بكائيات العربان في سيد الطغيان 2

كتب الصديق الدكتور شاكر النابلسي يوم الثلاثاء الموافق الثاني من يناير الحالي مقالة بعنوان (الأردنيون وذهب رغد)، حول مواقف فئات من الشعبين الأردني والفلسطيني من إعدام الطاغية صدام، وبحكم معرفتي الشخصية به وكوننا معا نصنف من الكتاب الليبراليين (كتاب المارينز بالعربي الفصيح)، فأعتبر نفسي ممن يملكون الحق أن يعقبوا على المقالة عبر اعتراضات و تفاصيل حول ما ورد فيها.

أولا: الاعتراضات
أنا شخصيا لا أوافق صديقي العزيز على طريقة التعميم التي شملت كافة الشعبين الأردني والفلسطيني بشكل جامع مانع على أنهم بالمطلق مع الطاغية صدام حسين وضد إعدامه، لأنني حسب علاقتي بالمجتمعين المذكورين وزياراتي المتكررة وعلاقاتي الممتدة مع العديد في أوساط الكتاب والصحفيين والحزبيين، أستطيع أن أقول: إن التعميم هنا مضلل فالمظاهرة تسمى في بلاد العرب (حاشدة) إذا شارك فيها ما يزيد على ألفي مواطن، وفي كافة الأعراف فإن مجموع المظاهرات التي سارت في الأردن وفلسطين لا يزيد تعداد المشاركين فيها عن سبعة ألاف، ويستطيع أي مراقب محايد أن يتأكد من ذلك من خلال دراسة صور المظاهرات والاستماع لرأي محايدين في البلدين، ومن خلال اتصالاتي الواسعة أؤكد أن هناك الكثيرون الذين ابتهجوا لموت هذا الطاغية، لذلك فلا أعتبره مقبولا ولا إنسانيا قول الصديق (قطعان الشعب الأردني من الدهماء والمثقفين والنقابيين والسياسيين على السواء)، فلا تجيز أية أخلاق إطلاق هذه التوصيف الحيواني على شعب بكامله، ولا على فرد من هذا الشعب مهما تناقضنا مع أفكاره ورؤاه السياسية. من حقي دحض ومعارضة أية أفكار وممارسات لأي شخص، وبيان خطئها بالكامل وتناقضها مع السلوك الإنساني والحضاري، ولكن ليس من حق أحد أن يصف شخصا أو شعبا بأنه (قطيع)وهي الصفة التي تطلق على المجموعة من البقر أو الغنم حسب مختار الصحاح لأبي بكر الرازي.

حكاية ذهب رغد في الأردن
يقول الصديق الدكتور شاكر النابلسي (....وتقدر بعض الأوساط أن رغدا منذ أن لجأت إلى الأردن، صرفت ما يزيد على ملياري دولار من الأموال التي نهبها أبوها وأخواها من الشعب العراقي، وتم صرف هذه الأموال على النقابات وأجهزة الإعلام المختلفة والجمعيات الخيرية والدينية والتعليمية، وأصبحت رغد بذلك دعامة من دعامات الاقتصاد الأردني). الكل يعرف حجم ما كتبته ضد رغد ووالدها الطاغية المجرم، وأتمنى أن تحاكم يوما مثل والدها، ولكن هذا القول مبالغة غير علمية، فرغد بنت المجرم من شروط ضيافتها أن لا تمارس أي عمل أو أية اتصالات، وقد تأكدت من ذلك عام 2004 عند صدور كتابي (سقوط ديكتاتور) فقد حاولت المستحيل عبر وساطات عديدة أن أغيظها وأقدم لها نسخة من الكتاب، لكن الوصول إليها كان مستحيلا، بدليل أن خروجها للتجمع الذي حصل في مجمع النقابات الأردنية بمناسبة إعدام المجرم كان أول خروج علني لها ولمدة دقائق فقط. أنا متأكد أن المجرم المقبور وأولاده ومنهم رغد نهبوا المليارات من ثروة الشعب العراقي، ولكن تصوير رغد بأنها دعامة من ركائز الاقتصاد الأردني مبالغة غير منطقية مهما كان حجم المليارات التي نهبتها هي وعائلتها القاتلة، خاصة أن المملكة الأردنية من أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية ولا يمكن أن تخفي هذه المليارات في الوقت الذي تنشط العديد من الأجهزة الأمريكية والدولية للبحث عن أموال المجرم وعائلته، وقد جاء تقديم هذه المعلومات في مقالة النابلسي بشكل يعطي الانطباع وكأن رغد تملأ الأكياس بدولاراتها من فئة المائة وتلف طوال النهار والليل على الصحفيين والكتاب والأحزاب والجمعيات، وكل واحد يأخذ نصيبه ومن لا تمر عليه سيارة رغد المحملة بأكياس الدولارات ما عليه إلا أن يطرق بابها ويأخذ ما تيسر بمجرد فتح الباب، وهذا مجاف للواقع ولا أعتقد أنه كان سيخفى على أجهزة الحكومة الأردنية التي حتما لن تسمح به و لما كان ظلّ سرا، ولوجدنا العشرات يفضحونه بالأدلة في الصحافة والمنتديات السرية والعلنية.

ومن اعتراضاتي الشديدة قول الصديق النابلسي عن الشعب الأردني (إلا أن هذا الشعب الفقير يظل فقيرا بعقله وذليلا بحاجته). لا أرى أن هذا الوصف يمكن أن يقبله أي عاقل عن أي شعب حتى لو كان من شعوب العصر الحجري أو الجليدي...في كل شعب من الشعوب العديد من التيارات الفكرية والسلوكية المختلفة، ومهما اختلفنا مع هذه التيارات لا يمكن أن نعتبر أصحابها فقراء في عقولهم، و إلا سنسمح لهم أن يعتبروننا نحن من نتبنى النقيض لأفكارهم أننا فقراء في عقولنا فلا توجد حقيقة مطلقة، فالقرآن الكريم نفسه عندما قدمه الرسول (ص) لقومه وعشيرته قريش وجد من رفضه ولم يعترف به واعتبره كلام ساحر أو شاعر. وأيضا هل نستطيع القول عن العراقيين الذين كانوا يخرجون بالملايين يهتفون بالروح والدم للمجرم المقبور أنهم فقراء في عقولهم؟. وهم الذين صنعوا هذا المجرم الديكتاتور فلو كانت هذا الملايين تخرج هاتفة (بالروح بالدم نريد حريتنا) لما عمّر هذا المجرم حتى جاءت قوات التحالف لإسقاطه واعتقاله ثم إعدامه!. وهل نستطيع اعتبار ملايين الأمريكان والبريطانيين الذين تظاهروا وما زالوا ضد الحرب في العراق فقراء في عقولهم وأذلاء بحاجتهم؟

لذلك أكرر أن هذه الآلآف السبعة أو العشرة في أحسن الأحوال لا تعبر عن مزاج تسعة ملايين في الأردن وفلسطين...و هذه نتيجة من نتائج الهامش الديمقراطي الواسع في الحياة السياسية في الأردن، فلو لجأت الحكومة الأردنية لقمع هذه التجمعات المساندة للطاغية لوجدت من بيننا نحن من ينتقدها لقمع حرية الرأي!!. كم مليونا من الأمريكيين تظاهروا وما زالوا ضد ذهاب جيش بلادهم للعراق؟. هل يمكن أن نعتبرهم صداميين؟. هنا في النرويج ما زالت مظاهرات و تجمعات شبه شهرية ضد التدخل في العراق، هل هؤلاء صداميين؟. وحتى اليوم ما يزال الإيطاليون والألمان يختلفون حول الطاغية موسوليني والمجرم هتلر، ومنهم من يعتبرهم أبطالا وطنيين ويؤسسون أحزابا حسب توجهاتهم مثل النازيين الجدد،و أقصد أن هذه هي طبيعة الشعوب ولكن لا يمكن أن نعتبر أن أي حزب أو فريق من عدة مئات أو ألاف يعبر عن شعب بكامله، ونصفه بأنه (قطيع) لأنه يخالف توجهاتنا، فهذا القطيع مناضلون وشرفاء من وجهة نظر آخرين، وربما نحن من نخالفهم الرأي (قطيع) من وجهة نظرهم...فهل هذه التوصيفات اللا إنسانية مقبولة؟. فماذا نقول مثلا عن المحامين المصريين الذين تقدموا للدفاع عن الطاغية؟ وماذا عن عائشة القذافي؟ وماذا عن نجيب النعيمي وزير العدل القطري السابق وأحد محاميه وحضر العديد من جلسات محاكمته؟ وماذا عن الصحفي الكويتي (خالد العبيسان) الذي كتب مقالة يوم التاسع من نوفمبر من العام الماضي في جريدة القبس، أشاد فيها بالطاغية ودعا صراحة إلى عودته لحكم العراق بصفته الرئيس الشرعي، وأدان التحالف الأمريكي الذي أطاح به، وهو يعرف أن هذا التحالف هو الذي طرد صدام وجيشه من وطنه الكويت و إلا لظلت محتلة حتى اليوم وربما كان هو لاجئا في دولة ما!!.

ثانيا: التفاصيل
في هذه التفاصيل يمكن أن نوضح سبب هذا التعاطف مع الطاغية في أكثر من مجتمع عربي، دون أن نصف هذه المجتمعات ب (القطعان):

أولا: التضليل الذي أشاعته الجماعات والأفراد الذين ارتشوا من صدام عبر فضيحة ما عرف ب (كوبونات النفط) وشملت كتابا وصحفيين وسياسيين من عدة أقطار عربية وأجنبية، ومنهم أسماء معروفة مثل البريطاني جالاوي الذي يستميت في الدفاع عن الطاغية، ومنهم الفلسطيني عبد الله الحوراني الذي كتب مديحا في الطاغية لا يستحقه إلا الأنبياء والرسل والملائكة والمبشرين بالجنة، ومنهم توجان الفيصل الأردنية التي اعترفت علنا بذلك مستدركة (أنها لم تقبض مباشرة ولكنها توسطت لتاجر أردني للحصول على تلك الكوبونات) دون أن توضح هل حصلت على عمولتها أم لا؟. وفي ما يتعلق بالصحفيين الأردنيين فهو ليس سرا أن الطاغية هو الذي قام بتمويل بناء مدينة الصحفيين في ضاحية الرشيد بالعاصمة عمان في بداية التسعينات، واستفاد منها عشرات الصحفيين وتملكوا شققا!. ورغم هذه الحقيقة المعروفة للجميع، لا يمكن اتهام كافة الصحفيين في الأردن بأنهم عملاء للطاغية، فهناك كتاب وصحفيون فلسطينيون وأردنيون جاهروا بعدائهم للطاغية مثل باسم النبريص ومهند صلاحات وسلمان مصالحة وصالح القلاب وغيرهم.


ثانيا: دور الأحزاب الإسلامية مثل الإخوان المسلمين في الأردن و حماس في فلسطين في الإسهام في هذا التضليل عبر الترويج لمقارعة وعداء الطاغية لإسرائيل، وهم يعرفون أنه من المثبت أن الصواريخ التي أطلقها على إسرائيل كانت معبأة بالإسمنت بدليل أنها لم تقتل إسرائيليا، وكانت مصممة للتضليل وكسب عواطف البسطاء من العرب. و هل هناك مهزلة ومسخرة أكثر من إشادة بعض هولاء بقول المجرم إبان احتلاله لدولة الكويت (أنه مستعد للانسحاب من الكويت إذا انسحبت إسرائيل من فلسطين )، وهم يعرفون أن هذا مجرد كلام لكنهم روجوا له فخسروا تعاطف الشعب الكويتي. وضمن هذا السياق الإسلامي ما هو موقف حماس من حكومة طهران التي تشيد بدعمها المالي لها، وحكومة طهران من أكثر الفرحين بإعدام الطاغية؟ أليس من المفروض أن ترفض حماس أموال الحكومة الفرحة بقتل (سيد الشهداء)؟. وكافة الإسلاميين المدافعين عن الطاغية كيف سيتعاملون مع أشقائهم في الأحزاب الإسلامية في الكويت بعد تصريح منسق الكتلة الإسلامية في البرلمان الكويتي النائب أحمد باقر الذي أكد (أن أعضاء الكتلة مجمعون على ضرورة ربط مواقف الكويت من الدول الخارجية بمدى خدمتها لمصالح الدولة) كما انتقد مواقف بعض الدول العربية من إعدام صدام متناسين (ما اقترفته يداه من دمار وتخريب وتنكيل وبالذات ضد أهل الكويت وأسراهم وملايين العراقيين الذين واجهوا التعذيب طوال فترة حكم الطاغية ونظامه الفاسد)!!. وبالتالي هل هذه الأحزاب الإسلامية تنطلق من خلفية إسلامية واحدة؟ و إلا لماذا هذه المواقف المتناقضة؟ تماما مثل حزبي البعث السوري والعراقي اللذان كانا ينطلقان من خلفية عفلقية واحدة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وطوال حكم الطاغية والحدود مقفلة بين القطرين وعدة سنوات التخريب والسيارات المفخخة كانت السفير بين القطرين!.


ثالثا: أعتقد أنه في هذا الميدان من المهم رصد مواقف الحكومات، فهي المفروض أن تكون صاحبة موقف يعبر عن توجهاتها بعكس الشعوب التي يوجد بينها عشرات الأحزاب والتيارات الفكرية، من حقها طرح ما تريد ومن حق الآخر رفض وتفنيد ما يريد، وفي هذا السياق لا يمكن القفز عن موقف العقيد القذافي وعلي عبد الله صالح، بدليل الهجوم الذي تتعرض له حكومتي اليمن و جماهيرية العقيد في الصحافة والبرلمان الكويتي وفي داخل الأوساط العراقية الحكومية والشعبية.
خلاصة القول أن هذا الطاغية فرّق العرب في حياته وفي سجنه وبعد موته، وبالتالي يظل السؤال منطقيا (حقيقة هل نحن أمة عربية واحدة، أم شعوب متعددة ذات مصالح وأمزجة وتوجهات مختلفة)؟.