-1-
من شاهد الامتحان الصعب والعسير الذي تعرّضت لها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في الكونجرس، عندما أدلت بشهادتها تجاه وضع العراق، وخطة الرئيس بوش الجديدة بشأن العراق، يرأف فعلاً بحال هذه الآنسة الرقيقة، من ذلك الطحن الديبلوماسي، الذي تعرّضت له، من قبل صقور الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ على السواء، والذين أمطروها بأسئلة واستفسارات، يقول ملخصها، وبقسوة شديدة:
- ماذا فعلتم بالعراق حتى الآن؟
- وماذا حققت حكومة المالكي من وعودها لكم حتى الآن؟
- ولماذا قررتم ارسال عشرين ألف جندي، وما هي مهمتهم، وما هو الانجاز المطلوب منهم؟
- وكيف ستمنعون التدخل الإيراني والتدخل السوري في العراق؟
وغير ذلك من الأسئلة، ذات الإجابات الشاقة والصعبة، إلى درجة أنني كنت أنظر الى وزيرة الخارجية باشفاق، وهي مثل عصفور دوري في غابة، وقد أحاط به الصيادون من كل جانب. كلٌ يُطلق عليه النار، لا ليشويه أو ليأكله، ولكن ليُسمع الأسد الرابض في البيت الأبيض صوت الطلقات المتتابعة، علّه يفيق من سباته العميق.

-2-
فهل تحقق الخطة الأمريكية الجديدة الأمن والاستقرار المطلوبين للعراق؟
لقد أطلق جلال الطالباني رئيس الجمهورية، في الاسبوع الماضي، صيحة للعراقيين وللعرب وللأمريكيين وللعالم كله، وقال بصراحته وشجاعته المعهودة: quot;إن العراق لن يحل مشاكله غير العراقيين أنفسهم، وأن ما يجري في العراق مشكلة عراقية، مكلّفٌ بها العراقيون أنفسهم، ولا أحد غيرهمquot;.
وهنا مربط الفرس.
وهذا ما أدركته الإدارة الأمريكية مؤخراً، وضمن خطتها الجديدة، والتي ستعمل بموجبها على تسليم كافة شؤون العراق للعراقيين أنفسهم، وتقبع هي في معسكراتها وقواعدها تراقب الموقف.
فهل أصبح العراقيون مؤهلين الآن لتولي أمرهم بأنفسهم؟
وهل بلغوا سن الرشد السياسي والوعي الوطني، بحيث يتخلّون عن مصالحهم الشخصية، ومصالح طوائفهم، ويتعدونها الى مصالح الوطن، ومصالح الشعب العراقي ككل؟
هل هناك عقارٌ سحري، تعطيه أمريكا للسياسيين العراقيين، لكي ينسى الشيعي شيعته، ويعلم أنه عراقي فقط، وينسى السُنّي سُنيّته ويمارس حياته كعراقي فقط، وكذلك الحال مع باقي الطوائف والأعراق العراقية الأخرى؟

-3-
إن ما شهدناه طيلة السنوات الأربع الماضية، منذ فجر تحرير العراق صباح التاسع من نيسان 2003 حتى الآن، هو أن النخب السياسية العراقية نسيت أنها عراقية، وأنها جاءت من أجل تبني العراق من جديد. فراحت هذه النخب تُعلن عن شيعتها وسُنيّتها، وتبني لنفسها العراق الذي تريد هي، وليس العراق الذي يريده الشعب العراقي كله.
وإن ما شهدناه طيلة السنوات الأربع الأخيرة، هو أن فيروس الطائفية والمذهبية الذي كان نائماً في العصر الجليدي الديكتاتوري، قد استفاق، وبدأ بالنشاط والانتشار في طقس الحرية والديمقراطية الدافيء والمُهيأ لمثل هذا النوع من الفيروسات.
وأن ما شهدناه طيلة السنوات الأربع الأخيرة، هو أن النخب السياسية سرقت أموال العراق بدل أن تردَّ له الأموال المسروقة في العصر الجليدي الديكتاتوري، والتي ظهرت كمياتها الهائلة بوضوح من خلال الأموال الطائلة التي صُرفت على مئات من محامي الدفاع المرتزقة عن الطاغية الذي قضى.
وأن ما شهدناه طيلة السنوات الأربع الأخيرة، هو أن النخب السياسية العراقية لم يكن ولاؤها للعراق بقدر ما كان لإيران، أو سوريا، أو تنظيم القاعدة، أو غيرها من الجهات، بحيث أصبح العراق بفضل هذه النخب السياسية ساحة لصراعات مسلحة، تعمل لصالح جهات خارجية. وأصبح العراق عبارة عن ضحية تتناهشها ذئاب الغابات المحيطة، مما دفع معمر القذافي إلى تحدي أكثر من 15 مليون عراقي، والوطء على مشاعر مئات الآلاف من أسر الضحايا التي قتلها صدام، واقامة نصب تذكاري للطاغية، إلى جانب نصب عمر المختار. وهكذا أصبح العراق مُستهان، ومُستضعف، وكأنه طفل يتيم مشرد، لا أبا له.

-4-
الخطة الأمريكية الجديدة لمعالجة الوضع بالعراق ليس خطة سحرية، ولا تعمل بالريموت كنترول، لكي تقلب محطة وتأتي بمحطة أخرى في غمضة عين.
الخطة الأمريكية الجديدة خطة عمياء، لم تر الواقع العراقي كما يجب أن يُرى. وهي خطة عربية تقليدية أكثر منها أمريكية. بمعنى أنها خطة (تبويس لحى) سُنّة العراق، ولحس وسخهم، وتقبيل أياديهم، وطلب رضاهم ومغفرتهم، جزاء على ما فعلوه بالعراق من الاحسان القاتل، المتمثل في محاربة للديمقراطية، واعتبارها كفراً وإلحاداً، واحتضانهم للإرهابيين، وامتناعهم عن المشاركة بالانتخابات، ومحاربتهم للدستور، واطلاقهم quot;سيد الشهداءquot; على الزرقاوي وصدام، وطلبهم سحب القوات الأمريكية فوراً من العراق، بناءً على طلب سوريا، للموازاة مع الانسحاب السوري من لبنان. فواحدة بواحدة، وانسحاب بانسحاب، والباديء أظلم.
والخطة الأمريكية، هي نفخٌ في قربة مقطوعة، لأنها غضّت النظر عن مصدر الارهاب الحقيقي في العراق، وحاولت معالجة أعمال الارهاب داخل العراق فقط. فلقد سبق وقلنا، أن الارهاب مثله مثل حشرات الناموس والحشرات القارصة الأخرى. فإذا لم تقضِ على مصدرها، وتردم المجاري والمستنقعات التي تُعشش فيها وتتكاثر، فلا فائدة من استخدام كل المبيدات الحشرية ضدها.
مصدر الارهاب الرئيس في العراق لكل ذي عقل، ولكل ذي بصر، ولكل ذي بصيرة، وللقاصي والداني، هو من إيران وسوريا بالدرجة الأولى. وقد كان حظ سوريا وإيران حظاً كبيراً، إذ أرسل الله لهما أمريكا إلى جانبهما، لكي يقتصوا منها على الساحة العراقية.
فمن أين لإيران أن تطال أمريكا، لكي تنتقم منها من جرّاء موقفها من ملفها النووي، لو لم تكن أمريكا جارتها في العراق، وعلى مرمى عصا منها؟
ولولا وجود أمريكا في العراق، فمن أين يتأتى لسوريا أن تنتقم من امريكا من جراء اخراجها من لبنان، ذلك الخروج المهين الذي جعل من بشار الأسد أبا عبد الله الصغير الذي أضاع مجداً بناه الأجداد، وطرده فيرديناند وإزبيلا من الاندلس، فراح أبو عبد الله الصغير يبكي من فوق هضبة quot;البادولquot; أو أُطلق عليها ( تنهيدة العربي الأخيرة) على مجد آبائه وأجداده، فقالت له أمه قولها المشهور: إبكِ كالنساء على مُلكٍ لم تحافظ عليه كالرجال. وقد بكى بشار الأسد كالنساء على مُلكٍ لم يحافظ عليه كالرجال، عندما خرج من quot;الأندلس اللبنانية:quot; ، وضيّع مُلكاً بناه أبوه طيلة أكثر من ثلاثين عاماً.
إذن، فإيران وسوريا لا تقاتلان في العراق بميليشياتهما العراقيين، ولكنها تقاتل الأمريكيين في العراقيين. فحزب البعث من العراق انتهى، ولا أمل لبعث سوريا بحكم بعثي للعراق. كما أن لا أمل لإيران باقامة دولة دينية ملالية في العراق مع وجود هذا العدد الكبير من العراقيين العَلمانيين، وعلى رأسهم الكُرد، الذين يقفون شوكة كبيرة وجارحة في حلق الدولة الدينية العراقية من أي جهة جاءت، سواء من الشيعة، أو من السُنّة. فالكُرد هم الضمانة الكبيرة والأولى ضد سيطرة رجال الدين على الدولة العراقية. وما فعلوه في اقليم كُردستان، من فصل تام بين الدين والدولة، ومنع قيام الأحزاب الدينية، وتدخل رجال الدين في السياسة، هو ما يأملون أن يتم في العراق الفيدرالي ككل.

-5-
هل ستكون الخطة الأمريكية الجديدة، وارسال أكثر من عشرين ألف جندي جُدد إلى العراق، هي القُبلة الأمريكية الأخيرة للعراق، وبعدها سيكون الفراق، وتنفضُ أمريكا من حضنها العراق الوليد، ولا تعطيه ثديها الدافيء المدرار بالحليب المجاني، كما فعلت في السنوات الأربع الأخيرة.
لقد أصيبت امريكا كلها بالخيبة والاحباط من الأداء السياسي والأمني العراقي. ليسوا الديمقراطيين فقط، وليسوا الجمهوريين فقط، وليسوا النخب السياسية فقط، ولكنه المواطن الأمريكي العادي، الذي يعلم علم اليقين بأن أكثر من ثلاثة آلاف جندي ماتوا في العراق وأكثر من عشرين ألف جرحوا، وأكثر من ثلاثمائة مليار دولار انفقت ليس من أجل تحرير العراق. فتحرير العراق، لا يستدعي كل هذه التضحيات، ولكن هذه الخسائر الأمريكية كانت ثمناً دفعته امريكا للسوريا وإيران. ولو كُفت يد سوريا وإيران عن العراق منذ البداية، لما دفعت امريكا كل هذا الثمن من أجل تحرير العراق. وأن العشرين الف جندي الذي سترسلهم أمريكا إلى العراق سيواجهون نفس المصير المجاني، إذ لم تقم أمريكا بعمل عسكري وديبلوماسي حاسم ضد إيران وسوريا.
السلام عليكم.