لا يزال الأمر لغزا. ما الذي دفع أجهزة الأستخبارات الأميركية على الأعلان عن أن أيران أوقفت العمل في برنامجها النووي العسكري في العام 2003، أي في السنة التي نفّذت فيها أدارة بوش الأبن عملية أجتياح العراق وأسقاط نظام صدّام حسين العائلي ndash; البعثي. هل أعتبرت طهران وقتذاك أنه لم تعد هناك حاجة لبرنامج نووي ذي طابع عسكري بعدما سقط العراق بين أيديها وأن لا مفر من أن تكون المنتصر الأول والأخير من الحرب الأميركية على العراق؟ أنه أحد الأسئلة المطروحة بعد الخطوة التي أقدمت عليها الأجهزة الأميركية التي يطرح الكشف المفاجئ عن تقريرها في شأن البرنامج النووي الأيراني أسئلة أكثر بكثير مما يوفر أجوبة.
ماذا وراء التقرير ولماذا صدوره في هذا التوقيت بالذات، أي بعد أيام من تشديد غير مسؤول أميركي على خطورة السلاح النووي الأيراني؟ ربما أرادت المؤسسة الأمنية تأكيد أنها ليست مسؤولة عن الأخطاء التي أرتكبتها أدارة بوش الأبن في الماضي والتي أستندت ألى تقارير ذات طابع أستخباري لتبرير الحرب على العراق. ركزت هذه التقارير وقتذاك على أسلحة الدمار الشامل العراقية التي يمتلكها العراق والتي تبين أنها لم تكن موجودة. والمفارقة أن الرئيس الراحل صدّام حسين كشف في اللقاءات التي أجراها مع المحقق الأميركي الذي كان يزوره في سجنه في مرحلة ما قبل بدء محاكمته أنه كان يدعي أمتلاك أسلحة الدمار الشامل بهدف واحد هو تخويف أيران. كان صدّام يخشى من أن تكون لدى أيران نية الأنتقام من العراق أستكمالا للهزيمة العسكرية التي لحقت به أثر المغامرة المجنونة التي أقدم عليها في الكويت. كالعادة، كانت حسابات صدّام خاطئة. ما حصل أن الدهاء الأيراني تكفل بجعل الأميركيين يشنون الحرب على العراق، نيابة عن أيران، من أجل أسقاط النظام العائلي- البعثي للرئيس العراقي الراحل.
لا يكفي القول أن المؤسسة الأمنية تريد أستعادة الأعتبار الذي تستحقه وبالتالي أستعادة الأحترام والصدقية. ولا يكفي القول أنها شاءت الرد على أدارة بوش الأبن التي أستخدمتها لتبرير حرب العراق، التي لم يخرج منها سوى منتصر واحد هو أيران، لتبرير صدور التقرير الأخير. في النهاية، الولايات المتحدة دولة مؤسسات ومن الصعب أن تنشر أجهزة الأستخبارات تقارير سرية من دون موافقة الأدارة. ولذلك، يحتمل أن تكون هناك أعتبارات أخرى وراء هذا التقرير. من بين هذه الأعتبارات تواطؤ ما بين الأدارة والمؤسسة الأمنية يستهدف نزع ورقة التخويف الأيرانية بالسلاح النووي.
أنشغل العالم في السنوات القليلة الماضية بالبرنامج النووي الأيراني. وفي ظل أنشغال العالم بما أذا كانت أيران ستتمكن من أمتلاك السلاح النووي، أنصرف النظام فيها ألى تعزيز مواقعه على الصعيد الأقليمي. ركّز النظام ألأيراني على أبتلاع جنوب العراق وتحويله ألى محافظة أيرانية بطريقة أو بأخرى. وأكد في الوقت ذاته أنه لاعب أساسي في لبنان وأنه يمتلك عبر quot;حزب اللهquot; قرار الحرب والسلم في الوطن الصغير. وأثبت ذلك صيف العام 2006 عندما أتخذ القرار القاضي بمهاجمة موقع أسرائيلي عند quot;الخط الأزرقquot; في جنوب لبنان وأسر جنديين. وأدى الأمر ألى شن أسرائيل حربها على لبنان التي أعادت البلد ثلاثين عاما ألى خلف. ووصل نفوذ النظام الأيراني ألى غزة حيث لعب دورا أساسيا في الأنقلاب الذي نفذّته quot;حماسquot; بواسطة الميليشيات التابعة لها على رأسها quot;القوة التنفيذيةquot; التي بنيت على طريقة ميليشيا quot;حزب اللهquot; في لبنان.
هل أستهدف تقرير الأستخبارات الأميركية سحب ورقة السلاح النووي من يد أيران والقول لها أن الموضوع الأساسي ليس السلاح النووي بمقدار ما أنه النفوذ الأيراني في المنطقة خصوصا في العراق وفي الخليج الغني بالنفط ومصادر الطاقة؟ ربما كان هذا التفسير للأسباب التي دفعت في أتجاه صدور التقريرمنطقيا ألى حد ما. الدليل على ذلك رد الفعل الأيراني على التقرير خصوصا ما صدر عن الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي أكد الأصرار على البرنامج النووي وعلى متابعة تخصيب اليورانيوم تحديدا. بدا الرئيس الأيراني وكأنه يقول أن قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق وأن المطلوب أنشغال العالم بالبرنامج النووي الأيراني وليس بما تفعله أيران على الأرض أكان ذلك في لبنان أو فلسطين أو العراق أو البحرين... أو اليمن.
في النهاية، أن البرنامج النووي لا يهم سوى أسرائيل. ما يهم الولايات المتحدة من يمتلك النفوذ في المنطقة، خصوصا في منطقة الخليج حيث الأحتياط النفطي الأهم في العالم. صحيح أن التقرير يعتبر رسالة ألى أيران فحواها أن لا ضربة أميركية قريبا، نظرا ألى أن لا دليل على تطويرها السلاح النووي وأنها أوقفت برنامجها في العام 2003 بشهادة كل أجهزة الأستخبارات الأميركية. لكن الصحيح أيضا أن المعركة أنتقلت ألى مجال آخر. من صاحب النفوذ في المنطقة وفي الخليج تحديدا؟ هل تستطيع أيران أن تكون القوة المهيمنة على المنطقة؟ هل مسموح لها بذلك؟
لا بدّ من العودة دائما ألى تجربة صدّام حسين مع الأدارة ألأميركية، أي أدارة أميركية. أنتهى صدّام يوم دخلت قواته الكويت ثم أراد التفاوض مع الأميركيين من موقع أن الكويت بنفطها quot;قالب حلوىquot; أبتلعه العراق وأن لا مفر أمامهم من التفاوض معه في شأن اقتسام النفوذ في المنطقة. عندما طرح الرئيس العراقي الراحل هذه المعادلة، كان بذلك يعلن نهايته. لم يفهم أن الأميركيين على غير أستعداد لتقاسم النفوذ في المنطقة مع أي جهة أخرى. رفضوا ذلك أبان الحرب الباردة، فكيف يمكن أن يقبلوا به بعدما صاروا القوة العظمى الوحيدة في العالم؟ قد تكون تلك الرسالة المختلفة التي أرادت الأدارة الأميركية توجيهها ألى أيران عبر طمأنتها في شأن برنامجها النووي! أرادت نقل المواجهة ألى ميدان آخر، ميدان النفوذ الأقليمي لا أكثر ولا أقلّ.
ثمة من يفسر الخطوة الأميركية هذه بأن الأدارة أستعادت المبادرة أقليميا نتيجة التطور الأيجابي الذي شهده الوضع في العراق. صارت هناك قدرة على أحتواء خطر quot;القاعدةquot; والأرهاب الذي يمثله هذا التنظيم في المناطق السنية. سمح ذلك للأميركيين بمباشرة التصدي المباشر للميليشيات الشيعية المدعومة من أيران. ما دام خطر quot;القاعدةquot; أستئصل ما مبرر أستمرار وجود الميليشيات الشيعية؟ هذه رسالة أخرى يوجهها الأميركيون ألى أيران عبر تقرير أجهزة الأستخبارات المجتمعة. فحوى الرسالة أن الأرض الحقيقية للمعركة هي مستقبل العراق والنفوذ الأقليمي لأيران وأن الملف النووي لن يغطي النيات المبيتة للنظام الأيراني مهما بلغ من قدرة على ممارسة فن الدهاء.
ما هو أكيد أن أيران لم تقرأ الرسالة الأميركية بهذه الطريقة، بل أعتبرت أن تقرير الأستخبارات في شأن برنامجها النووي دليل ضعف تعاني منه أدارة بوش الأبن وأن الوقت حان للدخول في مساومات من جهة ومتابعة الضغوط من جهة أخرى. هناك مساومة مع الأميركيين في العراق وهناك ضغوط على لبنان حيث تحولت أنتخابات الرئاسة رهينة للنظامين السوري والأيراني. وحدها الأيام ستتكفل بالأجابة عن السؤال الذي لا تستطيع أي أدارة أميركية التهرب منه. من يتحكم بمصادر الطاقة في العالم، خصوصا في الخليج. هل مسموح لأيران وغير أيران التحكم بها؟

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه