مدخل : تعلمّوا يا زعماء العراق !
منذ بدء التاريخ في العراق وحتى هذه اللحظة التاريخية المعاصرة ونهايات زعامات العراق دراماتيكية تصلح أي واحدة منها لانتاج فلم سينمائي يكتظ لمشاهدته الناس في هذا العالم الرحيب ! بل وان تراجيدية كل واقعة معينة تمثل سيناريوهاتها قصة روائية تاريخية مهيّجة من نوع ما تروّع بها الناس بل وتقّزز مشاعرهم ! كنت تعبا راجعا قبل قليل برفقة احد اصدقائي من سفر طويل، وانا مغّيب عن بعض الاخبار واذا بي اسمع اغنية قديمة غناها الفنان العراقي يوسف عمر كما كان قد غنّاها وألفها ولحنها من قبله مؤسس الاغنية العراقية الحديثة وهو يناشد ذلك quot; الحر quot; ان يتقدّم اليه وينخاه في محنته بالبصرة التي تشكي من الالام أو ببغداد التي تشقى من الموت أو بالموصل وهي تبكي من المصير ! استعدت ذاكرتي القديمة وتحادثت مع صاحبي الاثير عن هياج الرأي العام العربي في هذه اللحظة التاريخية عن رحيل صدام حسين، فما ان وصلت بيتي حتى جلست اكتب لكم هذه المفارقة المقارنة عن نهايات زعماء العراق التاريخية، والتي أوّد من كل من سيتّولى شأن العراق وحكمه في الحاضر والمستقبل، ان يكون يتعّلم من التجربة وان يكون صبورا وحكيما وشجاعا بانتظار لحظاته النهائية.. اذ استعيد الان صور اللحظات الاخيرة لكل من حكم العراق منذ مئات السنين، وهي صور لا تسر الناظرين ولا تبهج العالمين ويا للاسف الشديد.
على كل من يحكم العراق ويتولى امره ان يقرأ نهايات من سبقه من الزعماء، فليس حكم العراق بالامر الهيّن أبدا، ومن يبقى طويلا في حكم العراق، لابد ان يجني ما يزرعه من خير او شرّ.. متمنيا على زعماء العراق القادمين ان يعوا الدرس تماما، اذ لا يمكن ان يكون دوما وابدا يصنع القرار لوحده ومن دون ان ينفتح على كل العراقيين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم ومنطلقاتهم ومذاهبهم، وحذار ان يصطف مع أي منها.. وحذار ان يفّرق بينها فالناس في العراق شتات لا يمكن التعايش معهم الا بالبقاء بعيدا عن اتجاهاتهم، فلا التوافق مع احدهم ولا التصادم مع جميعهم.. ولا يمكن ضبطهم الا بالقانون.. والناس مذاهب، فلا يمكن تمييز هذا على آخر.. والناس اجناس فلا يمكن تقديم أي واحد على الاخرين.. والناس اهواء، فلا يمكن ان تقسو عليهم وتبطش بهم.. وتراهم أمامك في حالة موحدّة وهم في الخفاء حالات مشتتّة، وتراهم معك وهم ضدّك.. تجدهم يصفقون لك ولكنهم يبصقون عليك.. انهم يؤلهونك وما ان تتهاوى حتى يسحقونك.. اتمنى من أي زعيم للعراق منذ هذه اللحظة التاريخية ان يقرأ نهايات من سبقه، وان يبقى وطنيا مسالما وحضاريا ونظيفا ويلتزم الدستور ولا يتشبث بالسلطة، فمن حسن حظه ان لا يبقى في السلطة حتى نهاياته..
نهايات متباينة تعّبر عن تناقضات متباينة
زعامات العراق على امتداد مائة سنة مضت لا تختلف ابدا عن نهايات زعامات سبقتها على امتداد مئات السنين.. وتلك quot; النهايات quot; ما هي الا تعبير حقيقي عن حالة مجتمع له خصوصياته في الحياة وله طبيعته المعينة في علاقته مع الدولة، والسلطة في مقدمتها. وحبذا لو تّربى العراقيون على ان quot; السلطة quot; كريهة ومهلكة، وعلى من يتولاها ان يتّحلى بصفات تؤهله لها ولابد ان يعي كيف يتصّرف مع الحياة العراقية. ان نهايات الزعامات العراقية تتلون بتلون تلك quot; الحياة quot; العراقية، بل وان تلك quot; النهايات quot; هي المعّبرة عن أي نوع من التدخلات الاقليمية في شؤون العراق، بل وانها نتيجة من نوع ما لما تكون عليه طبيعة علاقة أي زعيم عراقي راحل بمن يحيط العراق من جيران ! ناهيكم عن كون أي نهاية من نهايات أي زعامة عراقية تتباين في مخرجاتها التي تصنعها التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تحكم بنية المجتمع العراقي.. وهي بنية معقدّة وصعبة جدا منذ زمن غابر..
في الحقيقة التي ربما يجهلها غير العراقيين ان نهايات الزعماء في العراق حالات متشابهة ولكنها تختلف صورها والوانها واساليب وقائعها.. وهي من الوقائع التاريخية التي تعد جزءا اساسيا من اهتمام العراقيين منذ مئات السنين.. ان الذاكرة التاريخية العراقية تبقى مشحونة بالعاطفة دوما وهي تستعيد نهاية هذا او قفلة ذاك.. ذلك لان الذاكرة العراقية لم تكن متفقة في أي يوم من الايام حول أي واقعة تاريخية مضت، فكيف تتفق اصلا حول نهاية أي زعيم من الزعماء ؟ كل زعيم عراقي من زعماء العراق المعاصرين في القرن العشرين اختلف الناس في العراق حوله، وتصل درجة الخلاف في ما بينهم الى درجة القطيعة، بل اجد ان أي زعيم عراقي يرحل نحو السماء، فهو لا يرحل لوحده حسب، اذ لابد ان ترافقه جملة من الناس تذهب شخوصها مجرد ضحايا سواء من اجله في الدفاع عنه، او في الضد منه والهجوم عليه !
ان أي زعيم عراقي راحل تشكّل نهايته حدثا بارزا لا يشغل العراقيين وحدهم، بل ان بعضهم شغل الدنيا كلها، وفي داخل العراق.. وقائع موت متنوعة لزعماء يهتاج لها الناس او ينتظرها آخرون او تثأر منها قسمات من الناس او تحزن وتبكي عليها قسمات اخرى من الشعب او يتشفّى بها البعض الاخر ! وهذه طبيعة اجتماعية صعبة اعتقد انها متوارثة منذ مئات السنين نتيجة لما مر بالعراق من احداث تاريخية صعبة لا يمكن تصوّرها.. ولا يمكن ان يدركها غير الوعاة والدارسين العراقيين.
الذاكرة العراقية : منوال التاريخ
من يفكّر قليلا في استعادة تلك الوقائع ليقرنها واحدة بالاخرى ويقف عندها مليا، سيجد بأن الشناعة لا ترتكب مرة واحدة فقط ! ومن يفكّر بزعامة العراق وقيادته ينبغي ان يضع نصب عينيه نهايات من سبقه عبرة له ومثالا ليعرف كيف يتصرّف بشأن العراق ! ومن يحكم العراق عليه ان يشعر الشعب العراقي انه سيتقّبل نهايته كيفما كانت ! ان أي زعيم عراقي تقترب نهايته من المقصلة.. عليه ان يبقى شجاعا يتقّبلها كونه يدرك انه ليس افضل شأنا ممن سبقه في حكم العراق ! وان نهاية أي زعيم عراقي سوف لن تكون نهاية للعراق او نهاية للعالم كما يتصور الجهلاء.. ومهما جرى للعراق من كوارث، فانه قادر على ان يستعيد انفاسه سواء على يد ملك رحيم او قائد زعيم او طاغية (عظيم) ! من يقرأ تاريخ العراق بكل جوارحه سيرى ان احداثا ووقائع خطيرة بدأت أو اختتمت بنهاية أي زعيم عراقي لا تراعى في ذلك لا اشهر حرم ولا ايام اعياد ولا ساعات صيام شهر فضيل.. وعليه، فان الانسان قد يهتاج لهكذا فعل او ذلك امر، ولكن اعتاد العراقيون ان لا يضعوا في ذاكرتهم اية اهتمامات كهذه على امتداد تاريخهم، ولكن ليكن معلوما بأن العراقيين ليسوا كفارا في سيناريوهات كهذه او تلك، اذ لو رجع العرب الى تاريخهم الطويل، لوجدوا جملة من البشاعات اقسى وأمّر قد حدثت في ازمان مقدّسة او اماكن مقدّسة ! فالعراقيون غير مسؤولين عن احداث ووقائع يصنعها الاخرون لهم.
الزعماء الملكيون والقادة القوميون والمناضلون الشيوعيون
أسس العراقيون مملكتهم في العام 1921 بظل وخطط البريطانيين من دون سفك دماء، ولكن بعد نشوب ثورة عارمة اجتاحت العراق.. ولقد نجحوا تماما اذ حققوا كيانا سياسيا جديدا بزعامة فيصل الاول الذي انتهى ميتا على فراش سريره في مدينة برن بسويسرا عام 1933، ولكن قيل في ما بعد انه مات مسموما بزرقة ابرة..، فبكاه الناس من العراقيين والعرب بكاء مرا، وهاجت الدنيا لمصرعه واقيمت التأبينات ونظمت القصائد وبكت النساء.. ولكن بعد مضي سنوات نسيت نهايته ! وفي العام 1936، سقط أحد ابرز رجالات العراق الفريق اركان حرب جعفر العسكري، وكان واحدا من قادة جيوش الدولة العثمانية وزميلا لمصطفى كمال اتاتورك.. مات جعفر باشا مقتولا برصاص ضباط جيشه العراقيين انفسهم، وهو الذي يعدّ المؤسس الحقيقي له، وذلك اثر انقلاب الفريق بكر صدقي.. وبعد مضي ايام، قتل هذا الاخير برفقة قائد القوة الجوية محمد علي جواد في حدائق قاعدة مطار الموصل العسكرية ومن قبل احد مراتب الجيش العراقي ! وكان الحدث مؤلما ايضا بالنسبة للمجتمع العراقي، ومضت شهور حتى نسي الناس ما حدث..
وبعد اقل من سنة كان مصرع الملك غازي الاول في العام 1937 بحادث سيّارة، قيل انه مدّبر من هذا الطرف او ذاك.. ولم يعرف الناس حتى اليوم سر موت غازي مهما كثرت التقولات ! وبكى الناس في كل مكان على غازي ولطمت النساء واهتاج العراقيون واقيمت سرادقات العزاء العربية وكتبت المراثي ومضت الايام لينسى الناس ذكرى غازي ! وفي العام 1941، تفشل حركة رشيد عالي الكيلاني الشهيرة والتي اتسّمت بطابعها القومي وكانت ولم تزل مثار اهتمام تاريخي لا ينضب بين من يؤيدها من القوميين ويجعلها مدرسة انطلقت من تداعياتها ثورة 23 يوليو بمصر ـ كما ذكر انور السادات في مذكراته ـ وبين من يصفها بأنها نتاج تأثير النازية بحكم ارتباطات بعض رموزها بادولف هتلر.. ولكن كان من نتائجها المحزنة ان شنق العقداء الاربعة الذين قاموا بها على اعواد المشانق وهم : صلاح الدين الصبّاغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب وخامسهم المحامي يونس السبعاوي.. وانشغل العراقيون بهذا الحدث المأساوي واهتاجت (الامة العربية) لمصرع الشهداء القوميين العراقيين، وكيلت لزعماء العراق الحاكمين شتى التهم وكتبت ضدهم مئات المقالات واعتبر ذلك بالنسبة للقوميين في العراق ثورة حقيقية ستولد عنها ثورة قادمة، بل وبدأ خصوم النظام يستخدمون ذلك quot; الحدث quot; في الثورة..
وبنفس الوقت، استخدم الشيوعيون العراقيون اعدام زعيمهم مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد ورفاقه حجة تاريخية في الوقوف ضد حكام العراق وقت ذاك متمثلا ذلك بالضد من الامير عبد الاله (وكان وصيّا على العرش) وضد رئيس وزراء العراق المخضرم نوري باشا السعيد.. واذا كانت ذكرى شنق العقداء الاربعة وصاحبهم المدني قد ترسّخت في ضمائر القوميين لمرحلة تاريخية طويلة، فأن ذكرى شنق مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي قد ترسّخت في ضمائر الشيوعيين لمرحلة تاريخية أطول، اذ لم تزل حية لدى أي شيوعي عراقي.. ومن الفوارق، ان العرب لم يذكروا من الشهداء الا العقداء الاربعة الذين اطلق عليهم بـ quot; المربّع الذهبي quot;، من دون أي ذكر لنهايات الآخرين من العراقيين !
نهايات تراجيدية ومأساوية لا معنى لها
في فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958، استيقظ العراقيون والعالم كله على اخطر حدث تاريخي غّير مسار العراق والمنطقة كلها نحو طريق آخر، اذ قام انقلاب عسكري اطاح بالنظام الملكي واعقبته مباشرة ثورة جماهيرية صاخبة سجلت فيه نهايات حكام العراق.. ذهب ضحية ذلك الحدث على مدى يومين كل اعضاء الاسرة المالكة وعلى رأسها الملك فيصل الثاني وخاله وولي عهده الامير عبد الاله وقتل رئيس وزراء العراق الشهير نوري السعيد وغيره، وكانت نهاية مؤلمة اشمئز منها العالم كله، اذ سحلت جثة عبد الاله في شوارع بغداد وقطعت اوصالها شر تقطيع.. وهكذا جرى لنوري السعيد اذ سحلت جثته ومثّل بها وديست عظامها بالسيارات المارة ! ولم تجد كل من الجثتين لهما قبرا ! انقسم الناس ازاء الحدث، اذ انني اعتقد ان هناك من بكى فيصل الثاني الملك الشاب الذي لم يكمل الثلاثة والعشرين ربيعا.. بل ويقال ان هناك من بكى عبد الاله ونوري من العشائر والعوائل العراقية القديمة.. ولكن الناس في عمومهم غلب عليهم الفرح وابتهجوا وتشّفى آخرون ورقص الراقصون وغنّى المغنون وراحت اذاعة صوت العرب تتشفّى بتعليقات جارحة وكتبت مجلة (آخر ساعة) ابتهاجات العرب، بل ووصل مستوى التشّفى حتى لدى زعماء عرب في خطابات جماهيرية وبما حدث لزعماء العراق القدماء ! لقد كانت نهاية تاريخية مفجعة ما كان لها ان تكون بحق زعماء مهما كانت اخطاؤهم جسيمة، الا ان قدرهم كزعماء عراقيين اكبر من ان يجلسوا في قفص اتهام كي يحاكموا على ما اقترفوه بحق العراق ! ولكن تأملوا بنهايات الزعماء العراقيين.. ومن سوء حظ العراقيين انهم ينقسمون ازاء هكذا نهايات ويفتحوا الباب امام غيرهم ليتدخل في شؤونهم !
الاعدام : شنقا حتى الموت ورميا بالرصاص
في العام 1959، صعد المشنقة رجل عراقي قوي الشخصية والارادة، وهو كردي، كان يشغل منصب وزير داخلية النظام الملكي عند سقوطه، اذ اتهم باتهامات اطلاق النار على المتظاهرين وبممارسات قام بها جراء منصبه.. صعد المشنقة وهو يردد : سأصعد الى المشنقة وأرى تحت اقدامي اناس لا تستحق الحياة ! وشنق معه بعض المسؤولين المدنيين في سجن بغداد المركزي من دون ان يذكرهم احد، واعدم ايضا رميا بالرصاص العديد من الضباط العسكريين العراقيين الذين حوكموا بتهمة الخيانة العظمى لقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، وذلك في ساحة ام الطبول.. وفي الوقت الذي حزن البعض على المشنوقين والمعدومين.. كان البعض الاخر يفرح ويتشفّى على نهاياتهم.. وارجو ان لا ينسى كل العراقيين اليوم من كان يحّرض على القتل.. من كان يهتف بشعارات مرعبة تستخدم فيها الحبال.. من كان يحّرض على الشنق.. صدى احمد سعيد يلعلع في اذاعة صوت العرب يلعن المشنوقين من الخونة الملكيين ويجعل الضباط القوميين من الشهداء الابرار والصديقين..
والعراقيون كانوا وما زالوا منشغلين بانقساماتهم السياسية، بل وباحداث القتل والسحل لهذا او ذاك من العراقيين في هذه المدينة او تلك، في العاصمة بغداد التي كانت ولما تزل منقسمة على نفسها بين احياء قومية واحياء شيوعية ! واتمنى على من كان يطلق شعار (اعدم.. لا تكول ما عندي وكت.. اعدمهم الليلة) و (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) ان يقدم اعتذاره للتاريخ.. ولا انسى وانا يافع في صباي كنت اختلس بعض الزمن لاقرأ في كتاب عنوانه (نضال وحبال) قام بتأليفه احد الاساتذة الجامعيين العراقيين واسمه شاكر مصطفى سليم.. وفيه اوصاف مؤلمة لا يمكن تصديقها لما كان قد حدث في العراق من مجازر بحق الانسان ! واليوم احاول ان اخلص الى نتيجة مؤرخ منصف بالقول ان الانقسامات السياسية العراقية التي مبعثها تشظيات اجتماعية جد متنافرة وايضا التحريض الاعلامي والسياسي من اطراف عربية.. كان يؤجج مشاعر العراقيين وعواطفهم الى الدرجة التي يصبحون يتناسون فيها اية ضرورات وطنية هي اكبر كثيرا من شعارات لا تتحقق.. كلها كانت وراء تلك الاحترابات والمشانق والقتل.. ولا ننسى ان الزعيم قاسم نفسه قد تعّرض للقتل في قلب بغداد بشارع الرشيد ومن قبل شباب بعثيين كان احدهم يسمى بـ صدام حسين التكريتي !
تلفزيون بغداد يعرض مشهد مصرع الزعيم قاسم
في صباح 8 شباط / فبراير 1963، قصفت وزارة الدفاع بالطائرات في قلب بغداد، ودارت معركة انهت نظام عبد الكريم قاسم اثر انقلاب قام به البعثيون، وفي اليوم الثاني سّلم الرجل نفسه لخصومه البعثيين بعد ان دافع دفاعا مستميتا واقتيد الى دار الاذاعة ليواجه اعدائه من الانقلابيين، وليعدم هناك بسرعة رفقة ثلاثة من اخلص معاونيه في واحد من استديوهات الاذاعة وكان صائما.. لقد اعدم في الوقت الذي كانت تجري مذابح في احياء من بغداد بين الشيوعيين والبعثيين، ولم يتوّرع القادة الجدد ان يعرضوا على شاشة التلفزيون العراقي مشاهد من مصرع الزعيم قاسم، وجندي يمسك خصلة شعره ويرفع رأسه ويبصق بوجهه على مرأى ملايين العراقيين وفي شهر رمضان، اذ لم يكن هناك أي اعتبار او حرمة لا لكونه زعيم بلاد هزم في معركته، بل احتراما لرتبته العسكرية.. مع حدوث مجازر بحق كل من الشيوعيين والقاسميين، وحفلات تعذيب مرعبة بحق قياديين ومسؤولين.
كان المجتمع قد زاد انقسامه ايضا بين اناس بكت الزعيم بكاء مريرا ولم تزل تحمل اجمل ذكرى عنه، واناس رقصت مع اغاني التلفزيون المبتهجة بـ (موت الزعيم الهمشري) ـ كذا ـ، وكنت صبيا لا افقه معنى تلك الكلمة التي تثير التقزز ! كنت اسمع اذاعة صوت العرب وهي تتشفّى بنهاية زعيم العراق الذي اسمته بقاسم العراق !!.. ومثلما سمعنا السيدة ام كلثوم تغني مباركة 14 تموز / يوليو 1958 (بغداد يا قلعة الاسود).. غنّت مباركة 8 شباط / فبراير 1963 (ثوار ثوار لآخر مدى) !! السؤال : ان الكل يفرح ويغّرد في الشوارع والساحات مع اناس تبكي خفية بين جدران بيوتاتها.. ولا احد يسأل سؤالا واحدا : لماذا يقتل زعماء العراق ويهانوا بطريقة لا يقبلها أي عقل.. ؟؟ وأسأل سؤالا مهما ايضا : لماذا يفرح العرب لمصرع زعماء عراقيين ولماذا يحزنوا على زعماء آخرين ؟ لماذا حزنوا على موت فيصل الاول ولماذا فرحوا بموت فيصل الثاني ؟ لماذا فرحوا باعدام عبد الكريم قاسم ولماذا حزنوا على شنق صدام حسين ؟ ما سر هذا التناقض الذي يميّز بين هذا او ذاك وكل من هذا وذاك له نهاية واحدة هي الموت بابشع الوسائل ! وبين هذا وذاك لماذا لم تقم الدنيا وتقعد بتقطيع اجساد زعماء عراقيين ؟ لماذا لا احد يذكر كيف مات عبد السلام عارف او احمد حسن البكر؟
القيادات العارفية : نهايات بشعة
في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، لم تسفك دماء البعثيين على يد المشير الركن عبد السلام عارف الذي انقلب عليهم بعد ان شاركهم انقلابهم ضد قاسم.. وكانوا وراء تنصيبه رئيسا للجمهورية العراقية ولأول مرة بلا اية انتخابات تشريعية، ولكنه عفا عنهم بانقلابه.. ويقال ان الرجل لم يعدم احدا اعداما سياسيا طوال حكمه.. ولكن نهايته مفجعة ايضا، اذ احترق بطائرة الهيلوكبتر اثر حادث لم يزل غامضا في كل تفاصيله الدقيقة، وتشير اصابع الاتهام لاكثر من طرف كانت له مصلحة في وضع نهاية له.. ولقد شاهدت بنفسي شباب العراق من طلبة وطالبات جامعة بغداد وقد اصطفوا يودعونه وهم يبكون نهايته.. اذ كانت نهاية تراجيدية وكالعادة كان هناك من صفق لمصرعه وراح يعدّ العدة للاستيلاء على السلطة من هذا الطرف او ذاك.. ولقد تواصل عهده بعهد اخيه الذي اختير من بعده رئيسا، ولأول مرة يرث الاخ حكم الاخ في العراق الجمهوري ! وبالرغم من حدوث اكثر من محاولة انقلاب الا ان العارفين الاثنين لم يعدما من تآمر علي حكمهما ! واذا كانت نهاية حكم عبد الرحمن عارف سليمة اذ لم يقتل بل نفي الى تركيا على يد الانقلابيين البعثيين في 17 تموز / يوليو 1968 (وهو الوحيد الذي لم يزل على قيد الحياة من زعماء العراق السابقين متّعه الله بالصحة والعافية)، الا ان اركان الحكم العارفي قد نالتهم التصفيات البشعة اذ قتل كل من حردان التكريتي غيلة، وعّذب الدكتور عبد الرحمن البزاز، وسلخ جلد شامل السامرائي، واحرق بطيئا عبد العزيز العقيلي واغتيل عبد الرزاق النايف وقطعّت اعضاء رشيد مصلح التكريتي، وعّذب طاهر يحي التكريتي.. وفعل بالعشرات من غيرهم من دون ان يذكرهم أحد.
قافلة الموت الزؤام
كانت نهاية الرئيس احمد حسن البكر غامضة هي الاخرى بعد مقتل ولديه ايضا، وشهد عهد الرجل مقتل ومصرع عدد كبير من العراقيين الذين اتهموا بتهم شتى كالجواسيس والعملاء والخونة والمتآمرين وهناك من المسؤولين السياسيين في الخارج والداخل ومنهم ناصر الحاني وعبد الكريم الشيخلي وغيرهما في قصر النهاية او في احداث محاولات انقلابية مثل مقتل حماد شهاب وزير الدفاع ومصرع ناظم كزار (الذي قتل ببشاعة بنفخ جسمه وهو حي) وكان مدير الامن العام وله تاريخ سيئ جدا.. وصولا الى اعتلاء النائب صدام حسين سدة الرئاسة عام 1979، وافتتح عهده بمصرع الذين اتهمهم بالتآمر على الحزب والثورة من ابرز القياديين العراقيين، واشهرهم : عبد الخالق السامرائي وعدنان حسين ومحمد عايش وغانم عبد الجليل وعبد الحسين مشهدي وغيرهم.. وسجل عهده نهايات لعدد من ابرز المسؤولين، مثل : مرتضى سعيد عبد الباقي ورياض حسين وفاضل البراك وصولا الى عدنان خير الله وحسين كامل وأخيه..
واخيرا، انتهى صدام حسين نفسه بعد ان سقط نظامه من قبل جيوش الاحتلال في 9 نيسان / ابريل 2003.. وقبض عليه بعد اشهر، وحوكم على امتداد السنة الماضية، ونفذ فيه حكم الاعدام شنقا حتى الموت قبل ايام.. لتّشكل نهايته ضجة كبرى اذ انه شنق فجر يوم عيد الاضحى المبارك وجرى في لحظة اعدامه التلفظ بالفاظ لا تليق بتلك اللحظة التاريخية.. ومثلما انقسم العراقيون عند نهايات من سبقه من الزعماء، فلقد انقسموا اليوم ازاء نهايته التي فاجأت الكثيرين..
واذا كان الاخوة العرب قد فرحوا ورقصوا لدى سماعهم اعدام عبد الكريم قاسم في 15 رمضان (9 فبراير 1963) من اذاعة صوت العرب، فانهم بكوا صدام حسين في اول ايام عيد الاضحى المبارك ومن فضائيات عربية.. انهم يسجلون استعراضا اعلاميا من دون ان يدرك كل من العراقيين والعرب مغزى هكذا نهايات ! ولماذا ينتهي زعماء العراق واغلب قيادييه ومسؤوليه نهايات مقرفة تقع دوما بين الشماتة وبين التقدير ؟؟ وهل يتعظ من تاريخ تلك النهايات الصعبة كل من سيحكم العراق لاحقا ؟ هل يفهمون المعنى التاريخي لنهايات تاريخية كتلك التي سجلها عبد الكريم قاسم وهو يتلقى الرصاص رافضا ان يعصب عيونه او تلك التي سجلها صدام حسين وهو يهوي معلقا بحبل المشنقة رافضا وضع أي كيس يغطي به رأسه ؟؟
واخيرا : متى ستكون نهايات زعماء العراق مسالمة ؟
ان التاريخ مدرسة رائعة لمن يدرك معاني الاحداث والوقائع ويتعلم منها.. ان تاريخ العراق لابد ان يدركه كل العراقيين، ويغّيروا ما بأنفسهم ويؤمنوا بالحياة المدنية، ويتخلصوا من انقساماتهم، فالوطن لابد ان يتقّدم على كل الانتماءات.. على العراقيين ان يتوحدّوا بدل انقساماتهم التي تصنع زعماء لا يعرفون الرحمة فالزعماء لا تقوى على البطش الا عندما تجد بيئة مساعدة على البطش والتنكيل.. كنت اشارك احد اصدقائي العراقيين قبل سقوط العراق وقبل انهيار نظام حكم صدام حسين ان تبدأ صفحة جديدة يتوّحد فيها العراقيون من اجل تحقيق اهدافهم الاساسية بتحرر العراق وبنائه من جديد على اسس وركائز قوية بعيدا عن الكراهية والاحقاد والتشظي..
كنت اتمنى على الرئيس السابق صدام حسين منذ ذلك الوقت وحتى المقال الذي نشرته قبل اعدامه بايام ان يقف ويتكّلم عن كل ما عنده، وان يبوح بكل أسراره من اجل مستقبل العراق.. لا ان يأخذها معه الى حيث اللا عودة.. وان يضحّي من اجل الشعب العراقي وتمنيت وانا ارى لحظات اعدامه ان لا يكون ذلك في فجر اول ايام عيد الاضحى المبارك وان لا تصدر اية تعليقات او اطلاق أية شعارات في لحظات شنقه.. اذ لا يفترق المشهد بين حفل زعيم عراقي قتل بالرصاص وخصومه تنظر اليه لتشفي غليلها وبين حفل زعيم عراقي اعدم شنقا بعد أكثر من اربعين سنة وخصومه تنظر اليه لتشفي غليلها.. فما الذي كان ؟ وما الذي سيكون ؟ كنت اتمنى ان لا يغدو هذا الحدث مؤججا للمشاعر. انها واحدة من نهايات كانت وستبقى لزعماء العراق، وقد تنوعت الاسباب والموت واحد.
التعليقات