لا أنتوي أن أرفع مرثاة تنفطر لها القلوب، رغم أنني أتمنى لو أفعل، تفريغاً لما يجيش بالصدر من هم وغم، فما أصعب ترى وطنك ومجتمعك يتداعى ويتحلل أمام عينيك، فيما لا حيلة لك غير أن تكتب بضعة سطور تنشرها على صفحات افتراضية، وتمني النفس أن يأتي ما تنثر مما تتصوره بذوراً بثمار يوماً ما، لا تتيح لك فسحة العمر أن تأمل رؤياه.
ليس الأمر مجرد نظام سياسي انتهى عمره الافتراضي، ويصر على البقاء معانداً سنة الحياة، فلو كان الأمر كذلك لما استدعى منا كل هذا القدر من الإحباط وهواجس انسداد السبل، فالاضمحلال المتشبث بالقمة مجرد ذؤابة تل من الهشيم، هو المجتمع المصري بكل مؤسساته وثقافته وحتى عاداته وتقاليده، تل الهشيم هو ما أصبحناه جميعاً كأمة، ضلت منذ أكثر من نصف قرن طريقها، كما لو قطار خرج عن القضبان، ليترضض فوق الصخور وتتصدع أركانه وهياكله، ويسرح الصدأ (البرومة) في مفاصله.
ليس صحيحاً أيضاً أن الداء هو التفات الشعب المصري عن العلم، والتعلق بخطاب ديني مظهري ومسيس، يهرب إلى التزام بالطقوس، بعد تفريغها مما تحمل من قيم وأخلاق ومفاهيم، وما استتبع ذلك من شيوع الدجل والخرافة وغياب الفكر العقلاني، فهذا كذلك مجرد عرض واحد من أعراض الداء، نتيجة وليس سبباً، فما نحسبه انهياراً ثقافياً، يستسهل البعض نسبة سائر مظاهر التداعي في المجتمع المصري إليه، لا يعدو أن يكون نتيجة لانهيار نفسي وسلوكي، يكاد يعم جميع المصريين بلا استثناء.
كما أنه ليس من الصحيح أن ما نراه من تسيب وفوضى عارمة في سلوك المصريين، يمكن لقرار حاسم بالانضباط تتخذه السلطات المختصة أن يضع له حداً، إلا إذا كنا سنخصص رجل شرطة لكل مواطن، فقد صار التسيب والانفلات هو القاعدة، وما عداه انحرافاً يندر أن نصادفه، بل يصعب أو حتى يستحيل على صاحبه الالتزام بما ألزم نفسه به.
نقصد بالانهيار النفسي فقد المصري للثقة بالذات، وقد أُضيف إليه أيضاً فقد الثقة بالدولة، ذلك أننا نستطيع أن نرصد فقد الثقة الجزئي بالذات لدى المصري خلال العديد من عصور تاريخه، وربما ارتأى البعض امتداد هذه الصفة للمصري على امتداد تاريخه كله، مدللين على ذلك بتعملق دور الدولة المركزية الممسكة بكل الخيوط، والتي كانت حاضرة منذ بداية التاريخ المصري، واستمراء المصريين الانصياع لها، إلى حد يسمح لنا بأن نخلص إلى أن المصري كان من يستدعي الاستبداد ويصنعه، تماماً كما كان البدائيون يصنعون تماثيل ليعبدونها، ويسجدون أمامها في توسل وخنوع، رغم أنها مدينة لهم بوجودها، ولا يبرر هذا بل يؤكده، إرجاع الأمر إلى حقائق الطوبوجرافيا وعلاقات الإنتاج، فالنتيجة واحدة رغم أن الأمر لم يكن عبر التاريخ المصري نتيجة لهذا الوضع سوءاً محضاً، فلقد أنجز المصري عبر أكثر من خمسة آلاف عام ما أنجز في ظل ذلك الانصياع الشعبي والاستبداد السلطوي، دون ما حاجة لإجهاد الفكر في استنتاج أيهما كان سبباً وأيهما كان نتيجة، لكن الجديد/ القديم هو فقد المصري لثقته في قدرة دولته ونظامه الحاكم.
فما نحن بصدده الآن أنه بعد عقد ونصف من الثقة المفرطة في نظام الحكم، وهي الفترة التي استولت على مصر فيها عصابة من الضباط المغامرين الشبان، والتي وعدت الشعب المصري 'بتماثيل رخام على الترعة وأوبرا في كل قرية عربية'، وأوهمتهم بأنهم قادرون على محاربة 'الاستعمار وأعوان الاستعمار' في كل مكان على سطح الكرة الأرضية، ثم افتضاح الوهم بعد الساعات الأولى من فجر الاثنين الخامس من يونيو عام 1967، بعدها وحتى الآن تفنن نظام الحكم المصري في استئصال أي بقايا لدى المصريين من ثقتهم فيه، ذلك أنه إذا كان العقد والنصف الأول من الحكم العسكري المغامر قد تميز بانخداع كل من الشعب وحكامه بقوتهم، فإن ما تلاها من عقود وحتى الآن تميزت بتفنن الحكام في خداع الشعب، توسلاً للبقاء الأبدي على كراسي السلطة، غير مقدرين أن الشعب الذي تصوروا فيه السذاجة كان قد فقد ثقته فيهم وانتهى الأمر، وأن ما يمارسون من خداع وأكاذيب وتزييف لن يضاف لحساب الثقة، وإنما خصماً من رصيد ثقة كان قد نفد فعلاً أو كاد.
أما الانهيار السلوكي الذي أصاب المجتمع المصري، خلال ذات الفترة التي أدت به إلى الانهيار النفسي، فقد كان النتيجة الحتمية لتخلي دولة مركزية عن دورها في ضبط حركة مجتمع، إن لم يكن بغرض تطويره، فعلى الأقل حفاظاً على الوضع على ما هو عليه، لتتفرغ لحماية كراسي السلطة، وهو ما تطلب ليس فقط السيطرة على القوة العسكرية، من جيش وأجهزة أمنية، تحولت مهمتها من حماية الوطن خارجياً وداخلياً، لتصير مجرد حامية للجلوس على الكراسي الأبدية، وإنما تطلب الأمر أيضاً حاشية كبيرة من المنتفعين، يشكلون درعاً مدنياً للنظام والجالسين على قمته، في مقابل أن يترك لهم الحبل على الغارب (كما يقول التعبير المصري)، ليستبيحوا كل الأعراف والقوانين الأخلاقية والاقتصادية بالإضافة إلى السياسية بالطبع، ولا نركز هنا على ما نهبته وتنهبه تلك البطانة الملوكية من ثروات مصر، أو على ما مارسه النظام بمكوناته عموماً من قهر للشعب المصري، وإنما ما يعنينا هنا ما ترتب على هذا النهج من سلوك انتقل إلى القاعدة الشعبية، فقد غاب الانضباط عن الشارع المصري وعن العلاقات بين الناس، مع غياب الرقابة وسيادة القانون، كما ترتب على ذلك أيضاً انهيار منظومة القيم التي حكمت المجتمع المصري لدهور، حين أدرك الفرد أنه يستطيع أن يرتكب ما شاء من جرائم، ما دام لم يهدد استقرار الحاكم في غفوته الأبدية على القمة، وأدرك معها أنه لكي يحصل على حق له لدى الدولة أو الغير، عليه أن يسلك أي طريق عدا الطريق المستقيم، ليقتنع المصري أيضاً أنه لا يحتاج لتمشية أموره (حسب التعبير المصري) إلى العلم واكتساب المهارات ليحقق الكسب الذي يقيم حياته، وإنما جل ما يحتاجه التحلي بالفهلوة واللعب بالبيضة والحجر (أيضاً حسب التعبير المصري)، ليستطيع تدبير حاله في مجتمع وعلاقات صارت عشوائية بكل معنى الكلمة، لتكون النتيجة هي فساد سلوكي شامل عم المجتمع، بما ينتفي معه تصور أن هنالك نظاماً فاسداً يحكم شعباً مغلوباً على أمره، ليحل محله توصيف آخر، وهو أن هناك شعباً يضرب الفساد في أوصاله، لا يمكن إلا أن يفرز حكاماً على شاكلته، مهما تغير الأفراد الجالسون على الكراسي، كما لابد أن نلحظ هنا أنه حتى في حالة هبوط طغمة حاكمة مستنيرة علينا من السماء، فلن تستطيع أن تنجز ما يعتد به من إصلاحات، إزاء شعب قد سقط فعلاً لا مجازاً في هاوية العشوائية، التي صارت كما لو هي هويته التي لا فكاك له منها.
لقد صار النظام الحاكم المتهم بالاستبداد سجين عرشه، يحافظ بالكاد عليه، أما في الشارع المصري بمختلف أحواله وتعاملاته فهو مهيض أو كسير الجناح، لا يقوى على تنظيم المرور في شوارع مدينة، إلا لسويعات ريثما يمر موكب رسمي، ليعود الحال بعدها سريعاً إلى ما كان عليه، كما لم يعد النظام الذي كان جباراً بقادر على إنزال العقاب بثلة من المجرمين المخربين، قتلت وأحرقت أقباطاً أخوة لهم في الوطن، فليس التواطؤ فقط هو ما يدفع الدولة للتنازل عن دورها كحاكم عادل وضابط للنظام، وإلى اللجوء إلى المجالس العرفية لتسوية الأمر، وإنما أيضاً البحث عن مخرج من ورطة، هي أن الغوغائية صارت هي السيد، ونظام الحكم هو المسود، وحين يكشِّر السيد عن أنيابه، فليس للمسود وهو يرتجف في هوان وضعة، إلا أن يسعى لمجرد حفظ ماء الوجه.
لا نحتاج إذن إلى حكومة أقل استبداداً، بل إلى حكومة تفرض احترامها على الشعب باستقامة سلوكها وحرصها الجاد على مصالحه، وعندها فقط تستطيع استرجاع هيبتها التي ضاعت في الشارع المصري، حتى أن البسطاء الذين كانوا يرتعبون لرؤية عسكري البوليس، صاروا يقاومون بجسارة رجال الشرطة أثناء قيامهم بأداء مهامهم في القبض على أحد المطلوبين، ويحطمون قاعات المحاكم ويعتدون على القضاة إذا لم يرق لهم الحكم الصادر، وتجد قوات الأمن نفسها متورطة في عنف شخصي تجاه المواطنين، يرجع بعضه إلى الجبروت والاستبداد والإفراط في استخدام القوة، وبعضة دفاعاً عن النفس في مواجهة الجماهير، ومحاولات يائسة لفرض الاحترام لأجهزة ينبغي أن يكون لها هيبتها، نحتاج لمن يعيد للمصريين احترام القانون والشرعية، بذات قدر احتياجنا إلى أجهزة ومؤسسات تحترم نفسها ورسالتها المقدسة، فيمتد احترامها لنفسها إلى الجماهير، فتكتسب احترامها واحترام الشرعية والقانون ذاته، فشعب لا يحترم القانون ويفقد الثقة والاحترام لمؤسساته هو شعب قد دخل بقدميه إلى كارثة، ومع الأسف فإن الوسيلة الوحيدة لكي يحترم الناس النظام والقانون، هو أن يكون النظام والقانون والقائمون عليهما جديرون حقاً بالاحترام، والعكس صحيح كذلك، فلكي تحترم الدولة آدمية الإنسان وحقوقه، يحتاج الأمر أن يتمتع الإنسان بالحد الأدنى من احترامه لنفسه، وبغير توافر هذا الشرط الواحد والوحيد لن نحصل إلا على مستنقع من النفاق والكذب والعشوائية، أيهما السبب وأيهما النتيجة، حالة الدولة والقانون والقائمون عليهما أم حالة الشعب؟ فزورة دائرية لا حل لها، مثل قضية أسبقية البيضة أم الدجاجة، لكن إذا كان الأمر يحتمل تعسف الحاكم بالشعب، ويمكن أن تسير الأمور على هذا النحو لسنوات وعقود، فإن تعسف الشعب بالحاكم على مستوى السلوكيات الشائعة هو الطريق السريع لتحلل ذلك المجتمع وانهياره.
هو الانهيار الشعبي إذن وراء ما نراه من رواج خطاب جماعة الإخوان المسلمين بسائر أجنحتها العسكرية والتكفيرية ودعاتها إلى الظلامية والتخلف ومعاداة الحضارة، وعدم قدرة الدولة مع افتراض رغبتها، على إيقاف مسلسل التدهور، الذي انتشرت أحداثه وفعالياته، لتغطي كل مساحة مصر، ونال منه جهاز الدولة البيروقراطي بجميع مستوياته وأجنحته نصيباً وافراً، بما ينتفي معه بالتبعية أي مبرر لحديث عن ضرورة إرساء الديموقراطية كحل للخروج من الورطة الراهنة، فإذا لم تكن الديموقراطية هي مجرد استخدام صناديق اقتراع، وإنما هي سيادة إرادة الشعب، فإننا نستطيع أن نقرر باطمئنان أن مصر تحتل مكاناً متقدماً في قائمة الدول الديموقراطية، فلقد اتفق الشعب وحكامه على سيادة العشوائية، ونجحوا بالتعاون معاً في ترسيخ ما اتفقوا عليه في جميع مناحي الحياة المصرية.
لو اعتبرنا أن عصر الاضمحلال المصري الأحدث قد بدأ مع مغامرة يوليو 1952، فإننا يمكن أن نقسمه إلى ثلاث مراحل: مرحلة الاستبداد والنهضة المظهرية، ثم مرحلة الافتضاح والسقوط وسيادة الفكر الديني ورجاله، وأخيراً مرحلة التحلل التدريجي والمستمر، وهو ما نرصد الآن تفاقم وتسارع معدل الانحدار فيه، نحو هاوية صارت على مرمى النظر.
رغم أننا لا نعتقد أن التاريخ يعيد نفسه، إلا أن النظرة البانورامية على مصر عبر الزمن، لابد وأن توفر لنا المزيد من الأضواء الكاشفة على الحلقة الأحدث من سلسلة عصور الاضمحلال المصري، كما لابد وأن تلقي الخريطة الجينية بأضواء، تكشف سر الوليد المشوه ابن النصف الأخير من القرن العشرين، وهذا ما سوف نحاوله في مقاربات قادمة.
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه