فى الساعة الثالثة صباح يوم الخميس كانون الثانى، وبينما كانت المدينة هادئة والناس في نوم عميق، كان هناك اربع طوافات عسكرية امريكية تحلق فى سماء اربيل.
الهدف كان القنصلية الايرانية فى اربيل وموقعين آخرين يعودان للايرانيين يشتبه انهما تابعان لجهاز المخابرات الايرانية (الاطلاعات)، حسبما هو مشاع، احدهما فى اربيل والثانىٍ فى بلدة (سه رى ره ش) الجبلية على بعد ثلاثين كيلومترا من اربيل، وهى مقر اقامة مسعود البارزانى رئيس اقليم كردستان. ففى اليوم السابق من الحادث كان نائب مستشار الامن القومى الايرانى (آغاي جعفري) فى ضيافة البارزانى. سبق اجتماع البارزانى - الجعفرى اجتماع آخر بين البارزانى و أحد الدبلوماسيين الامريكيين فى مقر ضيافة البارزانى فى نفس اليوم.
يثير اختطاف المسئولين الايرانيين تساؤلات كثيرة متشابكة حول خفايا وابعاد الاستراتيجية الامريكية في كردستان. يتسم الحادث بطابع مخابراتي بين لاعبَين اساسيين هما الاكبر في الساحة العراقية (امريكا و ايران). في جنوب العراق هناك هيمنة ايرانية واضحة. وكذلك في العاصمة بغداد حيث تئنّ تحت وطأة القتل الجماعي والطائفي،حيثٍ يرى السنة ان الميلشيات الشيعية تحظى بدعم لوجستي ومكثف من ايران،ويجري ذلك -حسب اهل السنة والجماعة- تحت انظار امريكا. وجاء اعدام صدام حسين ليضيف الى التوكيد السني، الوثوق والاطمئنان بصحة مذهبهم في قراءة العلاقة الامريكية بالامتداد الايراني. فالامريكان سلٌموا صداماً الى (ميليشيات شيعية) لاريب في وثاقها المشدود بـ (ايران). وجرى الاعدام بسرعة تجاوزت المتطلبات القانونية والدستورية للدولة(جلال طالباني رئيس الجمهورية لم يوقع على تنفيذ الاعدام). ولكن الموقف الامريكي من ايران في كردستان العراق يختلف تماماَ.
فكردستان التي تحظى باستقرار وأمن واضحين لايرى فيها وجود امريكي مرئي، مما حدا بدول اقليمية التحرك بمرونة اكبر على مستويات مختلفة، يجري بعضها عن طريق المنظمات والشركات التجارية والاقتصادية،لايستبعد صلاتها المخابراتية والسياسية.
وياتي ذلك في وقت يتحرك فيه حزب العمال الكردستاني بنشاط كبير في المناطق المحاذية لايران و تركيا. وجرت معارك كثيرة في الاشهر الماضية بين حزب العمال الكردستاني مع الدولتين المذكورتين. امريكا ليست مطمئنة البال ازاء التحرك الاقليمي في كردستان، لكن ما فتئت ايران وتركيا في لوم امريكا والطلب منها توجيه ضربة عسكرية الى الحزب العمال الكردستاني. الا ان امريكا بدل ان تحقق الهدف الايراني / التركي اجرت اتصالات واجتماعات متواصلة مع الحزب المذكور.
وفي وقت وصَلت الثقة بين السنة والشيعة الى نقطة الصفر، بل والانعدام، يعاني العراقيون ازمات تتعاظم يوما بعد اخر. فانعدام الامن وكذلك الخدمات وارتفاع نسبة الفقر والبطالة بنسب اقرب الى الخيال رغم واقعيتها، تواجه بنية الدولة العراقية تفكيكا مرغما وسريعا. فالشيعة امّنوا عمقا جغرافيا وسياسيا ودينيا مع ايران. وترك امر السنة لدول اخرى تشكل العمق القومي والسياسي لهم، كـ (السعودية والاردن ومصر)، وكذلك تركيا عبر علاقتها مع الدول المذكورة، فضلاً عن جوارها الجغرافي ودورها التاريخي. لذلك فان المؤتمر السني جرى في اسطنبول للاعتبارات المذكورة.
السنة كثّفوا نشاطهم اقليميا (لحجب الثقة) عن حكومة المالكي، وعبّرت كل من الاردن ومصر والسعودية - في الآونة الاخيرة - عن مواقف لم تلق أي ترحيب لدى الشيعة في العراق.
وعلى الصعيد الكردي يتمتع الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، بعلاقات وثيقة مع ايران تمتد الى زمن (الشاه) الذي لم يغيّر رحيله من ايران أي شيء من هذه العلاقة، وهي اليوم لا تقتصر على السلك الدبلوماسي والسياسي فقط، الا ان الحزب الديموقراطي يحافظ على علاقة متبلورة بامريكا، شابها عدم الثقة، واحيانا الاختلاف بينهما.التجارب السابقة القت بظلالها على علاقة الديموقراطي الكردستاني بامريكا كانهيار الثورة الكردية عام 1975،مرورا بمحطات اخرى حزينة بالنسبة الى الجانب الكردي، و وصولا الى تقرير بيكر- هاملتن الذي واجه استياء ومعارضة الاكراد.
ويرى المراقبون ان اختطاف امريكا للدبلوماسيين الايرانيين من دون اعلام السلطات الكردية، جاء ليؤكد ان القرار الاول والاخير في الشأن الكردي يعود لـ (امريكا).
وفي ظل النشاط الايراني المكثّف لتخصيب اليورانيوم، وكذلك الهيمنة التي تبحث ايران عن توسيعها اقليميا، لا يستبعد ان يكون خطف الدبلوماسيين ناجما عن ضرورة سياسية ومخابراتية للهيمنة الامريكية في العراق(اشارت كوندا ليزا رايس: ان قرار الخطف جاء بامر مباشر من الرئيس بوش)،وكذلك للحصول على معلومات سرية تتعلق بالشأن الايراني لا سيما وان محتويات مكاتب الممثليات الايرانية تم اخذها من قبل الامريكيين، وفي ظل تعقيدات الوضع العراقي المتعاظمة يوما بعد آخر، ينحو التحرك السياسي والعسكري لمختلف الاتجاهات في العراق نحو التعقيد والتشابك.
وفي هذا السياق - ربما- يأتي اعدام صدام حسين بالسرعة المذهلة، كـ (صفقة) متفقة بين امريكا وايران والجماعات الشيعية العراقية، عبر قراءة كل طرف من هذه الاطراف لاستراتيجيات الآخر.
لقد قضى تنفيذ الاعدام بحق صدام حسين، على جميع الاسرار التي كانت بحوزة الرجل، والتي كان من شأنها اقلاق امريكا على اكثر من صعيد، خصوصا وان امريكا تدخلت مباشرة في دعم العراق في تحرير ( فاو ) حيث استعمل العراق وقتئذ ( 1988 ) اسلحة محرمة دوليا ضد ايران. وادى ذلك الى تغير استراتيجي في نتائج الحرب انتهت بانتصار العراق في اتفاقية انهاء الحرب بين البلدين رغما عن ايران التي ( تجرعت كأس السم ) وفق تعبير الخميني انذاك الوقت.
وليس بمستبعد ان تكون (الصفقة) تتضمن جملة مسائل :-
1-طمس الحقائق والاسرار التي كانت بحوزة صدام حسين.
2-في مقابل ذلك، ان يتم تحرير يد ايران في مناطق الشيعة بالعراق.
3-عمل البلدين ضد منظمة القاعدة اتفاقاً من دون تخطيط مسبق في ظل الصراع الطائفي في المنطقة.
4-عدم تدخل ايران في شئون كردستان، واخلاء سبيل حزب العمال الكردستاني في مواجهة تركيا.
5-عدم اثارة القلاقل من جانب امريكا في ما يخص كردستان الايرانية.
6-المحافظة على مصالح امريكا الاقتصادية، وكذلك عدم التعرض الى الامن الاسرائيلي والتحذر من الخط الوقائي للتواجد الامريكي.
ثمة مسائل اخرى تتعلق بالاستراتيجية الامريكية في المنطقة ضمن هذا التشابك المترامي الاطراف، تندرج في سياق الادامة بالسياسات المتبلورة تاريخيا. فالمحافظة على التوازنات بين مراكز القوى، ودعم الصراع القومي والديني، وعدم الجدية في فظ المنازعات والحروب، هي التي تتجلى بوضوح عبر المشهد العراقي النازف.
والديموقراطية التي بدت الديباجة في الدخول على اعتاب عراق جديد، يستحيل على الواقع استساغتها اكثر مما كانت عليه الظروف ايام الحكم الدكتاتوري لنظام صدام.
وامست المعارضة العراقية السابقة، المالكة زمام الامور في الوقت الحاضر، بوابة خلق الظروف الراهنة المنكسرة على ابعاد ذات ظل ثقيل ودامي. ففي مقال لكاتب هذه السطور عام 1999 في (النهاراللبنانية)، اُستشف مسبقا الافق السياسي للاحزاب والجماعات العراقية على انها تنتهي في العراق اسوأ من نظام صدام،بخلق حرب طائفية وعرقية ضروس، ربما ستستمر لاماد طويلة جدا. ويبلغ اليوم ضحايا الحرب منذ سقوط نظام صدام اكثر من نصف مليون انسان !
وعلى صعيد الاستراتيجية الامريكية هناك اكثر من قناة، تدعم استمرار الظرف الراهن.
فامريكا التي اقصت السنة من الحكم تغض الطرف عن الدعم الاقليمي والعربي لجماعاتهم ومن ضمنها تركيا التي نظمت المؤتمر السني قبل اسابيع. وعلى طرف آخر تقوي امريكا سطوة الاحزاب الشيعية المرتبطة بالحوزة العلمية، والتي ليس في بنيتها شىء يؤدي بها الى مشارف الديموقراطية. فضلا عن ذلك تدعم امريكا حزب العمال الكردستاني واكراد العراق الا انها تمتنع عن سيطرة الاكراد على مدينة كركوك الغنية بالنفط. واذ يبدو الدعم الامريكي لكردستان العراق واضحا في الشأن السياسي، الا ان علاقة امريكا بحزب العمال تنضوي تحت العمل المخابراتي. وامريكا التي تعرف بقوة ايران في العمق العراقي تعارض وتراقب حركتها في كردستان العراق. الا انها -امريكا- لا تحسب حتى الآن أي حساب لاكراد ايران البالغ عددهم (15) مليونا. وحيث تعارض امريكا اقامة دولة كردية، تدخل في احتدام سياسي مع دول الجوار الكردي في مشاحنات سياسية كبيرة احيانا وخصوصا مع تركيا. وفي ما يخص ايران فان هيمنتها كدولة اقليمية في المنطقة تاتي في الأولوية، اكثر من الصراع الظاهري لها مع امريكا - اسرائيل. لا يبدو في الافق استقرار وامن للمنطقة على المدى القريب. واذا ما استمرت الاوضاع في العراق، في ظل الاحتراب والاقتتال الطائفي، فليس ببعيد ان تتحول العراق مستقبلا ساحة لحرب كبيرة بين ايران ودول اقليمية في المنطقة، يكون السنة واجهة لها في مقارعة ( المد الصفوي ) حسب تعبير عربي سني.
هناك اليوم كثافة شرائية لاسلحة مختلفة، من قبل الجماعات العراقية. واذا كان اندفاع هذه الجماعات بهذه القوة، في الوقت الذي يتصدع بنيان الدولة، وتتقطع اوصاله، فان الاستراتيجية البعيدة في هذه البقعة تنحو باتجاه مصير قاتم في صراع سيدوم طويلا على الاغلب.
في احد بنود تقرير بيكر - هاملتن، هناك اشارة الى ضرورة بيع الاسلحة للحكومة العراقية، وفعلا تسلمت وحدات الجيش العراقي قبل ايام اربعة الاف ناقلة وآليات عسكرية من امريكا، فضلا عن معدات واسلحة متنوعة. كذلك فان القوات الامريكية توزع مباشرة الاسلحة على البيوت والمنازل ( للدفاع عن انفسهم) ضد (الارهابيين) وعلى طرف آخر اعترف برهم صالح (نائب رئيس الوزراء العراقي) ان هناك ثلاثمائة مليون دولار تسرق شهريا من نفط البصرة في حين ارتفع سعر البرميل الواحد في كردستان الاكثر استقرارا وامنا الى ما يقارب مئتين وخمسين دولارا.
وفي الوقت الذي وجهت (كوندو ليزا رايس) تحذيرات الى حكومة المالكي على انها نفذت مدتها المطلوبة، بشرت بتسليم الامن الى العراقيين - تماما- بحلول شهر تشرين الثاني المقبل ! ولكن الطريق الى الامن العراقي لا يكون بتحويل العراق الى مجتمع ذي وحدات عسكرية، ومخازن للاسلحة المتنوعة، في الوقت الذي يشهد الاقتصاد والسياسة العراقيين ازمات مستعصية على العلاج.
فامن العراق وفوضاه ينعكس مباشرة على الامن الاقليمي، ولهذا فان باع الدول الاقليمية طويل في الشأن العراقي، وهو ما يدفع بالامريكان الى قطعه احيانا (وليس كليا)، كما جرى بخطف الدبلوماسيين الايرانيين في اربيل.
وفي خضم التحولات المتسارعة، فان العراق ومعها الدول الاقليمية مقبلة على مشارف عتبة غامضة ومخيفة حقا !