تعتبر البطالة من أهم المشاكل التي تعاني منها الدول العربية اليوم، إذ فشلت المخططات التنموية في تخفيض نسبة البطالة، التي بقيت بمعدل 15% في المنطقة حسب التقديرات الرسمية، في حين تقدر بعض المصادر المستقلة هذه النسبة بحدود 30%، و هي نسبة عالية بالمقاييس العالمية. مع هذا، يوجد فارق بين دول مثل تونس التي تقارب فيها نسبة البطالة المعدل العام بالمنطقة العربية، بينما تصل هذه النسبة إلى 22% في المغرب وحوالي 30% في الجزائر و سوريا ( حسب الأرقام الرسمية ). و يلاحظ أن نسبة البطالة في هذه الدول تكون ضعف المعدل العام عند النساء. كما ترتفع عند الشباب الذين يدخلون سوق العمل لأول مرة، بمن فيهم خريجو الجامعات، حيث تصل البطالة إلى 85% في أوساط الشباب دون الثلاثين في الجزائر، على سبيل المثال.

تختلف الدروس المستفادة والتوصيات حسب التجارب وقصص النجاح التي يتم تدارسها. فبالمقارنة مع الدول سريعة النمو ( مثل الصين و الهند )، تكون التوصية للدول العربية بضرورة رفع نسبة التنمية الاقتصادية ( إلى حوالي 6.5%، حسب توصيات البنك الدولي )، و بالمقارنة مع النمور الآسيوية، تكون التوصية بضرورة تطوير التعليم المهنـي المتدهور جدا في الدول العربية، و انتهاج سياسة اقتصادية تدعم الصادرات... يركز هذا المقال على الدروس التي يمكن الاستفادة منها بناء على التجربة الدانماركية، التي نجحـت في التوفيق بين المرونة اللازمة لقوانين سوق العمل مع حماية حقوق العمال، وهي تجربة على غاية الأهمية بالنسبة للدول العربية، حيث تجمع الدراسات على وجود خلل كبير في أسواق العمل فيها.

تكمن المشكلة في أن قوانين العمل العربية تعود إلى بداية الاستقلال، حيث تم سنها في ظل اقتصاد غير تنافسي محمي من الخارج بالتعريفة الجمركية و إجراءات إدارية أخرى. لذلك توجد عوائق عدة أمام المؤسسة الصناعية، التي تحتاج - في ظل المنافسة العالمية - للتخلص من بعض العمالة الزائدة، بحكم التطـور التكنولوجــي ( تعويض العمالة بمهارات و خبرات جديدة أو آلات تعتمد على شبكات الاتصالات و الكومبيوتر... )، أو نتيجة انخفاض الطلب العالمي... وبما أن إدارة المؤسسة تعلم ذلك مسبقا، فهي لا تقوم بتوظيف العمالة التي تحتاجها استباقا لانكماش الطلب، مما يؤدي إلى مزيد من البطالة... وغالباً ما تعمل النقابات العمالية في هذا الاتجاه، حيث أن أعضاءها هم من العاملين الذين يدافعون عن المزايا التي يتمتعون بها، بينما لا تجد جيوش العاطلين العرب من يدافع عن مصالحهم، حيث لا توجد نقابات أو مجموعات ضغط من أي نوع للدفاع عن هذه الشريحة التي تحرم من المستقبل، أي من العمل و السكن و الأسرة، مما يفقدها الشعور الوطني و الولاء للدولة و النظام الاجتماعي القائم، و من ثم قد لا تجد ضالتها إلا بالانتماء إلى الفكر الجهادي التكفيري، الذي يقدم حلول جاهزة، وهو ما اكتشفته المغرب بعد تفجيرات الدار البيضاء، حيث تبين أن الإرهابيين جاءوا من أحياء الصفيح.

تكمن أهمية التجربة الدانماركية في موازنتها بين السماح لأصحاب المؤسسات بالتخلص من العمالة الزائدة، وفي نفس الوقت، إعطاء تعويضات مالية و توفير برامج تكوين مهني تسهل على العمالة التي فقدت وظائفها الحصول على وظائف جديدة، إذ أن التكنولوجيا الحديثة لا تعوض العمل البشري بالعمل الآلي في قطاع ما، إلا بقدر ما توفر عملا بشريا في أنشطة أخرى، خصوصا الخدمات التي تشغل 65% من العمالة في العالم.

ترتكز السياسات النشطة في سوق العمل في الدانمارك على:
أ - إعطاء العاطلين تعويضا يبلغ حوالي 80% من أجرهم السابق. و ليس بإمكان الدول العربية توفير هذا، لكن بإمكانها تقديم تعويض معقول و توفير حماية قانونية واضحة للعمال، يحفظها نظام قضائي ذو مصداقية.
ب-أعدت الدانمارك برامج تهدف لإعادة العملة إلى الدورة الاقتصادية، وبالإمكان توفير هذا في الدول العربية بـ : (1) توفير برامج مجانية للتكوين المهني تساعد العامل على الحصول على مهارات تحتاجها الأنشطة الأكثر نموا في الاقتصاد، و (2) توفير برامج تمويل ( قروض صغيرة... ) للعملة الذين يحبذون إنشاء مشاريع خاصــة بهم، علما و أن دراسات البنك الدولي أثبتت أهمية القروض الصغيرة كوسيلة ناجعة للحد من البطالة و الفقر.

لكن اعتماد أهم عناصر قانون العمل الدانماركي في الدول العربية، مع أهميته في توفير المرونة اللازمة التي تحتاجها المؤسسات الاقتصادية التي تواجه منافسة عالمية شرسة، لن يحقق نفس النجاح في منطقتنا دون إصلاح أنظمة التعليم و التكوين المهني حسب احتياجات الأنشطة الاقتصادية الصاعدة، بــ :(1) تحسين طرق التفكير عند الطالب عوضاً عن التلقين والحفظ المنقولة عن الكتاتيب التقليدية، (2) تطوير مناهج تعليم اللغات الحية، التي شهدت تراجعاً كبيراً في العقود الماضية بدعوى التعريب، حيث وصل الأمر في مصر إلى إعفاء بعض أساتذة الإنجليزية التلامذة من دراسة هذه اللغة !!!، (3) إعادة هيكلة النظام التعليمي لصالح التكوين المهني لخريجي المرحلة الثانوية - بمراكز تكوين و تدريب - و كذلك داخل المؤسسات الصناعية نفسها ( في فرنسا مثلا يستطيع العمال من جميع الأعمار مواصلة تكوينهم المهني و الحصول على شهادات تؤهلهم على الحصول على وظائف جديدة حتى بعد التقدم في السن )، مما يتطلب توفير حوافز تمويلية و ضريبية للمؤسسات التي توفر مثل هذه البرامج، و إعادة هيكلة التعليم العالي لصالح الصناعة و الخدمات التصديرية. فنسبة الطلبة في مجالات العلوم والهندسة والتصنيع والبناء لا تتجاوز 14% في السعودية و 18% في الجزائر والمغرب، على سبيل المثال، مقارنة بحوالي 40% بكوريا الجنوبية وماليزيا، و22% بالهند ( تقرير التنمية البشرية للعام 2006). كما لا توجد مؤسسات جامعية تذكر في مجال الأنشطة السياحية ( إدارة الفنادق، أكاديميات الطبخ، اختصاصات السياحة الاستشفائية - بما فيها الاستشفاء بماء البحر الذي نقلته تونس عن فرنسا و أصبحت اليوم ثاني وجهة عالمية للسياح في هذا المجال...)، وهي دراسات ذات شهرة عالمية في دول مثل سويسرا، بينما لا تحضي بأي اهتمام في الدول العربية، رغم الطلب المحلي و الخارجي الكبير عليها.

كما لا بد من رفع نسبة النمو الاقتصادي إلى حوالي 6.5% ( من اقل من 5% الآن )، مما يتطلب مراجعة كاملة للمعوقات الحالية للاستثمار ( تشريعات بالية، معوقات إدارية و بيروقراطية، وسياسات قديمة لم تعد مناسبة للظرف الحالي، بالإضافة إلى زيادة سكانية رهيبة تمثل قنبلة قابلة للانفجار في أية لحظة تخيف المستثمرين الأجانب و المحليين على حد سواء ). و أولى الخطوات في هذا الاتجاه تكون بإعادة تنظيم أجهزة تطوير الاستثمار بتوحيدها في quot; جهاز تطوير الاستثمار والمناطق الحرة quot;، أسوة بتجربة المنطقة الحرة بجبل علي بدبي، و رفدها بالخبرات المطلوبة - خصوصا في مجال التسويق الخارجي - مع اعتماد أفضل الممارسات الدولية على مستوى التشريعات والتسهيلات لجلب الاستثمار الأجنبي.

أما بخصوص البطالة العالية للنساء فالمسالة تتطلب عملا أطول نفسا و على اكثر من صعيد ( توفير فرص افضل لتعليم البنات و مكافحة الأمية لدى النساء و البغاء، إلغاء كافة أنواع التمييز ضد المرأة، خاصة في سوق العمل...)، كما من المهم اعتماد نموذج بنك القروض الصغيرة لنوبل السلام لهذه السنة - بنك جرامين لمؤسسه د. محمد يونس- الذي يوفر معظم تسهيلاته الائتمانية للنساء مما ساعدهن على الاندماج في الدورة الاقتصادية.

-----------------------
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]