(1)
هناك باب للفتوى فى موقعنا (أهل القرآن) أقوم فيه بالرد على من يستفتينى. ولأنه لا يجوز لأحد أن يفتى برأيه و يزعم أن ما يقوله هو رأى الدين أو رأى الاسلام، بل هو رأيه هو واجتهاده هو الذى قد يصيب و قد يخطىء،فقد حرصت على فتح الباب للتعليق على ما أفتى به، وما يسرى على التعليق على فتواى هو ما يسرى على شروط الكتابة فى موقعنا المفتوح للجميع بشرط عدم الطعن فى الاسلام كدين و عدم الاتيان بأحاديث منسوبة للنبى محمد عليه السلام لأننا نعتبر نسبة تلك الأحاديث له إجراما فى حقه و كفرا برسالته. ما عدا ذلك فلكل انسان الحق فى ان يجتهد برأيه وهو مسئول عن اجتهاده، وهو يعبر عن نفسه فقط، ويبقى الاسلام العظيم منزها عن أخطائنا و خطايانا. الشيوخ الآخرون ممن يصدرون الفتوى أتمنى أن يتيحوا للقراء التعليق على فتاويهم وانتقادها بمثل ما أفعل فى موقعنا:
http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_fatwa.php?main_id=86
وقد جاءنى هذا السؤال :
(ما هي مكانة الحجر الاسود في الاسلام؟ وهل صحيح ان الرسول عليه الصلاة و السلام قبله كما روي عن عمر بن الخطاب؟ وهل يمكن ان يكون القرامطة قد استبدلوه بحجر اخر بعد سرقته لما يزيد عن 20 عاما؟)
وقلت فى الاجابة عليه :
(ليست للحجر الأسود أى مكانة فى الاسلام، وليس فى الاسلام تقديس لبشر أو حجر.
الحجر الأسود هو مجرد حجر مختلف اللون عن بقية أحجار الكعبة لتحديد بداية الطواف لكل الطائفين حتى لا يطوف بعضهم من اليمين والآخر من اليسار فتصبح فوضى.
المسلمون فى تخلفهم العقيدى لا يقدسون فقط الحجر الأسود بل يقدسون كل أحجار الكعبة ويعتبرونها مقدسة. إن الكعبة مجرد بناء من أحجار ومواد بناء مما نسير عليه بأقدامنا،وليست مقدسة فى حد ذاتها، بل يحرم لمسها اثناء الطواف ـ بل يحرم لمس أى حجر منها ومنها الحجر الأسود. بناء الكعبة هو لتحديد مركز هذه الكرة الأرضية وما حوله وما يحيط به جعله الله تعالى حرما مكانيا له جل وعلا.
التفاصيل فى مقال : (هل حقا يريد تنكريدو ضرب الكعبة) ومقال (تدنيس القرآن الكريم)
وأنصح الأخوة الأعزاء بقراءة مقالاتى أولا قبل السؤال عما سبق كتابته وتوضيحه)
وجاء تعليق من أحد القراء يقول :
(نعم أحجار بيت الله مقدسة كالوادي المقدس وكالأرض المقدسة)
(الحجر الأسود مقدس وكل حجر بالكعبة مقدس لأن بيت الله الحرام مقدس وكذلك مافيه من مقدسات كجبلي أو صخرتي الصفا والمروة من شعائر الله ومن حرمات الله فقد قال الله : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } (158) سورة البقرة)فلو قبّلت الصفا والمروة فإنك تقبّل شعائر الله وهو من قبيل التعظيم والتقديس لا العبادة (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (32) سورة الحـج. وقد سمّى الله وادياً بالوادي المقدس : {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (12) سورة طـه (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (16) سورة النازعات. وسمّى أرضاً بالأرض المقدسة(:يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } (21) سورة المائدة
فهل قليل على أحجار بيت الله أن تكون مقدسة ؟
وتقبيل الحجر الأسود من قبيل تقديس بيت الله فهل من حرج على مسلم إذا قبّل بيت الله أو قبّل المصحف؟..)
(2)
أوردت هذه القصة لأتخذ منها مثالا عمليا لنوعين من مناهج التعامل مع القرآن الكريم.
فالقارىء الذكى المعترض علينا لم يشأ ان يستدل بما نرفضه وهو الأحاديث المنسوبة للنبى محمد، واكتفى فى الرد بآيات قرآنية، ولكن تعامل معها بمنهج أهل التراث الذى ينتقى من الايات ما يوافق هواه و يتجاهل الايات الأخرى، ثم يؤول المعانى و يقيس هذا على ذاك، وفى النهاية يأتى بالرأى الذى يؤمن به مسبقا، بعد التحريف و التأويل و القياس.
ليس فى القرآن الكريم اشارة الى الحجر الأسود، و لكن تقديسه و التبرك به سوغه حديث كاذب يزعم ان النبى محمدا عليه السلام قبّله. ثم يأتى التلفيق و الانتقاء بربط تقديس الحجر الأسود بآيات تتكلم عن تعظيم شعائر الله تعالى واعتبار جبلى الصفا والمروة من شعائر الله، وبالتالى فان تعظيمهما يعنى تقديسهما وبالتالى فيمكن بالقياس على أحجار الصفا والمروة أن نقدس الحجر الأسود وحجر رشيد اذا أمكن..
البحث فى القرآن الكريم ليس لتأييد فكرة مسبقة وانتقاء آيات وترك أخرى، هذا تلاعب بآبات الله تعالى يضل به فاعله ويضل معه الآخرين. البحث فى القرآن الكريم لا بد فيه أولا من الاخلاص و طلب الهداية والاستعداد المسبق لقبول ما يقوله القرآن الكريم مهما كان مخالفا لما وجدنا عليه آباءنا. اى نبدأ بالتسلح بالهداية، وهى فى المصطلح المنهجى تعنى الموضوعية فى البحث، اى لا تكون لدى الباحث فكرة مسبقة يريد إثباتها. بعدها نتتبع أصول البحث العلمى بتجميع كل الآيات الخاصة بالموضوع، و ما يتصل بها، ثم نسير خلف الايات كلها ـ اى نتدبرها جميعا ـ وفق المصطلح القرآنى، أى نفهمها طبقا لمصطلحاتها و مفاهيمها القرآنية، وليس للمفاهيم التراثية التى تعارفنا عليها و توارثناها.
وبالتطبيق على موضوعنا عن تقديس الحجر الأسود، فمنذ البداية لا نجد له أدنى إشارة فى القرآن وبالتالى لا علاقة له على الاطلاق بشعائر الحج. فاذا حاول أحدهم بالانتقاء التلاعب بآيات الله تعالى ليستخلص تحريفا يسوغ تقديس الحجر الأسود فان البيان القرآنى الواضح القاطع يقف ضده.
ونعطى هنا مثالا عمليا نرد فيه على ما قاله المعترض علينا.
نبدأ بتحديد مصطلحات القرآن الكريم فى الكلمات التى استشهد بها القارىء بعد تجميع كل الايات القرآنية التى وردت فيها هذه الكلمات ومشتقاتها : (تعظيم و شعائر وحرمات) وهى الآتى :
ِ(إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة 158)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. يأ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) (المائدة 1 :2)
(فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة 198)
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.ثمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ.لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج 26 : 34)
وبالتدبر فيها نرى الحقائق القرآنية التالية :
1 ـ هذه الألفاظ (ومشتقاتها) ترتبط بالبيت الحرام و الحج اليه.
2 ـ ان مصطلح (شعائر) مرتبط بمصطلحين هما (تعظيم الشعائر) و (لا تحلوا شعائر الله) أى التعظيم وعدم الاستحلال. وبالتالى فان التعظيم هنا لا يعنى التقديس و التبرك ولكن يعنى عدم الاستحلال فيما حرم الله تعالى. ففى سورة المائدة ينهى الله تعالى عن الاعتداء على شعائر الله وانتهاك حرمتها، وفى سورة الحج يأمر الله تعالى بتعظيم الشعائر. والمفهوم هنا أن التعظيم يعنى عدم انتهاك حرمة الشعائر.
3 ـ ان الشعائر المطلوب تعظيمها وعدم انتهاكها هى ما جاء فى قوله تعالى (لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)أى هى :
*(شعائر الله) داخل الحرم
*(والهدى) أى الأنعام التى يؤتى بها هديا لتذبح فى الحرم.
* و (القلائد) :كانت تلك الأنعام المهداة للبيت يتم تمييزها بقلائد حتى لا تتعرض للسرقة أو النهب فى طريقها الى مكة، وقد جعل الله تعالى تلك (القلائد) من شعائر الله فى الحج بمعنى تحريم التعرض لها أو أخذها لأنه يترتب على أخذها ضياع الأنعام التى تحملها.
* (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) أى القاصدين للحج، فالحجاج أو الذاهبون للحج أو قوافل الحجاج يحرم التعرض لهم وهم فى طريقهم الى الحج.
أى أن شعائر الله تعالى أو حرمة البيت الحرام تتعدى المسجد الحرام لتشمل كل آت الى البيت الحرام من بشر وأنعام وحتى قلائد الأنعام. كلها من شعائر الحج أى حرمات الحج بمعنى أنه يحرم التعرض لها. ثم تقول الاية الكريمة (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) أى أن صيد الطير و الحيوانات البرية محرم فى الحرم، ومحرم خارج الحرم لمن كان محرما، وهذا ما فصلته نفس السورة فيما بعد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) (المائدة 95). وبعدها أوجز الله تعالى شعائر الحج وحرماته ومعنى تعظيمها فى قوله تعالى (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ٌ) أى جعل الله تعالى الكعبة قياما للناس أى لتعظيم الحرمات والأوامر المرتبطة بها مما يخص الحج والحجيج، ويمتد ذلك الى الأشهر الأربعة الحرم والهدى من الأنعام و القلائد التى تتزين وتتميز بها تلك الأنعام، وحتى لا ينتهك أحدهم حرمتها فان الله تعالى يحذرنا فى الاية التالية فيقول (اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة 97 : 98)
نستفيد من سورة المائدة النهى عن استحلال شعائر الله داخل البيت الحرام والنهى عن استحلال ما يأتى للبيت الحرام من أنعام وقلائد ومن يأتيه حاجا من الناس، ثم من دخل البيت صار آمنا (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً َ) (آل عمرن 97).
وفى سورة الحج يأتى التركيز على الهدى أو الأنعام كاحدى شعائر الله تعالى، يقول تعالى (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) أى ذكر الله تعالى هنا مرتبط بتقديم الهدى و الأكل منها.
وتبين الآية الكريمة ان ذلك هو التعظيم لحرمات الله، وتربط ذلك التعظيم مرة ثانية بالأنعام فيقول تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) ثم يتأكد الربط ثالثا بين الأنعام وتعظيم شعائر الله فى قوله تعالى (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ.لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ثم رابعا فى قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)
4 ـ بالاضافة الى ما سبق فان معالم الحرم الداخلية هى من الشعائر، ومنها المشعر الحرام و الصفا والمروة يقول تعالى عنهما : (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) والآية توضح (جواز) الطواف بهما دون حرج ولا مؤاخذة. على ان يكون ذلك بعد اتمام الحج أوالعمرة.ومعنى أنها من الشعائر أنه لا يجوز استحلال ما حرم الله تعالى فيها. والله تعالى حرم أثناء الاحرام فى البيت الحرام بعض الحلال مثل قتل الصيد ومثل الرفث مع الزوجة ومثل الجدال، يقول تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة 197) كل هذا يعنى تعظيم حرمات الله تعالى ليس فقط فى الابتعاد الظاهرى بل التحريم والتعظيم داخل النفس البشرية بحيث أن الله تعالى يؤاخذ على النية الشريرة أو ارادة الشر لمن كان (محرما) فى الحج.يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج 25) أى إن من يرد ـ مجرد ارادة ـ أن يلحد فى البيت أو أن يظلم فيه فالله تعالى يتوعده بعذاب أليم، لأنه لم يعظم فى نفسه وفى سريرته وقلبه (شعائر) الله تعالى أو (حرمات) الله تعالى، فى بيته (الحرام) فى شهره (الحرام) وفى وقت (الاحرام).
اذن التعظيم للشعائر هو عدم استحلال ما حرم الله تعالى فى البيت الحرام وفى موسم الاحرام والحج، مما يشمل كل ما يخص الحج والحجاج. وبالتالى فان تعظيم الشعائر والحرمات هنا لا يعنى التبرك والتقديس. وإلا كان علينا أن نتبرك ونقدس الأنعام التى نذبحها هديا، و أن نتبرك ونقدس القلائد التى تحملها تلك الأنعام، و أن نتبرك ونقدس الحجاج الى بيت الله، بالاضافة الى احجار الصفا والمروة التى نسير عليها بأقدامنا. هذا بالطبع خبل لا مثيل له، وان كان مقبولا فى عقائد المشركين الذين يعبدون ما ينحتون، ويقدسون الاحجار التى عليها يسيرون.
(3)
نأتـى الى الموضوع الآخر وهو التقديس
واختصار للوقت فقد جمعنا كل الايات التى ورد فيها مصطلح التقديس ومشتقاته بنفس ما فعلنا آنفا، وندخل مباشرة على نتائج التدبر فيها، ونضع الحقائق القرآنية التالية:
1 ـ الله تعالى هو المستحق وحده للتقديس :
فالملائكة تقول لرب العزة جل وعلا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة 30)
ويرتبط التسبيح لله تعالى وحده بتقديسه جل وعلا وحده(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة 1). فاذا كان التسبيح والحمد لله تعالى وحده لا شريك له، فانه أيضا الذى يستحق وحده التقديس طبقا للآية الكريمة. ولأنه لم يرد فى القرآن الكريم مطلقا أدنى إشارة الى تقديس غير الله مع الله. ويكفى أن الملأ الأعلى من الملائكة ـ وهم صفوة الخلق ـ يسبحون بحمد الله تعالى و يقدسونه. وإذن فلا محل لتقديس غيره جل وعلا.
2 ـ القدوس اسم لله تعالى وحده
القدوس اسم من أسماء الله تعالى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر 23) ولا يصح تسمية بشر بهذا الاسم.
3 ـ تقديس الله تعالى يمتد الى تقديس كلامه ووحيه وكلمته جل وعلا الالهية، وعلى سبيل المثال فان جبريل هو الذى حمل الكلمة الالهية (كن) فتم بها خلق آدم وخلق عيسى وهو الذى حمل الوحى الالهى. جبريل سماه الله تعالى (روح القدس)، وكان روح القدس مؤيدا لعيسى عليه السلام : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (البقرة 87) وأيضا (البقرة 253) (المائدة 110) (النحل 102).
4 ـ وهناك فاصل اساسى بين تاييد روح القدس وبشرية عيسى ومريم عليهما السلام. لذا فان الله تعالى يؤكد على ان عيسى وأمه السيدة مريم بشر مثل بقية البشر، وأنهما كانا يأكلان الطعام، يقول تعالى (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة 75). وعبارة (كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) تثبت البشرية وتنفى التقديس بالنسبة للمسيح عليه السلام و السيدة مريم، لذا تكرروصف الأكل من الطعام للانبياء (الفرقان 20) منعا لتقديسهم و تأليههم، كما كان سمات الألوهية لله تعالى أنه الذى يطعم الناس ولا يطعم (الأنعام 14) لأن الطعام أبرز مظهر للاحتياج، فأنت تحتاج الى الحصول عليه ثم الى أكله وهضمه و إخراجه، وفى كل مرحلة تكون فقيرا لله تعالى محتاجا اليه، من السعى طلبا للرزق الى عملية الأكل نفسها من البلع والمضغ و الهضم الى التبرز،. ولو تعطل جزء من تلك المراحل لجأرت بالشكوى والصراخ. يسرى هذا على كل البشر من أنبياء و مجرمين، ولا يمكن لبشر محتاج ان يكون الاها مع الله جل وعلا. وقوله تعالى (انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) موجّه أيضا للمسلمين الذين يقدسون البشر و الحجر.
المهم هنا هو الفصل التام بين الوحى الالهى المقدس الذى كان يحمله جبريل (الروح القدس) وبين البشر حتى الأنبياء منهم. والمهم أيضا أن عيسى نفسه الذى خلقه الله تعالى بكلمة كن ـ والتى حملها الروح القدس ـ موصوف هو وأمه أنهما كانا ياكلان الطعام، اى بشر يتبولون و يتغوطون و يصيبهم الامساك و الاسهال و..وو..
5 ـ وصف المقدس قد يلحق بالمكان الذى شهد ـ فى وقت ما ـ كلام الله تعالى، ولكن وصفه بالمقدس لا يعنى تقديس ذلك المكان وعبادته والتبرك به.
يقول تعالى عن تكليمه موسى بالوادى المقدس (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) (النازعات 15 : 16) (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى.إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه 11 : 14). المقدس هنا يعنى المكان الطاهر. وحين كلم الله تعالى موسى كان موسى وحيدا فى سيناء، فأمره الله تعالى وهو يتلقى الكلام المباشر من رب العزة أن يخلع نعليه فى ذلك الوادى الذى أصبح مقدسا بهذه المناسبة الالهية. وبعدها صار هذا الوادى مع الجبل التابع له هو المكان الذى تلقى فيه موسى الألواح، ويتكلم فيه مع الله تعالى. إنه جبل الطور الذى رفعه الله تعالى فوق بنى اسرائيل وأخذ عليهم العهد والميثاق (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) (البقرة 93) (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف 171)
هذا الجبل تم تدميره فى حياة موسى حين طلب موسى من ربه أن ينظر اليه: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف 143) أى جعله الله تعالى دكا. وبالتالى فليس له وجود بنفس ما كان فى عهد موسى. وليس موجودا لنا الآن كى نزوره، ولم يأت فى القرآن أمر لنا باتخاذه حرما لله تعالى، أو بان نحج اليه، أو أن نتبرك به، حتى لو كان موجودا بحالته ومعروفا بمكانه من وقت موسى الى عصرنا. كل ما جاء فى القرآن الكؤريم هو وصف لجبل ووادى فيه، وفى هذا المكان كلم الله تعالى موسى أكثر من مرة، فاستحق أن أن يوصف بالمقدس. وليست لنا أدنى علاقة بهذا المكان ولا يدخل فى صلاتنا ولا فى شعائرنا الدينية من صلاة و صيام وحج وصدقات. بل ليس أصلا معروفا لنا. بل ذكر الله تعالى أنه قد جعله دكا.
ونفس الكلام يقال على فلسطين التى عاش فيها أنبياء سابقون لموسى، (ابراهيم ثم اسحق ثم يعقوب). وفيها تلقوا الوحى الالهى فأصبحت تلك الأرض بالوحى الالهى طاهرة مقدسة، و أنقذ الله تعالى بنى يعقوب أو بنى اسرائيل من ظلم الفرعون، وأمرهم الله تعالى ان يدخلوا الى أرض عاش فيها أجدادهم الأنبياء و شهدت الوحى الالهى بمثل ما حدث فى سيناء وجبل الطور، فقال موسى لقومه (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ) (المائدة 21). لم يأمرهم بالتبرك بها و تقبيل ترابها وتوثينها، بل أمرهم بدخولها اى السير فيها بنعالهم و معهم دوابهم، وبالتالى عليها يتبولون و يتغوطون، أى ليست مقدسة بمعنى أن نتبرك بها و نقدس ترابها ونلمسه تعبدا وورعا كما يفعل من يعبد الأضرحة ومن يعبد الحجر الأسود أوالبحر الأسود.
المضحك انه حتى الذين اعتبروا أرض فلسطين مقدسة لم يحترموا قدسيتها بهذا المفهوم، فتحولت فلسطين عبر السنين الى ميدان حرب لا يهدأ، بدءا مما فعله الاسرائيليون بعد موسى طبقا لما جاء فى العهد القديم، ثم الرومان المسيحيون ثم المسلمون من العرب والأتراك والمماليك، ثم لا ننسى الحروب الصليبية والاستعمار الحديث ثم الاحتلال الصهيونى وحماس وأخواتها. فهل التقديس الذى يصفون به فلسطين أعطاها حصانة أو حماية ؟ أم أن هذا التقديس الخاطىء هو الذى جعلها مثار النزاعات وانتهاك شرع الله تعالى ؟
6 ـ هنا نأتى الى معنى التقديس.
فهو عبادة الله تعالى وحده بالتسبيح والحمد. وهو طاعة أوامره باجتناب ما حرم وما نهى عنه. وأول المنهى عنه هو تقديس الحجر و البشر وعبادة غير الله.
ولكنهم يفعلون العكس دائما. فالوحى الالهى (الذى نزل فى فلسطين وصارت به أرضا مقدسة) هوالذى يجب تقديسه بمعنى طاعته، وطاعته تكون باشاعة السلام و العدل مع الله تعالى بألا نعبد سواه، والعدل مع الناس بألاّ نظلم الناس، ولكن الذى حدث هو تقديس التراب بمعنى عبادته وهذا ظلم لله تعالى، نشأ عنه التنازع و التحارب فتحولت فلسطين من أرض للسلام الى أرض للحرب. لو كان التقديس لوحى الله تعالى وحده متمثلا فى طاعة الخالق جل وعلا فى العقيدة و السلوك لانتشر السلام وتحقق العدل. ولكن تقديس البشر والحجر دمر أرض السلام وغيرها.
وبيت الله الحرام جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا وحرّم الله تعالى المساس بالحجاج وما معهم من هدى وقلائد ولكن الاعتداء على قوافل الحجاج كان عادة سنوية منذ العصر العباسى الى أواخر العصر العثمانى، والاعتداء على شعائر الله تعالى واوامره داخل الحرم لا تزال سائدة، وأهمها تقديس بناء الكعبة وأحجارها، وتقديس وعبادة الحجر الأسود والتبرك به.
ودائما تتناقض أديان المسلمين الأرضية مع الاسلام دين الله تعالى. وهم دائما يدافعون عن معالم دينهم بالتلاعب بآيات الله تعالى بالانتقاء و التجاهل و التحريف و التحوير.
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وموعدنا معهم أمام الله تعالى ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون.
التعليقات