يكذب من يقول بأن معارضة تقسيم العراق دعوة لعودة الدكتاتورية، و يكذب أكثر من يصف المهزلة القائمة بالعراق بالديمقراطية أو التعددية السياسية، و يتمادى في الكذب من يريد تحميل العراق الموحد مسؤوليةالمشاكل التي شهدها العراق منذ تأسيسه ككيان حالي أوائل القرن الماضي. ما هذا العراق المرّ، ما هذه الشوكة في حلق كل زاعق و ناعق حتى يبذلون كل هذا الجهد لإلغائه من الخارطة، ابتداء من قتله يوميا و ليس انتهاء بتهجير أهله بالجملة و شفط ثرواته و إلغاء هويته.
لا أعلم ما كان سيكون رد فعل السناتور بيدن لو أن دولة ما، و لتكن الصين بعد بضع عشرات من السنين مثلا، قد أصدرت قانونا ( و ليكن غير ملزم) بتقسيم كل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية الى كيانات أثنية أنجلو سكسونية و سلافية و صينية و أفريقية، ثم تقسيم هذه الكيانات إلى كيانات داخلية مسيحية و يهودية و إسلامية و بوذية، و منها إلى كاثوليكية و إنجيلية و شيعية و سنية و غير ذلك، لضمان quot;السلم الأهلي و عدم التقاتل بين الأطرافquot;، و ليصبح عدد دول العالم خمسمائة أو ستمائة. أي منطق هذا الذي يدير عقول عجائز الكونجرس و عن أية أوطان يتحدثون؟
و إن اعتاد ساسة أمريكا على قراءة العالم من بروج الكونجرس العاجية و حاسبات البنتاجون، حيث الشعوب حشرات و أرقام في أحسن الأحوال، و الحروب العاب كومبيوتر تدار عن بعد، فإن المعضلة الرئيسية تكمن في ساسة العراق بجميع أطيافهم الذين ما انفكوا يثبتون لأمريكا و للعالم و لشعبهم أولا بأنهم أحد أسوء كوابيس هذا الزمان الأغبر. فالتقسيم المغلف برداء الفدرالية من بنات أفكار أولئك العراقيين المزعومين قبل أن تكون من ابتكارات هذا السيناتور أو ذاك، و التقسيم الفعلي بقوة السلاح نفذته ميليشياتهم تحت أنظار أمريكا و بريطانيا اللتين أعلنتا علنا بأن quot;الجمهور عاوز كدةquot;، و اللتين لم تبذلا جهدا للقيام بالحد الأدنى من مسؤوليات أية قوة احتلال في العالم للحد من تدفق السلاح و فرض النظام العام الذي كان متاحا في الأيام الأولى من سقوط النظام السابق، بل على العكس، ساهمت غالبا مباشرة أو بمجرد غض النظر على نهوض عشرات العصابات المحلية التي باتت تحكم العراق اليوم.
و كما هو متوقع، جاء رد الفعل باهتا و متأخرا، بل و على استحياء، فلا مظاهرات خرجت و لا صخب و جلبة، هذا لأننا دولة حضارية ديمقراطية.. مجرد بيانات خجولة فيها من العتب أكثر من الرفض و الإدانة الصريحة، بل أن هناك من رحب و هلل، و هنالك من برر و فسّر و حتى من حاول رفع صوته ضاع في زحام الفوضى و الأزمة.
لم يكن العراق يوما مشروعا قائما بذاته، فقد حولته الأيديولوجيات دوما إلى جزء من مشروع ما، ربما بفعل موقعه و ثرواته و نوعية شعبه بالإضافة إلى إرثه الحضاري و الثقافي. فهو تارة جزء من مشروع الأمة العربية السياسي، و أخرى جزء من مشروع دولة الخلافة الإسلامية بشقها السني، أو مشروع دولة الفقيه بشقها الشيعي، و أخيرا ها هو مشروع تقسيم حيث ظهر من أبنائه من يعتقد بأن الوطن لا يسع الجميع، و أن الطائفة و المذهب أكبر من الوطن. و لا يجب علينا أن نأخذ ما يصدر عن أمريكا ببساطة و لا أن نعتقد بأننا محصنون ضد التقسيم كما ترى الأجيال الأقدم التي لم تعرف العراق إلا واحدا متسامحا، فالغالبية العظمى من عراقيي اليوم من الشباب العشريني و الثلاثيني فما دون التي لا تعرف غير عراق الحروب و الدمار، و التي لم تتعلم معنى المواطنة نظرا لطبيعة النظامين السابق و الحالي و الظروف الاقتصادية والاجتماعية و الموضوعية التي أحاطت بنشأة هذه الأجيال المحقونة بثقافة العزلة و الكراهية القومية و الطائفية. و قد سبق و أن راهن اليوغسلاف ذات مرة على تسامح شعوبهم و تحضّرها للتغلب على المشروع التقسيمي الأمريكي، إلا أن المشروع مرّ رغما عن أنوفهم فتمزق وطنهم إلى كيانات هزيلة بينما كانت أوربا بأكملها تجري نحو التوحيد.
كانت بذرة التقسيم حاضرة في كل فعل و تفصيل مارسته القوى السياسية الحالية منذ أن وطئت أقدامها ارض العراق، في حين كان الحالمون ( و كاتب المقال ليس باستثناء) بالتغيير و الخلاص من وحشية النظام السابق يبررون و يأملون و ينتظرون، و أثناء الخدر اللذيذ، كانت عمائم السوء تعمل على تغيير وجه الشارع العراقي من الجذور لتحقيق أسطورة العراق المتقاتل الذي لا حل له الا بانكفاء كل الى كهفه.
تسلم الإسلام السياسي سدة الحكم في العراق بجهود الولايات المتحدة الأميركية الغبية، التي أدخلت عدوها اللدود أيران الى باحتها الخلفية لتعبث كما تشاء، بينما أدخل الشق الثاني من الإسلام السياسي ndash; سواء المشارك منه في العملية السياسية أو من رفع شعار المقاومة المسلحة- لاعبين إقليميين آخرين لا يقلون جسارة لتصفية حسابات الجميع في العراق المنكوب، فقتلوا فوق ما قتلوا و ذبحوا فوق ما ذبحوا و هجروا من هجروا حتى بات الوطن يئن بأربعة ملايين مهجر في الداخل و الخارج دون أن تجرؤ الدولة المزعومة على أعادتهم الى منازلهم و هي التي تدعى امكانيتها سد الفراغ الأمني بعد خروج الأمريكان، ربما بذات الميليشيات المتعددة الألوان التي ارتكبت كل هذه الخطايا أو بمرتزقة بلاك ووتر. و يخرج المسؤولون و منهم رئيس الوزراء فيقول بأن الجهة الفلانية ليست بميليشيا و إنما جيش عقائدي (لم أفهم أبدا معنى هذا)و بأن الميليشيا العلانية تتبع أحزابا في البرلمان و أن و أن.. و أود بهذه المناسبة ان أقص برسم رئيس الوزراء و أمنه و أجهزته قصة حدثت في بغداد قبل أيام لمواطن عراقي بسيط، يسكن حي السيدية في بغداد و هي أحدى مناطق التماس (و كأننا لا نتحدث عن العاصمة و إنما عن جبهة حرب) حيث يسكنها خليط من السنة و الشيعة (هذا هو تعريف العراقيين اليوم)، و quot;التماسquot; بالطبع ليس بين السكان و إنما بين حثالات quot;الجيوش العقائدية quot; و quot;المجاميع الجهاديةquot; و عشرات غيرها. المهم في قصتنا بأن المواطن quot;لquot; ndash; و هو بالمناسبة من الطائفة الشيعية- قد تجرأ على الخروج بصحبة ولده quot;بquot; لقضاء أمر ما، و المشوار في السيدية أمر محفوف بالمخاطر، فإنك لن تعرف من يعترضك للسؤال عن هويتك، فجميعهم ملثمون، و جميعهم مسلحون، والأهم من ذلك، جميعهم قتلة و مجرمون، و لا بد للمواطن أن يتقن بضعة ترهات تخص الطائفتين لتكون له فرصة للنجاة. و قد تحققت أسوء مخاوف quot;لquot; عندما اعترضته quot;نقطة تفتيشquot; مسلحة و كان عليه أن يحزم أمره في ثوان ليقرر من أية جهة هم ليجيب على الأسئلة المقتضبة التي تمثل لملايين العراقيين الخط الفاصل بين الحياة و الموت. قرر quot;لquot; بأن المجموعة غالبا تتبع الطائفة quot;سquot; كونهم الأكثر حضورا حسب معرفته بمنطقته، فما أن بادره المسلحون بالسؤال عن هويته حتى أخذ يهتف بحياة المقاومة و يلعن سنسفيل جدود جيش المهدي و مقتدى الصدر، إلا أن هذا لم يكف المسلحين الذين اتصلوا من هاتفه النقال بزوجته أم quot;بquot;، التي اعتادت مثلها مثل غيرها من ربات بيوت quot;المناطق الساخنةquot; على اتصالات الاستجواب هذه، و قررت حالها حال زوجها أن تتذاكى قليلا، فكررت نفس الأسطوانة، فكانت النتيجة بعدما ثبتت رؤية الهلال أن بقيت جثتا quot;لquot; و ابنه quot;بquot; على قارعة الطريق بعد أن تبين أن المسلحين يتبعون الطائفة الأخرى، و لسخرية القدر، نفس طائفة quot;لquot;. من قتل quot;لquot; و ولده و الآلاف من أمثالهما يا دولة؟.. لقد قتلتهم الجهتان معا، قتلهم النظام الجديد، نظام الفرز الطائفي و المذهبي. لو كانت quot;النقطةquot; التي أوقفت quot;لquot; من الطائفة الأخرى لربما كان لقي نفس المصير لو اكتشفوا بأنه ينتمي إلى الآخر.. أنه الموت العبثي المجاني بكل هذه الممارسات التي تتم و قوات الشرطة و الجيش تتفرج عن بعد و كأنها في ملكوت آخر.
معضلة الإسلام السياسي البنيوية التي تمنعه من قيادة أي مجتمع تكمن في أيمانه بأن المجتمع و الثقافة و الاقتصاد و التنمية و كل تفاصيل الحياة يجب أن تسخر لخدمة الفكرة الدينية و ليس العكس، فالدين ببساطة سابق للمجتمع و منتج له و هو المبتدأ و المنتهى، على عكس الفرضية العلمانية بأن الدين نتاج من نتاجات تطور الفكر الاجتماعي ينمو و يتطور مع المجتمع و يلبي بعضا من حاجاته الروحية و المعتقدية، و شتان ما بين الفرضيتين، و شتان بين إمكانية النهوض التنموي بالمجتمع بين نظرية تؤمن بالوطن كيانا هلاميا ميتافيزيقيا حدوده حدود الدين، و أخرى تراه كيانا جغرافيا تاريخيا محددا و انتماء مبدئيا سابقا على كل ما عداه، و لذا لا عجب أن تتساهل الأحزاب الدينية في مفهوم الوطن و تقسيمه، فالعراق عندها ولاية أو ثغر، و لا عجب أن ترحب الأحزاب الكردية بتقسيم العراق، فالعراق في نظرها محتل أجنبي مستبد، و لا عزاء للملايين العشرين في وطنها.
يبقى الأمر الايجابي الوحيد في quot;قانون quot; الكونجرس الأخير و هو أن الولايات المتحدة تعيد تذكير العراق بأنه دولة بلا سيادة، هذا إن كان لا يزال دولة أصلا، بل و تصدر له قوانينا بخصوص نفطه و توحيده و تقسيمه و فدرلته، و من جانب آخر، يخطئ الأكراد و رجال الدين من الطائفتين الذين يحكمون العراق بالاعتقاد بأن كياناتهم القادمة ستكون دولا ذات سيادة في العالم، فجميعها لا تملك مقومات الدولة، ناهيك عن مقومات الوطن، و لا تملك تغيير الجغرافية السياسية المحيطة بالمنطقة، بل و لا تملك حتى شرعية تمثيل جماهيرها، و سيذكر لهم التاريخ يوما بأنهم لم يفتتوا العراق فحسب، و أنما المنطقة بأسرها الى دكاكين صغيرة ربما كانت اسرائيل هي الأكبر بينها.
و بما أن لكل سابقة لاحقة، فإن التشظى في العراق، سيتبعه لبنان، و ربما إيران و سوريا، بل و أن هنالك من يتحدث عن إعادة تقسيم أو فدرلة اليمن، و قد يصل الأمر إلى دول تعتقد بأنها في مأمن في حين تكمن القنابل الموقوتة في جميع أركانها، مثل الأردن و السعودية و السودان و دول المغرب العربي. فالأمراض هي ذاتها، و الدكتاتوريات قد تنجح في تغطية البالوعة (وفق تعبير المرحوم نوري السعيد) و لكن إلى حين.
لم تترك الدكتاتوريات البشعة و الوراثية مساحة للفكر التنويري الحر للنمو و التفاعل و المشاركة في بناء الوطن، بل طاردته و قاتلته حتى أتت عليه لحساب القادة المؤلهين و الأيديولوجيات العقيمة، تاركة المجال في الوقت ذاته للخفافيش بأن تطبخ في الظلام، و لما دنت ساعة السقوط و هي آتية حتما يوما ما، لم تجد الأوطان بديلا جاهزا سوى الجبب و العمائم و العصي. فدولة الفقيه هنا، و دولة القاعدة هناك، مسميات لنفس التحجر بألوان مختلفة، فالقهرهو ذاته. ففي خضم كل هذا الصخب حول التقسيم، يستلهم وزير التربية العراقي ممارسات دولة طالبان، فيفرض الحجاب على جميع فتيات المدارس من سن السادسة صعودا، ليحل بذلك جميع مشاكل التعليم في العراق الذي باتت إيران تطبع كتبه و مناهجه، و تقتحم قوات من الجيش جريدة المدى لتصادر أرشيفها، و يوجه الرئيس و رئيس الوزراء الصحافة بإبراز الوجه الحسن لعراق اليوم.. أنتحدث عن عراق جديد، أم هو ذاته عراق العهد الماضي، و ما مغزى التغيير إذن، و لم كل هذه الضحايا، أو تستحق دويلات كردستان و حكيمستان و قاعدستان كل هذا الدم العراقي؟
هنالك تصور أمريكي للمنطقة يستحق القراءة في كتاب سلام ما بعده سلام لديفيد فرومكين (1992)، فليطلع عليه القارئ ثم ليتأمل أحداث العراق، و أراهن بأنه سيتمنى لو أن ساستنا خصصوا و لو ساعة واحدة في الشهر، أو في السنة، للقراءة.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات