ما كان ينقصنا إلا هذا: تحقير الشيعة، والتطاول عليهم، والهتاف ضدهم، كونهم حلفاء سياسيين للبعض منا، وكوننا أخوة أعداء لهذا البعض.
ما رأيناه وسمعناه، في احتفال حركة فتح بذكرى انطلاقتها الثانية والأربعين، في استاد اليرموك بغزة، هو شيء معيب وجالب للعار بكل المقاييس، الدينية منها والعلمانية. فإطلاق صفة الشيعة، على حماس والحمساويين، كنوع من الاتهام والمذمّة والمنقصة، هو أولاً: إساءة بالغة للمسلمين جميعاً في العموم، وللشيعة منهم على نحوٍ الخاص. فهذا الهتاف الموتور، الذي أطلقته حناجر الدهماء والغوغاء، في ذلك الاحتفال، هو أولاً هتاف عنصري، قبل أن يكون أيّ شيء آخر. وهتاف يصدر عن دهماء، هم جزء من شعب، المفروض فيه وهو المظلوم التاريخي، ألا يظلم أحداً، وألا ينتقص من قيمة أحد، فما بالك بطائفة تشكّل أحد جناحي الإسلام في كل ديار الإسلام ؟

لقد فجعت ووضعت يدي على قلبي، ثم أقفلت قناة فلسطين، وجلست لأكتب هذا المقال السريع، تعليقاً على ما رأيت، واعتذاراً، ولو من رجل لا ديني، ولكنه فلسطيني في كل الأحوال.
أولاً: نحن في فلسطين، أو معظمنا على الأقل، لا نعرف ما هو السنيّ من الشيعي. فقط نعرف أنّ هذا مسلم وذاك مسيحي والثالث يهودي. لذلك، لا نفهم دلالات هذه الكلمة، لا اجتماعياً ولا دينياً، ولا فقهياً، وبالتالي لا نعيرها التفاتاً.
وما حدثَ قبل قليل، هو بالفعل، أمر غريب على تقاليد شعبنا من كل الوجوه. أمر، ليس فقط نستنكره، ولكن أيضاً لا نفهمه. فنحن بطبيعتنا وبظروفنا التاريخية، لا نفرّق بين إنسان وإنسان، لاختلاف دين هذا عن ذاك، فثقافتنا الاجتماعية، التي تربينا عليها في الماضي، ثقافة متسامحة ومنفتحة وأقرب إلى العلمانية والتحضّر، منها إلى شيء آخر.

ولكي لا أخوض في العموميات التي تبدو وكأنها تنظير أو تجريد، أسوق القصة الشخصية التالية، وليسمح لي القراء بذلك: تزوّج أخي قبل ثلاثة عقود، وأثناء خدمته كفدائي في الجنوب اللبناني، بفتاة شيعية، ففرحنا جميعاً. لأنه تزوّج، ولأنّ زوجته مختلفة قليلاً عنا. وحين سألنا من هم الشيعة، قيل لنا، ومن شيخ معمم في ذلك الزمان، إنهم مثلنا تماماً، وفقط يحبون علياً وآله ربما أكثر منا نحن السنة. وأذكر حينها أنني دهشتُ لكوني من هؤلاء quot; السنة quot; فأنا لم أكن أعرف حينها إلا أنني مسلم فقط.
فرحنا بالزواج ونسينا موضوع زوجة الأخ الشيعية، حتى يوم الناس هذا. فما حدث هو أمر طبيعي تماماً لا يستأهل حتى مجرد التنويه به.
تلك كانت وأرجو أن تظلّ من سمات هذا الشعب الفلسطيني ومن تقاليده الراسخة. لا يُفرّق بين طائفة وطائفة، ولا بين ديانة وديانة، ويستسخف بمن يفعلها من مشايخ هذه الأيام، سواء الإخوانيون منهم أو الوهابيون. وسواء كانت التفرقة لهدفٍ عقيدي أو سياسي.
لكن ما فعله الدهماء الغوغاء قبل قليل، في تجمّع بشري حاشد، أثار في عقلي العديد من الشجون الداكنة.

أولاً: إنه حدثٌ رآه وسمعه عبر عدة قنوات منها الجزيرة مباشر وفلسطين، ملايينٌ من إخوتنا ورفاقنا الشيعة، في غير مكان في العالم. وهذا لا شك، حتى وإن صدر عن غوغاء منتمين لتنظيم فلسطيني كبير، إنما يسيء لنا كفلسطينيين أولاً، ويجرح مشاعر وعواطف طائفة [ كم كنت أتمنى ألا أستخدم في مقالي هذه الكلمة البغيضة ! ]، طائفة كما قلت هي الجناح الثاني من جناحيْ الإسلام. طائفة عزيزة نقدّرها ونحترم تضحياتها ووقوفها معنا في نضالنا المصيري من أجل الاستقلال وتقرير المصير. طائفة قدّمت الكثير، وظُلمت، خصوصاً في أرض العرب السنة، قديماً وحديثاً. وما زالت مظلومة، وغير مقدّرة، وبالذات في أدبيات الإخوانيين وما تفرّع عنهم من حركات، وكذلك في أدبيات الوهابيين.

طائفة بدل أن يحترمها العرب السنة، يتهمونها بأقذع الصفات، سواء كانت من العرب الأقحاح أو غير العرب. ولست هنا في معرض الدفاع عنها، فهي بالتأكيد ليست بحاجة لواحدٍ مثلي، ولكنني هنا في معرض توضيح بضعة أمور ووضع النقاط على بعض الحروف لا أكثر:
في العراق على سبيل المثال، ظُلمَ العرب الشيعة والأكراد، أكثر من غيرهم. وتعرّضوا لبطش الديكتاتور الراحل، كما لم يتعرض أحد مثلهم. وحين ارتاح هؤلاء أخيراً وأخيراً جداً، من حكم وسلطة الديكتاتور، في التاسع من نيسان قبل سنوات قليلة، ماذا فعل العرب السنة للعراق ؟ صدّروا لهم الإرهابيين وأشبعوهم عملياتٍ انتحارية، هي ماركة مسجلة للإسلام السياسي السني. لم يكتفوا بما فعله الديكتاتور، فجاءوا هم، ليكملوا المهمة القذرة. وحين انطلقت قوى شيعية للانتقام، كان ذلك ردّ فعل على الفعل الأول.
لست أسوّغ ولا أبرّر المذابح التي تُرتكب كل ساعة في العراق العزيز، ولا أي مذبحة تقع في أية بقعة من العالم الواسع، على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي، أو على أي أساس. فكل ذلك مرفوض ومدان من قبلنا نحن المثقفين العلمانيين. بل أقول بعضاً من الحقيقة التي يرفض الاعتراف بها بعض العرب السنة، من مثقفين ومشايخ وسواهم.

نعود إلى فلسطين، ونقول إنّ ما هتف به الغوغاء، في تجمّع بعشرات الألوف، صادر عن ثقافة شعبوية وافدة علينا حديثاً، باتساع رقعة الإسلام السياسي، واجتياحه لكل بُنانا الاجتماعية، كما السرطان. ثقافة شعبوية سمعتها وقرأتها في بعض منشورات البعض من تنظيماتنا، وفي بعض مساجدنا للأسف.
وأذكر في هذا السياق، معلومة تاريخية كنت شاهداً عليها أواخر السبعينات من القرن الماضي. حيث اتهمت جماعةُ الإخوان المسلمين في قطاع غزة، حركةَ الجهاد الإسلامي وهي في بدايات تكونّها، بسبب تحالفها مع إيران الخمينية، بأنهم هم أيضاً [ شيعة ]. أي روافض وتكفيريون إلى آخر هذا الهراء !
ذات الثقافة يتداولها الآن البعض من فتح، ويتهمون بها حركة حماس التي انبثقت عن تيار الإخوان المسلمين. إنه إذن تلاسن سياسي في المقام الأول كما أظنّ، وليس صادراً عن تعصب مذهبي أو شيء من هذا القبيل. فأرجو ألا يحمّله الأخوة الشيعة فوق ما يحتمل.
كما أرجو من حركة فتح العلمانية، ألا تنحدر إلى هذا الانحطاط في المرات القادمة، وأن تنتبه إلى تثقيف قواعدها، الذين يقلّدون حماس في غير وجه وصعيد. حتى بتنا أحياناً لا نعرف الفتحاوي من الحمساوي إلا بشق الأنفس، فكلاهما غارق في الثقافة الدينية الشعبوية إلى الأذنيْن.
إنّ ما حدث في الاحتفال شيء معيب ومؤسف علينا جميعاً كفلسطينيين. شيء معيب ومؤسف وبخاصةٍ أنه حدثَ مرتيْن وفي مناسبتين متباعدتين ومِن قبل جهتيْن. ولكنه حدث ويحدث. فقط يُعاد إنتاجه، وفقط يتغيّر بين الحين والحين المتهمُ بكسر الهاء والمتهم بفتحها !
يا حيف على شعب عظيم كهذا الشعب !