(الجميع يتحدث عن تغيير العالم، ولكن لا أحد يتحدث عن تغيير نفسه)تولستوي

يتكرر الحديث عن المأزق الذي يعاني منه الواقع العربي، التكرار هذا يتبدى في مقولات فرعية باعتبار التمثل الذي يميز هذا الفريق عن ذاك، فيما تبقى الوحدة المركزية قائمة وثابتة وراسخة، غير قابلة للزحزحة أو التغير. إنه الواقع الذي يتراكم فيه كم البؤس والتراجع والنكوص. فيما يبقى الحلم بالتغيير، مجرد مقولة مفرغة المحتوى، حيث التمني الذي راح يتراكم و يتكثف ليشكل الحاجز الأعظم في وجه أية محاولة تسعى لتحريك الراكد.

المألوف وطريقة الاستجابة
في ترصده الدقيق لـ (النموذج) Paradigm، يسوح توماس كون في منظومة المألوف و طريقة الاستجابة،حيث التوقف عند المستويات التي تتبدى في العلاقة القائمة بين تغير النموذج وتغير العالم، باعتبار التطلع نحو تبني الوسائل الجديدة الساعية نحو ترسيم معالم المختلف، وبالتالي الخوض في استقبال هذا الجديد والتكيف مع المجمل من العلاقات الناشئة عنه. ومن المهم أن طريقة الاستقبال والتفاعل مع الجديد تبقى تدور في فلك المألوف والسائد والمتاح من الوسائل. (إنه المألوف الذي يتبدى و كأنه جديدا)، فيما يكون الطموح وقد تمركز عند ثنائية الرغبة بالتغير ومستوى الاستجابة لهذا التغير. إنها الفعالية القائمة على التداخل القائم بين الرغبات والآمال والمسعى نحو رسم معالم الاختلاف، في الوقت الذي يكون هذا التغيير يقوم على الإيحاء بقدر أعظم من القدرة على الإنجاز.

إدراك التحولات
يلعب الإيحاء دورا بالغا في ترصد معالم التحولات، تلك التي تتبدى أولا على صعيد إتاحة الإمكانية والقدرة على وصفها، باعتبارها ظاهرة قابلة للرصد انطلاقا من وضوحها وتفاعلها مع الواقع. إنه المحيط الذي يكشف عن مدى قابليته على التكيف مع التحول، وصولا إلى إبراز معالم الإدراك للمواقف وطرق التربية، سعيا إلى عقد المقارنة بين ما كان وما يكون. وهكذا تبرز إشكالية الوعي بالتحولات في الواقع العربي، باعتبار صورية التغير، ذلك الذي يأتي طارئا وسريعا، بل ويكاد منتشيا، حتى ليغيب عنه الأثر الذي يحفزه عامل التحول، و عليه فإنه يبقى عصيا على الوصف، باعتبار ظهوره السريع واختفائه الأسرع، إنه الرسالة التي تأتي كموضة عابرة، لا يكاد يستبان من أوصافها شيئا، تأتي كالوليد الخديج منقوصة غير مكتملة الأبعاد والسمات، تأتي هشة ومعقدة، لا يتوفر لها سوى التشكك والحذر والخشية منها، لتكون عرضة لسوء الظن والنقص في إدراكها وتداولها في المحيط الجديد. إنها الأزمة المستحكمة لا في العقل العربي، بل في المحيط العربي، ولفرط الهجنة الكامنة فيها فإنها تكون عصية على المقارنة إذ يغيب فيها عنصر التأثير، بل لا تتحصل على نتيجة سوى الضجيج، وهكذا كانت الإشكالية التي واجهت جيل اليقظة والنهضة، وتسللت ذات الإشكالية إلى جيل الإصلاح، وجيل الثورة، فعودة إلى تداول فكر الإصلاح. إنه مأزق الثنائيات الذي يتحكم بالواقع، فيما يتم استلاب العقل وتعليبه في قوقعة التمثلات الناقصة.

العالم من خلال نظارة
أفق التوقع، أو بوضع السؤال المتعلق بالطريقة التي يتم فيها التعامل مع النموذج. وإذا كان المسعى يتركز في إدراك التحولات، فإن هذا يقود إلى أهمية إبراز التحولات في الإدراك، باعتبار أهمية الوقوف على طبيعة الخبرة والممارسة التي يتحصل عليها الفرد أم المجموع في تعامله مع الظاهرة الجديدة وليس النموذج الجديد. إنه الترصد في التحولات الفجائية، تلك التي تأتي صاعقة، لتكون العواقب وقد برزت في انكسارات وصدوع وتناقضات وانقطاعات، لا ينجم عنها سوى الأسئلة المقطوعة والمترددة، تلك التي لا يتردد صداها سوى في المحيط المعزول، حيث العالم في واد وصخب الأسئلة في واد آخر!إنها عملية الترويج لصورة الأفكار، وأنماط الخبرات التي تفاعلت في سياق معرفي آخر، وهكذا يحضر الآخر في الطموحات والرغبات والأمنيات والأحلام، ولا يتبقى منه سوى الظلال على الواقع.
يتوقف كارل بوبر عند مفهوم (الحد الفاصل) باعتباره الوسيلة الساعية نحو الوقوف على معيار يتم من خلاله الفصل النظري والتطبيقي، وهو ترسيم الحدود والتفريق بين الظواهر بالاستناد إلى تقديم مسألة المعنى وتفحص علاقة هذا الأخير بالواقع. وبالقدر الذي تتبدى ملامح التقاطع بين القديم الراسخ المستند إلى البديهيات والمسلمات باعتبار الخبرات الأولية، فيما يتم استبعاد الحقيقي وذلك للانشغال بعملية التبرير والتسويغ المستند إلى اللعب المنطقي، فيما تكون المهمة الأصيلة التي يسعى نحوها (الحد الفاصل) مرتكزة في أهمية التأسيس للانتظام المعرفي بين النظري والتطبيقي. إنها المهمة المرتكزة في وضع المفاهيم الدقيقة، في سبيل الوصول ترصد الفائدة المرجوة والغاية المبتغاة من المعرفة، وهكذا يقول بوبر(تضارب الآراء يقع بين أصحاب الهدف المشترك، أما اختيار الهدف فهو قرار). وهاهو الواقع العربي ما انفك يفصح وبجلاء يدعو إلى التحسر، حول محنة الهدف العربي، الحائرة والمضيعة، بين الهدف المشترك، أم تحديد الهدف!

القفز على الزمن
لم تتردد البعض من الأنظمة الشمولية من التبني شعار حرق المراحل، والبدء من حيث انتهى الآخرون، ومن هذه العملية المموهة لم يتم سوى جني الحرق، فيما راحت المراحل تطيش في الهواء، حيث الهدر للطاقات و الخبرات والإمكانات، بعد أن تسيدت لغة التمويه واللعب على الواقع وتزييف مضمون الجوهر والحقيقة، إنها الإحالة القسرية إلى وصفة التطور من دون الخضوع لقوانين التعاقب الزمني، إنه الغرام والهيام بالمظهر على حساب الجوهر، وهكذا بقيت مغامرة التيه المعرفي، تعتاش في البيئة العربية، فيما (المستقبل يستبق ذاته، والماضي ما يفتأ يمضي) على حد تعبير ميشيل فوكو.

إحالات:
1. توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007، ص 206.
2. كارل بوبر، منطق البحث العلمي، ترجمة محمد البغدادي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2006، ص 72.
3. ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت 2005، ص 153.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه