كثيرا ما نرى رجالا يرفضون مصافحة النساء، ولمس أيديهن، خوفا من أن ينتقض وضوءهم. وهؤلاء يساوون بين التغوط، وبين ملامسة يد المرأة، أو يعتبرون المصافحة بالأيدي مع المرأة، لا يختلف عن تقبيلها، ويتوجب بعدها الوضوء. ولا يقتصر الأمر على الرجال فقط، بل إن بعض النساء يرفضن أيضا مصافحة الرجل- زميلا كان أم قريبا- وملامسة يده، مع أن الآية الكريمة- قيما يختص بالملامسة- موجهة للرجال، وهم المعنيين بها. وكثيرا ما شاهدنا في حفلات التكريم بعض النساء يرفضن مصافحة يد راعي الحفل عندما يقوم مهنئا، أميرا كان الراعي أم وزيرا. وملامسة النساء وردت في آيتين كريمتين، الأولى في سورة النساء، والثانية في سورة المائدة.
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوّا غفورا- النساء-43)
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون- المائدة-6)
(تيمموا= اقصدوا/ صعيدا= كل ما صعد على وجه الأرض ولم تدخله صنعة إنسان كالتراب والحجر/ طيبا= طاهرا لا نجاسة به).
فما هي أسباب نزول هاتين الآيتين، وكيف فسر العلماء المعنى المقصود لملامسة النساء.
أسباب النزول للنيسابوري
أرجع النيسابوري أسباب نزول الآية (43) من سورة النساء إلى الآتي: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) الآية. أخبرنا عبد الله بن أبي إسحاق، قال: حدثنا أبو عمرو بن مطر عن وعن.. عن عائشة، أنها قالت خرجنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله (ص) على التماسه، وأقام الناس معه، ولسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله (ص) وبالناس معه وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله (ص) واضع رأسه على فخذي قد نام. قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن يده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رول الله (ص) على فخذي. فنام رسول الله (ص) حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله تعالى آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء: ليست هذه أول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته. رواه البخاري، ورواه مسلم، كلاهما عن مالك.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس عن عمار بن ياسر، قال: عرّس رسول الله (ص) بذات الجيش ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جذع أظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذاك حتى أضاء الفجر وليس معهم ماء، فأنزل الله تعالى على رسول الله (ص) قصة التطهر بالصعيد الطيب. فقام المسلمون فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم فلم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وإيديهم إلى المناكب... قال الزهري: وبلغنا أن أبا بكر قال لعائشة: والله إنك ما علمت لمباركة. ولم يتطرق النيسابوري لأسباب نزول الآية (6) من سورة المائدة.
أسباب النزول للسيوطي
ذكر السيوطي أسباب النزول نفسها التي ذكرها النيسابوري، لكنه جعلها للآية (6) من سورة المائدة. فقال: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) الآية. روى البخاري عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله، ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، ثم أن النبي (ص) استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت هذه الآية. فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر
وبخصوص أسباب الآية (43) من سورة النساء، قال السيوطي: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا) الآية. روى أبو داوود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون).
وأخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فأنزل الله قوله (ولا جنبا إلا عابري سبيل). وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فذكر ذلك لرسول الله (ص) فأنزل الله (وإن كنتم مرضى) الآية.
نلاحظ إذن أن الأسباب التي استوجبت نزول هاتين الآيتين لا علاقة لها من قريب أو بعيد بملامسة النساء، وأن أسبابهما هو الخمر، والجنابة، والتيسير على المسلمين في حال عدم وجود ماء للوضوء.
وعن أهمية ومزايا الوضوء فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرّاً محجّلين quot;أي بياض الوجوه والأطراف من نور الوضوءquot; من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. وروى ابن ماجه وابن حبان في صحيحه أن الصحابة قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: غرٌّ محجّلون بُلقٌ من آثار الوضوء: أي تتألق جباههم نورا وبهاء- تفسير الجلالين.
كما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المسلم- أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مستها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب- رواه مسلم. ولن نورد تفسير كامل الآية، بل فقط سنورد شرح وتفسير ما يتعلق بملامسة النساء، محاولين الاختصار.
تفسير ابن كثير
وأما قوله {أو لامستم النساء} فقرىء لمستم، ولامستم. واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين: (أحدهما): أن ذلك كناية عن الجماع, لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج عن ابن عباس, في قوله {أو لامستم النساء} قال: الجماع. وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد و... نحو ذلك. وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير, قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس, فقالت الموالي: ليس بالجماع, وقالت العرب: الجماع, قال: فمن أي الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي, قال: غُلب فريق الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع, ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, عن عبد الله بن مسعود, قال: اللمس ما دون الجماع, وقد رواه من طرق متعددة, عن ابن مسعود بمثله, وروى من حديث الأعمش, عن، وعن، وعن عبد الله بن مسعود, قال: القبلة من المس وفيها الوضوء.
وروى الطبراني بإسناده, عن عبد الله بن مسعود, قال: يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده, ومن القبلة, وكان يقول في هذه الاَية {أو لامستم النساء} هو الغمز. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبيد الله بن عمر, عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة, ويرى فيها الوضوء, ويقول: هي من اللماس. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً: من طريق شعبة عن عبد الله, قال: اللمس ما دون الجماع, ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر, وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود, نحو ذلك. (قلت) وروى مالك, عن سالم بن عبد الله بن عمر, عن أبيه, أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة, فمن قبل امرأته أوجسها بيده, فعليه الوضوء, وروى الحافظ أبوالحسن الدار قطني في سننه: عن عمر بن الخطاب نحو ذلك, ولكن روينا عنه من وجه آخر: أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ, فالرواية عنه مختلفة, فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه, على الاستحباب, والله أعلم. والقول بوجوب الوضوء من المس, هو قول الشافعي وأصحابه, ومالك, والمشهور عن أحمد بن حنبل رحمهم الله. ثم قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أو لامستم النساء} الجماع, دون غيره من معاني اللمس, لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه, ثم صلى ولم يتوضأ, ثم قال: حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي, قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش, عن عروة، عن عائشة, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ, ثم يقبّل ثم يصلي, ولا يتوضأ.
ثم قال: حدثنا أبو كريب, عن عروة، عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قبّل بعض نسائه, ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ, قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت, وهكذا رواه أبو داود والترمذي, وابن ماجه, عن جماعة من مشايخهم.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو زيد, عمر بن شَبّةَ عن شهاب بن عباد, حدثنا مندل بن علي, عن ليث, عن عطاء, عن عائشة وعن أبي روق, عن إبراهيم التيمي, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء, ثم لا يعيد الوضوء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني, عن إبراهيم التيمي, عن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل ثم صلى ولم يتوضأ, رواه أبو داود والنسائي, من حديث يحيى القطان. ثم قال ابن جرير أيضاً: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, عن، وعن، عن أم سلمة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم, ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً.
وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا حفص بن غياث, عن حجاج, عن عمرو بن شعيب, عن زينب السهمية, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. وقد رواه الإمام أحمد, عن محمد بن فضيل, عن حجاج بن أرطأة, عن عمرو بن شعيب, عن زينب السهمية, عن عائشة.
تفسير الطبري
7680ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد:
القول في تأويل قوله تعالى:)أوْ لامَسْتُمُ النّساء) يعني بذلك جلّ ثناؤه: أو باشرتم النساء بأيديكم.
7681ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, قال: ذكروا اللمس, فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع...
7682ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس أنه قال: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} قال: هو الجماع.
7683ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أشعث, عن الشعبي, عن عليّ رضي الله عنه, قال: الجماع.
7686ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة والحسن, قالا: غشيان النساء.
7687حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن مخارق, عن طارق بن شهاب, عن عبد الله, أنه قال شيئا هذا معناه: الملامسة: ما دون الجماع .
7688ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن هلال, عن أبي عبيدة, عن عبد الله ـ أو عن أبي عبيدة منصور الذي شكّ قال: القبلة من المسّ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن شعبة, عن المغيرة, عن إبراهيم, قال: قال ابن مسعود: اللمس: ما دون الجماع.
تفسير الجلالين
وقيل المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة أي المساجد إلى عبورها من غير مكث (وإن كنتم مرضى) مرضاً يضره الماء (أو على سفر) أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون (أو جاء أحد منكم من الغائط) هو المكان المعد لقضاء الحاجة أي أحدث (أو لامستم النساء) وفي قراءة {لمستم} بلا ألف وكلاهما بمعنى اللمس هو الجس باليد، قاله ابن عمر وعليه الشافعي وألحق به الجس بباقي البشرة، وعن ابن عباس هو الجماع.
تفسير القرطبي
قوله تعالى: quot;أو لامستم النساءquot; قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر quot;لامستمquot;. وقرأ حمزة والكسائي: quot;لمستم quot;وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون لمستم جامعتم. الثاني: لمستم باشرتم. الثالث: يجمع الأمرين جميعا. وquot;لامستم quot;بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون quot;لامستم quot;بمعنى قبلتم أو نظيره؛ لأن لكل واحد منهما فعلا. قال: وquot;لمستم quot;بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر؛ فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية.
وقال علي بن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبدالملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها؛ فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ، وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد معلق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أولها: quot;ولا جنبا quot;أفاد الجماع، وإن قوله: quot;أو جاء أحد منكم من الغائطquot; أفاد الحدث، وإن قوله: quot;أو لامستمquot; أفاد اللمس والقبل.
وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة.
قلت: أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قول إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا لمس فالتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء.
وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيا، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجل عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما) أخرجه البخاري. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: (وإذا قام بسطتهما) وقولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). وقد جاء صريحا عنها قالت: (كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما) أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديث. فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض. ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا يرد ما قال الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
الخلاصة
نستخلص من ذلك أن بعض العلماء اعتبر الملامسة كناية عن الجماع، وبعضهم قال هي ما دون الجماع، أي من الغمز كالقبلة. وبعضهم الآخر قال أن الملامسة هي مباشرة النساء بالأيدي، وأوجبوا بالتالي الوضوء.
لكن علماء آخرين قالوا: إذا كان اللمس بقصد ونية اللذة والملاعبة استوجب الوضوء، سواء التذ اللامس أم لم يلتذ. وفي ظني أن الغاية من الوضوء في هذه الحالة هي غسل النوايا وما لحق بها. وآخرين أوجبوا الوضوء فقط في حالة اللذة، فإن لم تحدث لا يستوجب الوضوء.
لكن من العلماء من قال أن لمس أي جزء أو عضو من أعضاء المراة يستوجب الوضوء، ومنهم من استثنى الشعر والسن والظفر، لآنهم أجزاء مخالفة للبشرة، ومنهم من لم يستثنِِ شيئا. والرد على هؤلاء كما ذكر تفسير القرطبي، أن من ضرب امرأته فلطمها بيديه، يلزم أن ينتقض وضوءه أيضا!
نخلص من هذه التأويلات والتفسيرات أن مصافحة النساء تستوجب على الرجل الوضوء، وذلك على مذهب الشافعي ومالك وابن حنبل. ولا تستوجب الوضوء على مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولكن ما قالته عائشة رضي الله عنها- وذكره الرواة وصحيح البخاري- من أن الرسول (ص) كان يتوضأ ثم يقبّل ثم يصلي ولا يتوضأ، وأنه كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءا، يلغي كل تلك التفسيرات والتأويلات، ويبطل الحاجة إليها.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات