لم يعد من الصعب التنبؤ بالموقف السعودي تجاه معظم القضايا الإقليمية والعالمية، ولم تعد الصورة غامضة ومحيرة إذ تبنت السعودية، منذ فترة، بشكل صارم مواقف صلبة ومتماسكة تجاه كثير من القضايا الإقليمية والعالمية، وسلكت دربها السياسي المستقيم والثابت.
احتجت السعودية، أول من أمس، على شنق صدام حسين، وعبرت، بشكل غير مباشر، عن أسباب استيائها من هذا المسلك وذلك عبر بيان أصدرته وكالة الأنباء السعودية منسوباً إلى محررها السياسي في خطوة غير معهودة في الممارسة العربية إلا أنها كافية وذات دلالة في إعلان الموقف والتعبير عنه.
من المؤكد أن احتجاج السعودية ليس ناشئاً من محبة لصدام أو تعاطف معه؛ فهي وقفت إلى جانبه فارتد عليها محاولاً الاعتداء، متنكراً لكل موقف ايجابي، ثم أنه رجل ارتكب الفظائع دون تردد أو ضمير. السعودية معنية بالموقف الأخلاقي باعتباره المرتكز الحقيقي للحضارة، وأنه أساس الاتصال ومعيار الثقة، وخاصية الإنسانية ومدار تطورها فإذا اختل المعيار كانت النتيجة الفوضى والدمار والخيانة.
للمرة الثانية تعبر السعودية، علانية وبلغة حادة وصلبة، عن رفضها للمسلك الأمريكي؛ الأولى كانت أثناء الحرب على لبنان عندما أصدرت بياناً غير مسبوق في مواقفه الصارمة ولغته المتقدة غضباً. الثانية هي بيان إعدام صدام والذي ظهر في وقت قياسي مايكشف عمق الرفض، وحدة الاحتجاج.
الغضبة السعودية، في التحليل الشخصي، تفجرت أولاً بسبب التوقيت الذي لايستهين بمشاعر المسلمين فقط وإنما يحتقرهم وينتهك لحظات تعبدهم في خطوة استفزازية تستعدي مشاعرهم وتؤجج نار العداء والفرقة، وتشعل نار الفتنة الطائفية.
وهي ثانياً تستشعر النزعة المبطنة في تحويل مسار الغضب والعنف الإسلامي إلى ميدان الحج على أمل أن ينفس الغاضبون عن نقمتهم في منى فيخف الضغط على القوات المحتلة، إضافة إلى أن تفجير فتيل التوتر الطائفي سيخفف الضغط على أمريكا لبعض الوقت مايسمح لها بادعاء النصر وضبط الأمن.
أرادت واشنطن أن تجعل من محاكمة صدام مسرحية إعلامية تستعرض من خلالها عظمتها الديمقراطية، وتبرهن عبرها على تفوقها الحضاري فخاب سحرها إذ استحالت إلى كوميديا هزلية تفضح هشاشتها الديمقراطية، وتظهر عورتها إلى حد ذوبان الفاصل بينها وبين الدول الدكتاتورية، ولعلهما يتماهيان أحياناً حتى ليشكلا صورة واحدة.
المفارقة أن السجين والممثل الهزلي المفترض صدام حسين أصبح بطل المسرحية الأوحد، واستلب الأضواء من الأمريكيين الذين أرادوا استحضار صورة الحلم الأمريكي فثارت ثائرتهم وحل غضبهم مكان ديمقراطيتهم فكان من الطبيعي أن يشنقوه وهذه حافة الحلم ونهاية الحلم.
تصورت أمريكا في غمرة سكرتها بوهم القوة، وسطوة السحر الإعلامي أنها تهدي العالم خطة مارشال جديدة حسب فهمها للأمور، وأن مغامرة انتهاك العراق ستعيد لها عنفوانها فيدرك كل من يحاول الجرأة عليها أن داره ستغدو مرتعاً لجنودها إلا أنها غرقت في مستنقع للرمال المتحركة أصبح مقبرة لجنودها، وعرى أوهام قوتها، ومزق جوانب صورتها حتى غدت الحيرة العظمى لا القوة العظمى، ونتيجة هذا الانكسار تحرر الآخرون من هاجس الخوف فانطلقوا يناوشونها من كل جانب كأنما اكتشفوا أنها كذبة كبرى وأنها لاتصل أن تكون رباً من تمر بل فزاعة طيور يكفي أن يلمسها المرء ليعرف خوائها واتساع خيبتها.
مافعلته أمريكا من توقيت الإعدام وملابساته حركة يأس وإعلان فشل إلا أنها أيضاَ حركة قذرة غير انسانية وضد كل الأعراف الأخلاقية.
ظنت أمريكا أن إعدام صدام سيكون فيه خلاصها من أسوأ أيامها والحق أنها زادت سوءاً وظلاما.
[email protected]