الوعي التاريخي وإشكالية تأويل النص :
يصعب على الوظيفة النقدية التي أنجزتها العلوم الانسانية أن تجد لها طريقًا واضحًا في المواضيع المتعلقة بالفلسفة او الدين، لأن الباحث في تلك الميادين تعود إليه مسؤولية منح اللغة ما تقوم به الوظيفة النقدية هذه، عندما تدعو الفكر إلى التأمل والتفكير في قضاياه.
ويُشَكّل التأويل محورًا مهمًّا في فهم الخطاب، فالتأويل ينطبق ليس فقط على التراث الشفهي وحسب وإنما على ذاك المخزون الهائل الذي وصل إلينا عبر التاريخ بأكمله.
ومن منطلق دراسة التراث التأويلي المتعلق بمفهوم quot;الإنسان quot; في سياق الفكر الإسلامي كان السؤال المحوري هو : ماهو الشيئ الذي يُعطي المشروعية في تأويل quot;الخطاب quot; سواء كان هذا الخطاب quot;مقدسًا quot; أم لا، ولماذا هو حكرًا على أشخاص معيَّنين دون غيرهم بدعوى أنهم يمثلون كلّ quot;الإسلام quot; وأهله، ومن هو الذي أعطى للفقيه او المفسر ولاية؟؟؟
ولعل الوعي التاريخي هو الذي يميز الانسان الباحث اليوم لأنه يمتلك وعيًا بتاريخية كلّ حاضر وبنسبية كلّ الآراء، الأمر الذي يجعلنا نرفض متابعة التراث بصورة ساذجة، أو الإستسلام إلى حقائق quot;عريقة quot; اتفق عليها اناس معيَّنون في وقت من الأوقات، ثم قُدّمت إلينا على شكل مسلّمات غير قابلة للنقد، ومازال العديد من quot;رجال الدين quot; حتى اليوم يرفعون شعار الوقوف عند اجتهادات علماء القرن الرابع الهجري، كما أن بعض المفاهيم تخضع لتحديدات جازمة في شتى مجالات الفكر لا سيما الإسلامي منه، في حين أن الوعي الحديث بصفته quot;وعي تاريخي quot; يتطلب منا أن نتخذ موقفا تفكيريًّا نقديًّا بالنسبة الى كل ما يسلّم له عبر التراث.
وإذا ما وقفنا عند مفهوم quot;الإنسانquot; في سياق الفكر الإسلامي، الذي تشكَّلت من خلاله الممارسات بشكل عام عند الانسان العربي فيما بعد، نجد أنّ الإنسان الذي احتفت به نصوص القرآن والسنّة قد خضع لتحديدات شتى في مجال الفكر، الأمر الذي أدّى إلى غياب الإنسان بمفهوم quot;الكائن المجتمعي quot;، وأنّ جلّ التحليلات المنصبّة على الخطاب الاسلامي في بعده الإنساني تشكلت من خلال طرائق فهم المسلمين للخطاب الإلهي، وهذه التأويلات للنصوص جاءت محصلة للتفاعل هذا quot;الخطاب quot; الإلهي مع الواقع التاريخي والاجتماعي وعكست quot;التوتر المستمر quot;بين المثالي والواقعي.
ويمكن أن نلتمس في إطار الفكر الإسلامي الكلاسيكي الصياغات التي تشكلت حول مفهوم quot;الإنسان quot; من خلال مجموعَةٍ من العلوم أبرزها : الفقه، علم الكلام، الفلسفة، التصوّف، أما في سياقات العصر الحديث التي تشكلت منذ اوائل القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا فقد كان لمفكري حركات الإسلام السياسي المعاصر الأثر العميق في تقديم الصورة حول مفهوم quot;الانسان quot; التي انبثقت من خلال الأطروحات الفكرية المرتبطة بسياق المشروع السياسي.
الإنسان عند الفقهاء:
فإننا نجد أن الفقهاء جعلوا من الإنسان ذاك quot;المكلّف quot;، المطيع للأوامر المجتنب للنواهي،وهو في الفقه القانوني موضوع الواجب quot; الفرائض quot; والممنوع quot; المحرمات quot;، وإذا كانت القوانين الفقهية تستمد مرجعيتها من النص التشريعي، إذن من يفرض القانون هو إرادة تعلو على إرادات، وقد عمد بعض الفقهاء من فقهاء السلاطين عبر العصور الى تفسير هذه النصوص والتي تبدو إلزامية فيما بعد بحق شرائح المجتمع الأخرى،ووضع الأطر التي من شأنها أن تؤسس وتسمح لquot;ولاة الأمور quot; بممارسة شتى أنواع الطغيان على الرعية التي من شأنها أن تقدم فروض الطاعة والولاء، لذلك فقد تكونت طبقة من quot; ولاة الأمور quot; تمثل إرادة القوى المجتمعية المسيطرة التي تمتلك أدوات الهيمنة والتي تبدأ من ملكية وسائل وادوات الانتاج مرورًا بإنتاج الايديولوجيا، معتمدة على القانون كأداة للسيطرة والامساك في بزمام الحكم وتيسيير شؤون البشر.
إذن فطبيعة الحال هذه تجعل من الأطر القانونية الخاصة بالانسان هذا ساحة quot;الطاعةquot;، وهذا أدى مع مرور الوقت الى خلط الديني بالاجتماعي كما أدّى إلى التمييز بين الأفراد بسبب الدين.
الإنسان عند المعتزلة :
تُعدّ حرية الإرادة الإنسانية المبدأ الجوهري الذي يؤسس للنسق الفكري عند المعتزلة، لذلك فقد كان لمفهوم quot;العقل quot; عندهم معيارًا موضوعيًّا لتحديد قيمة الإنسان إجتماعيّا ودينيًّا، فقد حاول المعتزلة التركيز على quot;الإنسان quot;المفكّر quot; بهدف محاربة العنصرية، وقد شكلّ المعتزلة في زمانهم موقفًا حداثيًّا إجتماعيًّا، أدّى بهم إلى التأكيد على حريّة الإرادة عند الإنسان واعتبروها البرهان على وجود الخالق ودليلا على العدالة الإلهية.
غير أن إعلاء شأن العقل البشري معرفيًّا لا يعني في نظر المعتزلة الإعلاء المطلق من شأن الإنسان في سلم الكائنات المفكرة، فالناس لا يتفاضلون فيما بينهم إلا بالقدرة على استثمار قوة quot;العقل الضروري quot; للوصول الى مرحلة quot;العقل النظري quot;، الذي من خلاله يصل الانسان الى معرفة الخالق وتوحيده، وبما أن الملائكة من وجهة نظر المعتزلة يتمتعون بالمعرفة الالهية وهبًا فهم أعلى مرتبة من الانسان.
وهذا أدى الى ان المعتزلة انصبت أحكامهم على الانسان بصفته الاجتماعية لانه القادر على المخالفات و معصية الاوامر الالهيةوهو الكائن الوحيد الذي خُلق حرًّا غير مُجبرًا، فحتى الانبياء من وجهة نظرهم ليسوا معصومين عن الخطأ إنما هم معصومون عن ارتكاب الكبائر لا غير.
إن تركيز المعتزلة هذا على الجانب quot;المعرفي العقلي quot;للانسان لمحاربة العنصرية، أدى بهم إلى وضعه في مرتبة ادنى من الملائكة الامر الذي طرح اشكالية محورية في الفكر الاسلامي الفلسفي فيما بعد.
الإنسان عند الفلاسفة :
تُعد المعرفة السبيل الوحيد لبلوغ الماهيّات عند الفلاسفة سواء عند الفلاسفة العقليون منهم كإبن رشد والكندي أو عند الإشراقيون منهم مثل إبن سينا. فالعرفان هو الطريق إلى إدراك الغايات والماهيّات من خلال التأمل الباطني العقلي عبر quot;العقل الأول quot;، سواء كان هذا العقل إستدلالي عند العقلانيين، ام كان quot; الخيال quot; كطريق للصفاء عند الإشراقيين من الفلاسفة، وسواء كانت المعرفة quot;وهبية quot; هبة من الخالق ام كانت quot;كسبيةquot; اي اكتسبت بالتعلم والاستدلال. ومصدر هذه المعرفة عقل كبير اطلق عليه الفلاسفة اسم quot;العقل الاول الفعّال quot; فهو اوّلا لانه اول الابداعات والفيوضات الالهية التي ظهرت في الوجود عن الله كما انه فعَّالاً بوصفة علّة لكل ما يحدث في العالم.
ويتصل الانسان بالعقل الفعال الاول هذا عبر quot;الاستدلال quot; عند فلاسفة العقل و بquot;الخيال quot; في ارقى مستويات الصفاء عند فلاسفة الاشراق، وكل ذلك بهدف استمداد المعرفة الكاملة.
إذن الإنسان عند الفلاسفة أشبه ما يكون بنبي مرسل وليس ذاك الانسان العادي الاجتماعي، فبالرغم من اختلاف ابن رشد والغزالي العميق والجذري بين فكريهما، ألا أننا نجد أنهما اتفقا على تقسيم البشر الى نُخب quot; الخاصّة quot; وعامّة quot;العوام quot;،وهكذا فإن قيمة الانسان عند الفلاسفة تتحدد طبقًا لمستويات الوعي المعرفي، وبناء عليه فإن على quot;العوام quot; الاقل معرفة أن يقوموا بتقليد quot;الخواصquot;الاكثر معرفة، والتي وصلوا اليها اما عبر quot;الاستدلال والبرهان quot; ام عن طريق quot;الالهام والخيال quot;.
هذا الامر ادى مع الوقت الى تكريس التقسيم الاجتماعي للبشر كما ادى إلى تزايد تأثير قوة quot;المثقف النخبوي quot; والسلطات السياسية، وهذا التنامي في قوة العقل بين quot;الثقافيquot; و quot;السياسيquot; أوصل الى اضفاء السلطة على المعرفة، فاحتل quot;العارفquot; سلطة في الواقع المجتمعي الى جانب السلطات الاخرى كسلطة quot;الشوكة quot; السلطة العسكرية، و سلطة quot;المال quot;.
الإنسان عند المتصوّفة :
لعل محيي الدين ابن عربي الأندلسي أحد ابرز المتصوفة الذين استطاعوا ان يبلوروا ممارستهم عبر منظومة فكرية واضحة، فقد صاغ نظرية حول الانسان عبر أطروحته quot;الإنسان الكامل quot; التي تتفق مع رؤية شريحة كبيرة من المتصوفة، حيث يشكل الإنسان quot;التجلّي الأكمل quot; والأشمل من حيث الطبيعي والإلهي خصوصًا على المستوى الوجودي، وذلك من خلال انعكاس او ظهور الأسماء الإلهية والحقائق الكونية في صورة الانسان الامر الذي يجعل من البشر العنصر الوحيد القادر على التوصّل إلى quot;العرفان quot; المعرفة الكاملة الشاملة، فالانسان عند ابن عربي محور مهم بحكم تمييز طبيعته،فالانسان في الفكر الاسلامي الصوفي هو الانسان quot;العارف quot;المتحقق بالمعارف الالهية التامّة الكاملة، وهذا الانسان هو معيار الحقائق وميزانها لأنه هو quot;الكمال quot;.
ويعد آدم التجلي الأكمل على المستوى على الوجودي بسبب ظهور الاسماء الالهية والحقائق الكونية في صورته، الامر الذي يقرر أفضلية الانسان على الملائكة خصوصًا وان الانسان هو الوحيد القادر على التوصل الى العرفان الكامل.
فالانسان في الفكر الصوفي هو quot;العارفquot; المتحقق بالمعارف الالهية التامة الكاملة بنفسه وبالوجود و بالالوهة وهو معيار الحقائق لانه هو الكمال.
في هذا النسق الصوفي العرفاني لا مكان للانسان غير العارف او العادي، ويبقى غير العارف في رتبة quot;العوام quot;.
خلاصة :
إنّ الفكر الإسلامي الكلاسيكي بمجمله لا يختلف في هذه الجزئية عن الفكر الوسيط المنبني على على تقسيم البشر الى طبقات quot;خواص quot; و quot;عوام quot;،لقد غاب الإنسان الإجتماعي غير المطيع او الجاهل عن الفكر الاسلامي الأمر الذي أدّى إلى نفي المسلم وغير المسلم على حدٍّ سواء، كما ادى ذلك الى جعل quot;الطاعة quot; المعيار الوحيد للانسان.
كما حاول الحكام خلال الدول الاسلامية المتعاقبة الى استثمار العلماء والفقهاء للسيطرة عل quot;العامةquot; من خلال quot;الخداع الايديولوجيquot; وجعل المنطق quot;الجبري quot; تبريرا للممارسات القمعية، اما من لم يستجب من العلماء لأوامر السلطان فقد دفع ثمن رفضه وحرصه على استقلاله تعذيبًا وسجنًا.
لقد تحوّل الفكر الاسلامي تدريجيا مع مرور الزمن من موقع quot;الفاعلquot; في صناعة الواقع وصياغته وترشيده ونقده إلى موقع quot;المبرر quot; لهذا الواقع و المدافع عنه وذلك عبر إضفاء مشروعية لاهوتية له وغطاء أيديولوجي عليه.
فحين ينتقل النص من طوباويته ومثاليته الى المجال الفكري تتدخل الانحيازات الفكرية والتعصبات المذهبية فيُمارس الاقصاء والاستبعاد، وحين يمارس الفكر على ارض الواقع المجتمعي فإنّ حدة الاستبعاد تزيد لأسباب سياسية تتخفى وراء مبررات دينية.
التعليقات