لا شك أن إعدام الرئيس العراقى صدام حسين أوضح بشكل قاطع إنعدام الثقافة الحقوقية فى المنطقة العربية حيث إنحصرت ردود الأفعال- فيما عدا بعض الأصوات الليبرالية الحقوقية- بشكل مفزع فيما بين تهليل و شماتة لمصير صدام من جانب العديد من مدعى الليبرالية، وبين نحيب مدعى القوميات العرقية و الدينية لفقدانه من جانب آخر، وكأنه ليس هناك نقطة إلتقاء عقلانية حقوقية لها جذور فى الضمير الإنسانى. وهكذا تبدو الليبرالية الحقيقية - بما يمكن أن تقدمه من ثقافة حقوقية- بعيدة كل البعد عن إختيارات الشعوب المظلومة و الحائرة كبديل للأنظمة الديكتاتورية العربية القائمة. فما زالت ما تدعى بالليبرالية العربية تخذل الضمير الإنسانى فى إنسياقها خلف أسوأ ما قدمه الغرب من فكر، وما زالت النظريات القومية تنبئ بمزيد من كبت الحريات و إقصاء الآخر و المزيد من التخلف والدمار.

أولا لا يختلف الكثيرون على وحشية حكم صدام حسين و الجرائم التى إرتكبها ضد شعبه و ضد شعبى إيران و الكويت. وأتعجب على من ينتحبون على فقدانهم للرجل و كأننا فقدنا زعيما عظيما مسالما ساهم فى تقدم بلاده و تصرف بحكمة فى مواردها و ثرواتها. ولكنى أيضا أتعجب على مدعى الليبرالية الذين طالما ملأوا صفحات الجرائد و الكتب و موجات الأثير و الفضائيات عن ضرورة إحترام مبادئ حقوق الإنسان، و هم الآن يهللون لإعدام صدام حسين بعد محاكمة شهد عليها العالم وخبراء حقوق الإنسان من الغرب والشرق بأنها كانت محاكمة سياسية لم توافى المعايير الدولية الدنيا للمحاكمة العادلة.

المأساة ليست أننا فقدنا صدام حسين و لكنها الظروف التى أحاطت بإعدامه. لقد أعدم هذا الرجل بعد محاكمة شككت المنظمات الحقوقية الدولية فى عدالتها حيث تعاملت السلطات العراقية معه منذ إعتقاله إلى إعدامه- وحتى بعد إعدامه-باسلوب غير مهنى و فى محاولات مستمرة لإذلاله و ذلك من خلال تشكيلة كبيرة من المخالفات الصارخة لدستور العراق والقانون الدولى لحقوق الإنسان الذى يفرض على الدول إحترام كرامة المتهم و توفير المناخ المناسب لضمان محاكمة عادلة. و الأسئلة القانونية و العقلانية التى يجب طرحها للمهللين هى: هل تلقى صدام حسين محاكمة عادلة؟ هل توافرت فى العراق الشروط التى تضمن محاكمة عادلة لهذا المتهم؟ هل إستطاع فريق الدفاع أن يمارس مهامه دون عرقلة غير قانونية من طرف السلطات العراقية دون أن يقتل العديد من ممثليه؟ هل عومل صدام حسين المعاملة اللائقة طبقا للقانون الدولى الخاص بمعاملة السجناء من طرف حراس السجن و القضاة؟ هل كانت الفترة التى منحتها له المحكمة لإستئناف الحكم كافية بإعطائه الفرصة الكاملة لإستئناف الحكم؟ و حتى بمقتضى الواقع الخاص بتطبيق حكم الإعدام فى العراق ndash;و هى عقوبة وحشية و غير آدمية لا تجدها إلا فى الدول المتخلفة إنسانيا- هل هناك أى سند قانونى عند تنفيذ الحكم لمضايقة المتهم و التوعد به و الشماته و التشفى فى رجل أعزل على وشك أن يلقى العقوبة العظمى فى الدنيا؟ هل هناك سند قانونى لتصويره لإذلاله و أذلال عشيرته أثناء مراسم إعدامه؟ أتحدى أن يجيب أحد المهللون بالإيجاب على أى من هذه الأسئلة الأساسية.

لا أتفهم الحزن على رحبل ديكتاتور سابق و لكن الضمير الإنسانى يقشعر من المعاملة البربرية مهما كانت التهم الموجهة له تماما كما كان يقشعر للجرائم التى إرتكبت أثناء حكمه. لا أبكى على رحيل حاكم ظلم شعبه و لكنى أبكى الإنسانية التى تهدر كلما أهدر حق إنسان بغض النظر عن جرمه. أحزن عندما تتحد عقلية رعاة البقر الدموية و هى أسوأ ما أفرزت الثقافة الغربية مع قرينتها الهمجية العشائرية الطائفية البدوية التى هى أسوأ ما أتت به الثقافة العربية لتنتجا لنا صورة وحشية غير آدمية لتقدماها لنا فى لفافة قذرة دامية كتب عليها quot;صنع فى بلاد العربquot;، حتى أن مجرمى الحرب فى واشنطن و داونينج ستريت أعلنوا كذبا تنصلهم عن مشاركتهم فى هذه الجريمة.

و هكذا فـ بقدر دهشتى ممن يألهون الرئيس العراقى و يتعاملون بغير واقعية مع تاريخه و كأن رحيله خسارة كبرى للإنسانية، بقدر دهشتى و إستيائى من موقف من يطلقون على أنفسهم بـ quot;الليبراليين العربquot; و الليبرالية بريئة منهم براءة الذئب من دم إبن يعقوب. فالليبرالية تستند فى أساسها و فى معناها اللفظى و الجوهرى على كلمة quot;الحرياتquot; و تعتمد بشكل غير إنتقائى على مبادئ حقوق الإنسان و إحترام رأى و حريات الآخر. الليبرالية الحقيقية هى التى نددت بوحشية حكم صدام حسين و سلوبودان ميلوسوفيتش و أجوستو بينوشيه و تشارلز تيلور و منجستو ماريام و غيرهم عندما كانوا مسنودين من قوى عظمى، و هى نفس الليبرالية التى طالبت و تطالب لمن ما زال من هؤلاء على قيد الحياة بمحاكمة عادلة تليق بالكرامة الإنسانية بعد أن لفظتهم القوى المساندة لهم. الليبرالية ربما ليست مثالية و لكنها فى الجوهر حقوقية و ليست متطرفة أو ميكيافيلية. و لو كان فولتير الذى يتشدق بإسمه دكاترة و أباطرة quot;الليبرالية الجديدةquot; و الذين لا يمانعون بشكل متعمد إسقاط كلمة quot;الجديدةquot; من إسم أيديولوجيتهم الدمويةndash; لو كان فولتير مازال حيا لسمح لصدام حسين بمحاكمة عادلة و معاملة لأئقة بكرامتة كإنسان. و الليبرالية تقوم على حقوق الإنسان و لا يمكن أن تكون إنتقائية، فلا يمكن أن يدعى إنسان بحق إيمانه بالليبرالية ناهيك عن الترويج لأفكاره تحت هذا quot;الإسم التجارىquot; و هو يدافع عن حقوق الإنسان لمجموعة دون أن يضع نصب عينيه حقوق الإنسان للجميع و دون تمييز.

و حتى إذا وجد أحدهم عذرا للسلطات العراقية فى ضعفها أمام إغراء الرغبة الطائفية فى التعامل مع صدام حسين بإسلوب غير إنسانى نظرا لما قد تعرضوا له من جرائم أثناء حكمه، فكيف لأستاذ جامعى أو طبيب غير عراقى و لم يتعرض لبطش صدام حسين بل و يعيش خارج العراق أو خارج المنطقة العربية كلها، كيف له أن يتناسى حقوق الإنسان التى هى سلاحه و أساس معارضته للديكتاتورية، و بأي عذر؟ حتى أن بعضهم أعلن عند صدور الحكم بإعدام صدام حسين ومساعديه بعد محاكمة نبذها العالم quot;صدام لا يستحق هذه المحاكمة العادلةquot; ، بل و أضاف البعض أن الرئيس العراقى quot;كان يجب أن يعدم دون محاكمةquot;. أى ليبرالية هذه؟

وهكذا وفى هذا الوقت الحرج من عمر المنطقة العربية و فى ظل ما يسمى بالإنتقال الديمقراطى و الذى يتسم البطئ المميت تجد الشعوب العربية نفسها عند النظر إلى بدائل للديكتاتورية أمام إختيارات مستقبلية و مصيرية صعبة فإما الليبرالية المبهمة المطلقة من فوهات أسلحة رعاة البقر وإما القوميات العرقية أو الدينية التى تميزت بإقصاء الآخر وإذلاله فى مجتمعاتنا.

نريد بناء ثقافة إنسانية تحترم الآخر و تحترم الذات و تتقبل نقد الذات قبل نقد الآخر، و نريد ثقافة حقوقية تعاقب المجرمين و تدافع عن حقوق المظلومين فى ظل سيادة القانون، و نريد حركة ديمقراطية تعمل على القضاء على الديكتاتورية من أجل مصلحة الشعوب و النهوض بها و الحفاظ على إنسانيتها لا من أجل إذلاها. و المثقفون العرب هم الأمل حيث يتوقف مستقبل المنطقة كلها على إذا ما إستطاع هؤلاء أن يقدموا للشعوبهم البديل الإنسانى الذى يراعى أدميتهم و يحترم فروقهم و يدافع عن حقوقهم، و لن يتم هذا إلا إذا إرتفعت أرصدة و مصداقية الليبرالية الحقيقية فى السوق الحر للأفكار فوق الأرصدة الضعيفة لما تسمى بالليبرالية الجديدة.
نيويورك
[email protected]