مشهد غرائبي هو هذا الذي نراه في الضفة والقطاع منذ سنة. مشهد كأنه مجتزأ من فيلم كابوسي، أتقن إخراجه مخرجٌ سوريالي عظيم الموهبة والصنعة. الأخوة الأعداء، لا ينفد ما في جعبتهم من مفاجآت. كل يوم قصة، وكل يوم حدَث. هم اتفقوا على ألا يتفقوا، بالتعبير الإسرائيلي المعروف. وعلى ذلك، فليتحضّر العالمُ ليرى منهم كلَّ غريبٍ وعجيب.

إحدى عشرة سنة من فسادٍ ضجّت منه البلاد وساكنوها. تعقبها انتخاباتٌ، شهدَ العالمُ كله بنزاهتها وشفافيتها، ولكنه لم يقبل بنتيجتها. وشعب [ انتقم ] من أباطرة الفساد السابقين، بعدما أثخنوه بحقاراتهم وقصصهم المزكومة الرائحة، فذهبَ إلى قوة أصولية، وكأنما لم يكن غيرها في الساحة. وجاءت هذه القوة لتحكمَ، رافعةً شعار [ التغيير والإصلاح ]، فكان ما كان من حصارٍ وتجويعٍ، لها ولمن انتخبوها ولكافة شرائح المجتمع.

وقعَ الكلُّ في المأزق. وصار الجميعُ يلوبون في مساحاتٍ، هي مجازاً، أضيق من ثقب الإبرة. فكل شيء تعطّل أو هو في طريقه إلى العطالة. حصار أشبه ما يكون بحصار الشعب العراقي أيام طاغيته الراحل. حصار، لا تُعاقب عليه حماس، وإنما الشعب كله. والكل مشترك في هذه الجريمة: جريمة تجويع وإذلال شعب. بدايةً بإسرائيل رأس الحربة، وأمريكا رأس الحربة الثانية، ومروراً بأوروبا، وانتهاءً بالعالم العربي.

لم يترك أحدٌ لهذا الشعب من منفذ. حوصر الجميع، وأُغلقت النوافذ، ولم يبق أمام المحاصرين والمسجونين سوى أن ينشغلوا بأنفسهم هم، وأن يفرّغوا احتقاناتهم واختناقاتهم في بعضهم البعض. فثمة طاقة هائلة من الغضب والعدوانية، لا بد من تنفيسها. والحال أنهم ينفسونها الآن في أجسادهم، بعدما عزّ التنفيس في أماكن أخرى.

العالمُ كله، وضع الشعب الفلسطيني في هذه الزاوية الحرجة. وهيّأ كل الأسباب، لكي يصطرع الأخوة. والأخوة، بما هو مشهور عنهم تاريخياً، من غياب بُعد النظر، لم يوفّروا هذه الفرصة، ففعلوا ما ينتظره منهم العالمُ وأكثر: احتراب داخلي، وانفلات غرائز دنيا، وصراعات على أوهام لا حقائق، واقتتال ميليشيات في الشوارع والأزقة، كما خطفٌ يطال حتى الأصدقاء من مناصري الجرح الأبدي. ثم بعد ذلك تأتي جلسات [ الصُلْحة ] بالمفهوم العشائري: ترقيع وبوس لحى. وآخر ما أتحفتنا به الأنباء، هو تدخّل [ المخاتير ] في [ إصلاح ذات البين ] بين السيد محمود عباس، رئيس السلطة، والسيد إسماعيل هنية رئيس الوزراء! وكأنما الخلاف السياسي بين رأسيْ الهرم الفلسطيني، هو خلاف عائلتيْن كبيرتيْن أو صغيرتيْن! يا لها من فنتازيا حقاً، ويا له من غُلْب!

فلسطين أو ما تبقى منها تذهب إلى منطق العشيرة في مطالع الألف الثالث. فمبروك عليك هذا الانحطاط في منظومتك وفكرك السياسي أيها الشعب العظيم.

13 عاماً من الحكم الذاتي والسلطة، وقبلها أربعون عاماً في المنافي واكتساب الخبرات، ثم أخيراً: ها نحن نحتكم في خلافاتنا السياسية المصيرية إلى مخاتير العائلات. فلا مؤسسات قضائية أنجزنا، ولا قانوناً، ولا خطوط حمراء اتفقنا عليها ولا بديهيات. وحصاد ستين عاماً من النضال، تؤول في الأخير، إلى اللاشيء.

مشروع تحرر وطني في مهب الريح. وشعب ينكفئ على خيبته وجراحه، مكتشفاً متأخراً أنه لم يبنِ ولم يراكم ما يستحق الزهو والافتخار.

العالم الكبير يضربنا بكلبيّته وبلا أخلاقيته من جانب. ونحن بدورنا لا نوفر أنفسنا. صراع مهزول على سلطة أقرب إلى الوهم والاستيهام منها إلى الواقع والنفوذ. فما بالك لو تحرّرنا أصلاً، وصار لنا وطن بحدودٍ وصلاحيات سيادية، ماذا سنفعل حينها يا ترى ؟

كتبتُ في مقال، نشرته هنا قبل سنة، أننا ما بين حماس وفتح، سنصبح شعب التيه. يومها عنّفني بعض الزملاء الطيبين على سوداويتي، وقالوا إنني أبالغ، وأكتب بمزاج الشعراء الكئيب، لا بأدوات التحليل السياسي العقلاني. قلت لهم يا ليت! وليتني أكون مخطئاً، ولكم حينها أن أعتذر عن مزاج الشعراء ولا مشروعية هذا المزاج حين يتنطّح لمقاربة السياسة.

الآن، ونحن في الأسابيع الأولى الدامية من العام الجديد، أسابيع القتل والخطف بالجملة، أتذكّر ذلك المقال، وأخشى فعلاً لا مجازاً من مصير التيه الذي ينتظرنا جميعاً. فزملائي أولئك، الذين أحبهم وأحب نقاءهم الوطني وبراءتهم الوجودية، صاروا متشائمين أكثر من الشعراء، هم أرباب التحليل العقلي الناصع، وquot; المحكومون بالأمل quot; مهما تكن الظروف، على ما قال سعد الله ونوس.

الآن لا أمل ولا يحزنون. فصراع الحزبين وحسابات الحزبين، بانت على حقيقتها دون حاجة إلى أوراق تين: حزبان لا يؤمنان إلا بالعنف: حزب فقد السلطة، ويريد استرجاعها بكل وأي السبل. وحزب آخر استلم السلطة ولم يكن يحلم بها، ولذا فهو مستعد لكل شيء في سبيل الاحتفاظ بها. أما سؤال: هل هي حقاً سلطة ؟ فغير وارد عند الطرفين. وأما سؤال: هل من مصلحة شعبنا العامة هذا الجنون ؟ فجوابه عند الطرفين: نعم ونعم ونعم. فكل منهما يتكلم باسم الشعب، وكل منهما يعرف مصالح هذا الشعب أكثر من الشعب نفسه. فيما الشعب، quot; الأغلبية الصامتة quot; كما يقال، و quot; الأغلبية القاصرة quot; كما أقول، فما زالت على صمتها، وفقط تتأفف أو تشكو هوان الحال، وما من خطوة أبعد.

هذا بينيّاً، أما خارجياً، إقليمياً ودولياً، فالصورة أنكى وأبشع. إسرائيل من ناحيتها، ترقب تفاصيل المشهد الداخلي بغبطة لا متناهية. تعمل في الليل والنهار، لكي يتحقق حلمُ أحلامها، بحرب أهلية فلسطينية، يخرج من حصّادتها الجهنمية الطيفُ الفلسطيني كله خاسراً وممزقاً.

والنظام العربي، لولا بقية من خجل كاذب، يكاد يشيح بنظره عن كل ما يحدث لفلسطين وداخل فلسطين. تاركاً إياها لقمة سائغة في فم عدوها. فلهذا النظام حساباته وتحالفاته الدولية والداخلية. وأما أمريكا فهي أمريكا، ترى ما تراه إسرائيل بطريقة الفوتي كوبي. أما الاتحاد الأوروبي، الذي راهنّا عليه كمثقفين أولاً، قبل صفاتنا الأخرى، فقد خذلنا وخذل قيمه ومبادئه الإنسانية، سليلة قرون من التنوير والتحضر والمدنية. وها هو يساهم في المأساة بنصيبٍ وافر هو الآخر.

الكل اجتمع على الضحية، وكلٌ بطريقته. والضحية ذاتها لا توفر نفسها.

الكل أجمع على إعدام ما تبقى من هذه الأرض المعذبة. وعلى إفناء سكانها الأصليين، من فلسطينيين حُمر، وسمر وسود وبيض. تارةً باسم مصالح الدول الكبرى، وطوراً باسم تعزيز وتمتين إسرائيل، وأحياناً باسم القرار الوطني المستقل، وأحايينَ باسم الإسلام السياسي.

تعددت الأسماء والإعدام واحد. تعددت الاجتهادات والنتيجة واحدة. تعددت العماءات والأضحية واحدة والقربان ما غيره: شعب يُساق إلى حظائر الموت، بمنتهى العنف الفيزيائي. وجغرافيا صغيرة توضع بين فكّي بلدوزر هائل الحجم اسمه إسرائيل ومن خلفها العالمُ القوي الغاشم: العالم الفاقد لبصره وبصيرته، ونكاد نقول لولا بُقيا من أملٍ: إنسانيته، وكل هذه معاً وجميعاً مع سبق إصرار وترصد. فلمن نذهب يا ألله.