أوائل عملى كقاض، وُلـّيت القضاء لمحكمة دسوق، وهى مدينة تقع على فرع النيل رشيد، شمال الدلتا، وتـُعد مركزا تجارياً مهما. كانت جلساتى الثلاث تتوزع بين جلسة جنائية، ثم جلسة لنظر قضايا الأحوال الشخصية ولاية على المال (وهى المعروفة بالحَسْبى) وولاية على النفس (وهى المعروفة بالشرعى) ، وكانت الجلسة الثالثة تتعلق بالقضايا المدنية والتجارية والعمالية.
فى جلسة القضايا الجنائية (الجنح والمخالفات) عُرضت على ذات يوم قضية أثرت فىّبشدة، حين عرفت منها حقيقة التراث الشعبى، وأدركت أن عمل المحاكم، بتوقيع العقوبات والجزاءات على الجانح أو الجانى عملا لا طائل وراءه، مادام التراث باق على ما هو عليه، دون إصلاح جاد حقيقى. كانت الواقعة أن المتهم فيها يقود سيارة أجرة تعمل على الخط بين مدينتى دسوق و فوة، فيما يسمى النقل (بالنفـَّر) ، أى بأجرة خاصة لعدد من الأفراد. قاد المتهم سيارته دون كوابح (فرامل) مدة 17 يوما، فلم تقفه (أى تـُوقفه) شرطة أو تمنعه سلطة، إلى أن صدم وقتل سبعة أفراد كانوا يقفون على حافة الطريق، إذ إنحرفت السيارة نحوهم ولم يستطيع أن يقفها (يوقفها) لعدم وجود كوابح. قتل سبعة أشخاص بطريق الخطأ (أى دون قصد القتل ولكن بسبب الإهمال) كان قد صار فى القانون يُعد كارثة، يجب على المحكمة أن تحكم فيها إن ثبتت الإدانة، بعقوبة مغلظة. نودى على المتهم، عند نظر الدعوى، فوقف فى قفص الإتهام. كنت قد قرأت أوراق الجنحة وعجبت أن يقود المتهم سيارته على خط رئيسى دون كوابح مدة 17 يوما، فسألت المتهم عن التهمة فلم يعترف بها أو ينكرها، لكنه أجاب: أمر الله يا سيادة القاضى. فعجبت من قوله ولم أشأ التعجل بتوقيع العقوبة قبل أن أعرف ما فى رأس المتهم من فهم وما فى نفسه من مشاعر. فواجهته بأن التقرير الفنى يشير إلى أنه كان يقود السيارة دون كوابح، وأنه ذكر فى محضر الضبط المحرر بواسطة الشرطة أن سيارته بلا كوابح منذ 17 يوما خلت. قال: وأعمل إيه، كان ربنا ساترها. قلت له: وأين ذهب الستر عندما وقعت الحادثة الفظيعة، أليس ذلك نتيجة خطئك. قال: أبداً، أمر الله، شاء الله وما شاء فعل. قلت للمتهم: وهل تعرف ما سوف يحدث لك؟ قال: نعم، الحبس 7 سنوات. قلت له: وما تقديرك فى ذلك، ألست تحبس لخطئك وإهمالك. قال: أبداً، نصيبى كده (كذا) حُكم ومكتوب على الجبين. سكتّ ولم أواصل الحديث معه، وسرت فى إجراءات الدعوى حتى أصدرت المحكمة الحكم بحبس المتهم 7 سنوات مع نفاذ الحكم فوراً.
لكنى بعد إنتهاء الجلسة، جلست فى إستراحتى وأنا أعجب من التأثير الشديد للتراث الخاطىء. فالرجل يقود سيارته على الطريق ذهابا وإياباً، وهى تحمل أنفاراً لكل منهم حياة وآمال، ووراءه عائلة وأصدقاء، فلا يعبأ بهم ولا بحيواتهم، بل ولا يهتم لنفسه ولا بمن يقف أو يسير على جانبى الطريق، وهو يظن أن الله سوف يستر خطأه وإهمالة، فإذا وقعت الواقعة وتعرض للعقوبة، لم يأخذها على أنها جزاء عما أثم، أو تطهير له من الخطأ، لكنه يرى أنها قضاءُ كتب عليه منذ الأزل. فى ثقافة مغلوطة كهذه، لا يكون للخطأ معنى ولا يكون للعقوبة أىّ مفهوم ! ويكون عمل المحاكم من ثم عبث لا طائل وراءه.
بعد ذلك بسنوات كنت رئيساً لمحكمة جنايات أسيوط، عندما كانت المحكمة تنظر جناية قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد. من إجراءات المحاكمة أن يسأل رئيسها المتهم عن إسمه وعمره ومهنته ومحل إقامته، ليتثبت من أنه هو المقصود بالإتهام وليس شخصاً آخر زُج به بدلا منه (وهو افتراض صعب، لكنه يحدث) فأجاب المتهم على النحو الثابت فى الأوراق، واجهتـُه بعد ذلك بالإتهام (وتـَرسِمُ الإجراءات ذلك، لأنه عند إعتراف المتهم بالجريمة تختلف الإجراءات عنها إذا أنكر) فأنكر التهمة. واجهته بأعترافه فى تحقيقات النيابة، وهى تحقيقات قضائية يفترض فيها الحياد والنزاهة، لكن المتهم أجاب بجسارة عجيبة قائلاً: وأنا أقدر أقتل إلا إذا كان ذلك أمر الله، وما تشاءون إلا أن يشاء الله، لقد نفذت حكم الله، وكان عمره (المجنى عليه) قد انتهى، وما كنت إلا أداة تنفذ حكم الله. لم أشأ أن أدخل فى مناقشة مع المتهم، وإنما اعتبرت المحكمة أنه أنكر الإتهام، وسارت فى الإجراءات التى ينبغى إتباعها عندما ينكر المتهم، وإنتهى الأمر بتوقيع العقوبة عليه.
استدعت هذه الواقعة إلى ذاكرتى ما حدث فى الواقعة الأولى، ودار الحديث بينى وبين زميلىّ المستشارين عضوى المحكمة ونحن جلوس فى الإستراحة عن ذلك، ثم إنتهينا من النقاش إلى أنه لا جدوى من المساءلة ومن العقاب، إذا كان كل متهم يرى أن ما اقترفه من إثم، ولو كان قتلا، هو أمر الله ؛ وأن العقوبة مهما كانت هى حكم الله كذلك، وأن لا إرادة له فى الجريمة، ولا أثر على نفسه من العقوبة، لأنها قضاء الله. فلم إذن تـُوجد الشرطة وتعمل النيابة وتحكم المحاكم، فى ثقافة كهذه !؟
منذ أيام قرأت سؤالا وجهه أحد الأشخاص إلى شيخ معروف ممن يتصدون للفتوى. وكان السؤال قد أثير من قبل فى كتابى (حقيقة الحجاب وحجية الحديث) ، ولا أعرف ما إذا كان السائل قد قرأه أو سمعه أو كان قد وصل إليه من نفسه، فسأل من يستفتيه قائلاً: إن فى صحيح البخارى حديثاً نصّه (كُتب على ابن أدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة) وأضاف قائلاً: إذا كان الزنا مكتوباً من الله على المرء، فلم يُوجد فى القرآن حَدّ (عقوبة) عليه، ولماذا يعاقب الإنسان عما لا إرادة له فى فعله، لكنه فعله وهو مغلوب على أمره، بما سبق أن كتبه الله عليه، ولاراد لقضاء الله وأمره؟ فأجاب المفتى بما جاء فى كتاب quot;احياء علوم الدينquot; لأبى حامد الغـّزالى، منذ ألف عام، بأننا عبيد لله، يأمر فينا بما يشاء ويحكم علينا بما يريد. وهو أمر مُحيّر يجعل لله صورة غير مقبولة، ويجعل الإنسان فى الحياة كمّا هَمَلا، لا إرادة له ولا هدف منه.
ذلك تراث قديم وشامل، وتغييره مسئولية الجميع، من الناس والحكومات، على حد سواء ؛ وليست مسئولية كاتب أو مفكر واحد. فحسب الكاتب أو المفكر أن يشير إلى المشكلة، وتحديد الداء نصف الطريق إلى العلاج، ثم يرسم لها الحل، وعلى الجميع أن يتعاونوا معاً لتغيير هذا التراث المخطىء والذى يسىء إلى الألوهية كما يسىء إلى الإنسانية. أمّا أن يُطلب من فرد واحد أن يتحمل العبء فى كل مسألة وكل مشكلة وفى تغيير التراث وفى وقف التطرف، فهو تحميل للشخص بما فوق طاقته، فضلاً عن أنه لا جدوى منه لأن التغيير لابد أن يشمل نظام التعليم والتربية والإعلام والوعظ والإرشاد، وهى جميعاً تحت يد السلطات التنفيذية، فى البلاد العربية.
وإنا لنأسف أن يشعر البعض بالإضطهاد نتيجة الفكر الدينى المغلوط، فيخرج عن لياقات الخطاب ويوجه إلى الكاتب عبارات إستفزازية ليـُكرهه على أن يتبنى وجهة نظره، وأن يعبرّ عن رأيه كما يريد وبالطريقة التى يشاؤها هو، فيكون بذلك قد صار الوجه الآخر لعملة التطرف والإضطهاد الذى يشكو هو منه. ولم يسأل هذا المُحتد الغاضب نفسه، وماذا فعل هو لدرء الإضطهاد بينما هو يحتمى تحت اسم مستعار أو تحت صفة مدعاة؟ ولماذا لم يتوجه بخطابه الإستفزازى إلى مؤسسته الدينية، وأول واجباتها رفع الإضطهاد عنه وعن باقى الطائفة، أو يكتب إلى الصحف التى تتكلم بإسم طائفته، أو إلى أعضاء مجلسى الشورى والشـّعب من أبناء هذه الطائفة ليتولوا العمل المنظم الفعّال لرفع التعصب ومنع الإضطهاد بما لا يوجد تعصباً مضاداً وإضطهادا مقابلاً؟
إن الكاتب (شخصى) يعيش تحت حراسة الشرطة منذ عام 1980 وحتى الآن، وقد دفع الكثير جدا نتيجة رفعه المظالم عن الناس حين كان يمكنه رفع هذه المظالم. وقد حورب حرباً شعواء حتى أصبح من مظاليم القضاء وهو الذى أعطى العدل للجميع، ومع ذلك فإنه لم يغيّر أسلوبه و لا تكلم عن الخطر الذى يحيق به من كل جانب، وظل يكتب عن العدل وعن الحرية وعن المساوة وعن حق كل فرد فى أن يعبّر عن رأيه وعن معتقده بوضوح وصراحة، لا أن يبتز الآخرين لكى يرفعوا عنه ما يكون إضطهادا له (متأثرا فى ذلك بالأغنية التى تقول: يا ناس هاتوا لى حبيبى) أى إنه يعتصم بالسلبية والخفاء ويلجأ إلى عدم اللياقة فى الحديث ليقول (ياناس هاتوا لى حقوقى) .
وعلى صعيد آخر، فإننا نكتب فى موقع إيلاف، وهو موقع محترم، لا هو مجلة الكشكول ولا هو مجلة البعكوكة. وتوجد فى كل عدد عشرات المقالات. وعلى القارىء أن يتخير ما يناسب مستواه الثقافى والنفسى، فلا يطلب ولا يتوقع من الكاتب أن يكتب له فى مقالة واحدة كل ما لا يعرفه، دون أن يبذل جهداً ذاتياً فى القراءة والثقافة، وأن يدرك فى ذلك قول الشاعر:
لا تحسبن العلم تـْمرا أنت آكله ..لن تأكل التمر حتى تطلع الشجرا
وللتعليقات عادة لياقات وفيها لباقات، فعلى من يعلق أن يلتزم الموضوعية ولا يلجأ إلى الهجوم الشخصى أو الخروج عن الموضوع الذى يعلـّق عليه.
إنه ليسوء كل منصف أن يؤدى الإحساس بالتعصب والإضطهاد إلى تعصب وإضطهاد مقابل، بدلا من أن يدفع الشخص إلى العمل الجاد ndash; من خلال المؤسسات والصحافة والأسلوب الهادىء غير المنفعل ndash; على منع أى تعصب ورفع كل إضطهاد والتزام سواء السبيل.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية