرجل البعث يغلي بالحمم و التصفيات التي بلغت الذروة مع صيف عام 1979 بعد التطورات السياسية و خطوات التقارب بين نظامي البعث في بغداد و دمشق وحيث برز جناح صدام التكريتي لينفرد بالقرار في العراق بعد إبعاد الرئيس العجوز و المريض أحمد حسن البكر و من ثم تصفية غير المرغوب فيهم في القيادة القومية و القطرية للبعث و ومنهم عدنان الحمداني و محمد محجوب و غانم عبد الجليل و محمد عايش و اللواء وليد سيرت... و غيرهم العشرات ولم ينس صدام غريمه القديم و مسؤوله الحزبي الأسبق عبد الخالق السامرائي وحيث أخرج من زنزانته الإنفرادية ليعدم في حدائق القصر الجمهوري مع كبار القياديين البعثيين لينتهي حزب البعث كمؤسسة عشائرية و عائلية مغلقة و تحت هيمنة (الفوهرر) الجديد/ القديم صدام حسين الذي أضحى القائد الأوحد مؤسسا لفاشية عربية من نمط جديد روعيت فيه مقاييس و مفاهيم الفروسية و القيادة الشابة التي تخوض الصراعات دون وجل و لا تردد و لو على دماء و جماجم البعثيين أولا و من ثم بقية الشعب العراقي الذي تحول (لمشروع شهادة) في حروب القائد الهمام الماراثونية و بقية القصة معروفة وصولا ليوم سقوط الصنم الفاشي في التاسع من نيسان 2003 بعد أن تهشم العراق بفعل الحروب و الغزوات الفاشلة التي أوصلت قيادة صدام ورهطه البلد إليه، اليوم نسمع ببيانات لبعض البعثيين و منهم المدعو (صلاح المختار) وهو من قيادات الصف الثالث في الحزب، كما أن هنالك أسماء لقيادات مجهولة تقيم في دمشق مثل المدعو (أبو محمد)!! تدعي بأنها تمثل حزب البعث رغم أن هذا الحزب قد مات وشبع موت قبل موت صدام بكثير! وهؤلاء بدلا من أن يطرحوا فكر ورؤية جديدة و ناقدة للمراحل السابقة و الماضية من عمر و تجربة البعث في العراق و الذي تحول لشركة عائلية إجرامية مغلقة نراهم وقد ربطوا أنفسهم بالنظام البائد، ليصدروا البيانات من صنعاء و دمشق يهددون فيها قوى الشعب العراقي و يحاولون معاكسة منطق التاريخ و هو منطق يؤكد نهاية البعث و بغير رجعة، لأن التاريخ لا يعود للخلف مطلقا، و لأن العقلية السياسية و الفلسفة الفكرية للبعثيين العراقيين ما زالت تعيش في هوة سحيقة من العدمية و التخلف و الروح الطائفية و العشائرية... لقد كانت جثة صدام المنحورة من شدة الحبل إعلانا واضحا وصريحا على الموت النهائي و الشامل للبعث و بقاياه لأنهم إختاروا السير عكس منطق التاريخ... وتلك معضلة حقيقية!!.

[email protected]