قبل أربعة عقود، قام البعثيون في منتصف رمضان بإعدام الزعيم عبد الكريم قاسم بعدما اقتادوه و حيدا الى دار الإذاعة و قتلوه برصاصة في الرأس. كان عبد الكريم بلا شك الزعيم الأكثر شعبية في تاريخ العراق، و الأقل شعبية بين الأخوة العرب الذين غسلت أدمغتهم الدعاية الناصرية العاصفة آنذاك. لم يكلف عبد الكريم نفسه أعباء إنفاق أموال الناس على بناء الصورة الإعلامية مثلما فعل المرحوم عبد الناصر و بعده صدام حسين و غيرهما و لم يدفع لجريدة أو مجلة، كما لم تكن في عهده فضائيات تروج له فذهب كما أتى وحيدا لا يملك سوى حب الناس و حسراتهم.

قتل البعثيون عبد الكريم حيا و ميتا، فالقوا بجثته في النهر أو دفنوه سرا كما يقال، و لم يحظ بامتيازات جثة صدام التي رقدت بجانب ولديه في مسقط رأسه..!

و لم ينتظر البعثيون كثيرا، فأجهزوا بعد سنوات على عبد السلام عارف، و ما أن استلموا السلطة بعدها بقليل حتى أخذوا يذبحون بعضهم البعض، فذهب أحمد حسن البكر و صالح مهدي عماش و عبد الخالق السامرائي و حردان التكريتي و عشرات غيرهم، حتى تتوج ذلك التاريخ النضالي المشرق بمذبحة القيادة التي أتى فيها صدام على قيادة حزبه بكاملها بعد أن أزهق أرواح ما يربو على الخمسين منهم. هذا ما فعله البعث و صدام فيما بينهم، فما بالك بالشيوعيين و الكرد و غيرهم من المعارضين.
لم يحظ عبد الكريم و عبد السلام بمحاكمات تبثها الفضائيات و خطب عصماء يتلوها المتهمون لساعات طويلة، و لا بهيئة دفاع استلمت الملايين من أموال الشعب العراقي المنهوبة، و لم تقم لهم سرادقات عزاء في أنحاء الوطن العربي.. لم يختبئ الزعيمان يوما في حفرة، و لا يختلف اثنان على شجاعتهما الشخصية التي قد بلغت حد الحماقة أحيانا.. و رغم ذلك لم يبكهما أحد، بل لا يكاد يتذكرهما أحد، فأجيالنا بلا ذاكرة، فهذا لبنان شاهد قريب على شعب ينجر لإعادة سيناريو الحرب الأهلية رغم عدم تجاوزها آثار الحرب السابقة حتى اللحظة، فقد نسيت الأجيال و ها هي مستعدة لنحر بعضها البعض تحت شعارات وهمية و أصنام جديدة و انتصارات لم تحدث.

هذه التوطئة ليست تشفيا، فدائرة العنف جزء من تاريخنا القديم و الحديث، و جزء لا يتجزأ من ثقافات المنطقة الدينية و السياسية و الاجتماعية، فقد التهمت صداما كما التهمت من سبقوه، و ستلتهم من سيأتي بعده، و لا تزال مجزرة العائلة المالكة ماثلة للعيان، و حتى قبلها، يندر و أن سطّر تاريخنا القديم سيرة لملك مات حتف أنفه، فأكثرهم قد قتل.. فالقتل يجد دائما المزيد من التبرير في فكرنا المتهرئ، فهذا كافر، و ذاك مرتدlsquo; و ذلك عميل، بل و يكفي الاختلاف في الرأي عندنا ذريعة للقتل.

شخصيا، لم أكن لأؤيد إعدام صدام حسين أو أي أحد آخر في العالم كون الإعدام و زهق الحياة إراديا مبدأ يناهض حقوق الإنسان الأساسية، و لكنني لن أبكي عليه و على أمثاله، كما أنني من ناحية أخرى لم اقتنع بالإخراج الرديء للمحاكمة ككل. فربما كان من الأفضل أن يحضر صدام بقية جلسات الأنفال و غيرها، و أن يدافع عن نفسه أمام الملأ، و يعلم الجميع بأن جرائم كالأنفال لا يمكن الدفاع عنها.. و ربما كان السجن المؤبد خير نهاية لكل ذلك كإعلان لمرحلة يفترض أن تكون جديدة في تاريخ العراق، كما أن الفلم الذي تسرب عن عملية الإعدام أظهر هتافات ذات نفس معين، و هو ما قد يفسر الإعدام انتقاما سياسيا و ليس قرارا عدليا. و من ناحية أخرى، لم يقدم النظام المعمم الجديد بديلا يلبي أحلام أبناء العراق، فليس بإمكان التوليفة القائمة أن تقدم لهم الديمقراطية لأن فاقد الشيء لا يعطيه، و لا التنمية لأنها ببساطة لا تملك أدواتها و لا الرؤية اللازمة لإطلاقها، كما لا أتوقع لها أن تعمّر طويلا خصوصا بعد أن تتشظى الدولة إلى أقاليم هزيلة قابلة للالتهام. فالحماية الأميركية مقرونة بسياسيات بعيدة عن متناول الساسة العراقيين، و قد ترفع في أية لحظة، فليس منا من يعرف ما في أدراج مكتب جورج بوش أو خليفته، و إن كنا جميعا- و هي إحدى العادات العربية الرديئة- نتفلسف في السياسة و كأننا نحضر اجتماعات المكتب البيضاوي يوميا. و إذا كانت حكومة المالكي لا تنفك تنتقد المنادين بحكومة الإنقاذ الوطني، فلتكن هي حكومة الإنقاذ و تسرع قبل أن يسبق السيف العذل و لن يبقى من العراق ما يمكن إنقاذه.

خلال بضعة أشهر سينسى الناس صدام حسين كما فعلوا مع عبد الكريم قاسم و عبد السلام عارف و أحمد حسن البكر و عبد الناصر و السادات و بورقيبة و بومدين و الملك فيصل و إبراهيم ألحمدي و سالم ربيع علي و حتى حافظ الأسد و الملك حسين و ياسر عرفات و رفيق الحريري الذين رحلوا قريبا، و سيأتي آخرون و يقتلون و يقتلون (بضم الياء)، و سينساهم الجميع أيضا لأن قانون العدالة البدوية السائد و مبدأ القصاص- و هو جزء أساسي من العقيدة الدينية و الاجتماعية لشعوب المنطقة- لا يسمحان بغير ذلك. أما تهديدات البعث بزيادة العنف و حرق نصف العالم و غير ذلك من ترهات البلاغة البعثية المعروفة، فلا أعتقد بأن بالإمكان أعنف مما كان حتى هذه اللحظة. و قد كان الأحرى بالبعث بأن يعيد تقويم حساباته، ليس بعد إعدام صدام، و إنما بعد السقوط المدوي لنظامه في نيسان 2003 الذي أوصل العراق إلى ما نراه اليوم. فالزلزال الذي أصاب العراق نتيجة لمقدمات، و مقدمات البعث معروفة للجميع و لو كنت مكانهم لاعتذرت للشعب العراقي عن الماضي الدموي و ناديت بمشروع وطني ديمقراطي بدلا من ارتداء جبة بن لادن و المذهبية المقيتة و التشبث بما مضى، و حينئذ قد يجد الكثيرين حوله، خصوصا في ظل الإحباط القائم و التدهور الخدمي و الأمني، و لكن البعث، حاله حال النظام (أو اللانظام) القائم، لا يملك القدرة الفكرية للتغيير و لا تقديم شيء لا يملكه، فلم يفعلها و هو في السلطة و في عز جبروته، فكيف به و قد قذف خارجها.

لقد عجز العراق (و العرب عموما) رغم المعاناة الأسطورية التي مر بها عبر عقود من الزمان و حتى هذه اللحظة عن إفراز قوى مؤهلة لبناء المستقبل، فلم نسمع لا في عصر صدام ولا في عهود خلفائه عن التنمية البشرية و بناء الإنسان، و لم يبذل أحد جهدا في هذا الاتجاه، فالأوطان لا تبنيها النوايا و المدنيات الكبرى لم تنشأ من الأوهام و الخزعبلات و بطون الكتب الصفراء. لم يظهر في العراق بعد زلزال نيسان 2003 رجل مثل لودفج ايرهارد صانع المعجزة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية الذي انطلق بالاقتصاد الألماني في ظل أربعة احتلالات أجنبية.. فالبيئة الاجتماعية و الثقافية لا تسمح و لن تسمح كما أن البناء القيمي للمجتمع لا يؤهله لذلك كما يتجلى في رؤيتنا الاجتماعية لمفاهيم الوطن و النصر و الهزيمة و القوة و الضعف و الحرية، و غيرها من المفاهيم و القيم الاجتماعية الأساسية، ففي العالم طيف متنوع يقع ما بين الأبيض و الأسود اللذين لا نرى غيرهما، فلا زالت ثقافتنا أسيرة الثنائيات الفكرية و هو نتاج فكري للفلسفة الثنائية التي طبعت فكرنا منذ آلاف السنين متمثلة بالفلسفات الدينية أللأوسطية ذوات ثنائية الإله ndash; الشيطان و ما يتبعهما من تفسير صارم للخير و الشر، و هي، و إن أسهمت في بناء الحضارة البشرية في عصور ماضية، قد غدت معدومة الصلاحية في ضوء انطلاق العقل البشري إلى آفاق الإبداع الرحبة و التفكير المتعدد الأبعاد. وفي انعكاسها السياسي، و ببساطة، فإنك إن لم تفكر مثلي فأنت عدوي، و إن لم توافق على ثوابتي التي أفرضها عليك بجزمة العسكر أو عصا رجل الدين، فأنت عميل للأمريكان أو الصهاينة. و تنتقل هذه الثنائيات السياسية بين الإسلاميين و العلمانيين كل حسب أبجديته، و من السياسيين الى المثقفين، و منهم إلى رجل الشارع..

ترى الثنائية الفكرية العالم ببعدين فقط، و عندما تفكر بخط مستقيم فأن أية عقبة مهما تكن صغيرة على مسار الخط تعيقك عن رؤية ما خلفها حتى لو اتجهت يمينا أو يسارا، أما التفكير الثلاثي و المتعدد الأبعاد (أو التفكير بمنحنيات)، فيمّكنك من رؤية ما بعد العقبة بكثير، لأنك تنظر إليها من أعلى نقطة من المنحنى، فترى ما قبلها و ما بعدها و ربما ما بعد العقبة التي تليها.. و الانتقال من هذه الطريقة التي تلك ليس بالأمر الهين، فقد احتاج الغرب المتقدم إلى حركة اجتماعية و اقتصادية و سياسية جذرية دامت قرونا قبل أن يصل إليه، أما الصين و نمور آسيا، فالتفكير المتعدد الأبعاد جزء لا يتجزأ من بنائها الفكري و الديني و القيمي، و لذا لم يستغرقوا كثيرا في تحويل الفقر إلى وفرة و التخلف إلى نهضة مستمرة في جميع المجالات. و هنالك أفراد بالتأكيد في كل أرجاء هذا الوطن ممن تجاوزوا هذه الأمراض المزمنة، و لكنهم لم يتشكلوا كتيار حتى هذه اللحظة، لأن ثمن ذلك الفناء و الإقصاء.

قد تمثل نهاية صدام حسين كشخص قيمة رمزية كبيرة للبعض سلبا أو إيجابا، إلا أنه من غير المحتمل في ضوء الواقع الاجتماعي و الثقافي و السياسي أن يكون لها تبعات جدية على مسار الأحداث التي لا نملك أعنتها، و لا نمثل فيها أكثر من دور الكومبارس في أفضل الأحوال..
فنحن جميعا نتاج و ليس فعل.. فصدام لم يأت من الفضاء، و لا الجعفري و لا الحكيم و لا الصدر، فجميعهم نتاج هذا المجتمع الذي افرز من شاكلتهم الكثير، أما من غيرهم، الذين حلمنا طويلا بنهوضهم من تحت ركام المعاناة و قيادة العراق نحو الغد الأفضلlsquo; فلم يفرز منهم إلا الأقل من القليل.

سيعمل الإعلاميون الذين تقودهم صحفهم و فضائياتهم المؤدلجة مثل جمال القافلة حينا من الزمن على بث الأساطير حول صدام الملاك البطل المجاهد لفترة من الزمن، آملين في المزيد من التمزق للعراق و الموت لأبنائه، مدعمين بأمراض ثقافة المجتمع العربي الإسلامي الذي يرى العالم معسكرات حرب لنيل رضا الإله، و لا يمثل الإنسان هدفا من أهدافها.