الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

العراق 1945- 1958: ازدهار ثقافي ونضج سياسي وانفتاح اجتماعي (3 من6)
بقلم إيريك ديفيس
تقديم وترجمة حسين كركوش


جميع المكونات العراقية تربطها علاقات تقليدية جيدة

وعلى أي حال، فأن القنصل البريطاني كان قد أشار، أيضا، إلى quot;العلاقات التقليدية الجيدة، الموجودة بين جميع المكونات في مدينة البصرة، التي لم تتأثر، إلى حد كبير، بتوتر المشاعر السياسية، الذي ظهر بعد تقسيم فلسطينquot; (28). وعلى سبيل المثال، فأن المسيحيين، واليهود، والشيعة في مدينة البصرة اشتركوا في إلقاء خطب في حفل تأبيني مشترك، أقيم في صيف 1948، بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة أحد وجهاء السنة هو، الشيخ أحمد نوري باشا أعيان، وحضرت الحفل زعامات المكونات الأربعة في المدينة. إن أعيان البصرة المحليين (يطلق عليهم البريطانيون تسمية quot;طبقة المسلمين الأحسن the better class Moslemquot;) بدأوا يتنفسون الصعداء (بعد فترة قصيرة على إعدام شفيق عدس) عندما تم غلق المحاكم العرفية في البصرة، وتراجع الهيجان ضد اليهود. وقد أقر العديد من أعيان المدينة أمام الإنكليز، لاحقا، بأن مظالم عديدة تم ارتكابها، رغم أن ما من أحد أثار تلك المظالم (29).
إن ما حدث في البصرة عام 1948 يتطابق مع ما حدث بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1968، وتحديدا فيما يتعلق بفبركة تهمة التجسس الزائفة ضد بعض الذين تبقوا من يهود عراقيين، عندما تم إعدامهم وسط مهرجان استعراضي، بهدف حرف الانتباه عن المشاكل الاجتماعية القائمة، وكذلك لتخويف المواطنين وردعهم من تحدي الدولة. وفي الواقع، فإن السلوك المتحيز للقضاة القساة في البصرة (كان معروفا لدى الأحزاب أن رئيس محكمة البصرة، عبد النادر كامل، ورئيس المحكمة العرفية للمنطقة الثالثة، عبد الله النعساني، يملكان تصورا مسبقا بنوعية الأحكام ضد اليهود، حتى قبل اعتقالهم)، لم يكن هو المسألة الوحيدة. إذ أن ذات الموقف الخجول للفئات المتعلمة والبارزة، الذي تمثل في عدم الاحتجاج، وقتذاك، ضد تلك الأحكام التي اعتبرها العديدون لاحقا، مهزلة قضائية، كان قد حدث في عام 1948 مثلما حدث لاحقا في عام 1969. ففي عام 1969 لم يصدر أي احتجاج عام ضد عمليات إعدام يهود بغداد في الأماكن العامة، رغم أن الحكم الجديد وقتذاك بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين، كان ما يزال ضعيفا ولا يتمتع بقاعدة شعبية قوية. إن غياب الاحتجاجات القوية من قبل المواطنين في كلتي الحالتين، ساهم في خلق فراغ سياسي، وهو فراغ أفضى إلى قيام حكم تسلطي. ومثلما في عام 1948، فأن ما حدث في عام 1969 أسس لتشكل ذاكرة تاريخية، تركزت حول أفكار، مثل نظرية المؤامرة، والكراهية المرضية لكل ما هو أجنبي (من تلك الأفكار، على سبيل المثال، تلك الفكرة التي تضع كل مشاكل الأمة على عاتق اليهود). وهذه الأفكار نفسها وظفتها الدولة التسلطية، في وقت لاحق، لتحقيق غايات أكثر بشاعة، مثل ممارسة عمليات التعذيب، وعمليات الإعدام. إن هذه الذاكرة المولودة من رحم الدولة، تم استخدامها بطريقة مضادة لذاكرة تاريخية أكثر أتساعا وأكثر انفتاحا، هي الذاكرة التي تستمد جذورها من وثبة كانون ومن انتفاضتي 1952 و 1956.

إجماع على رفض الطائفية
ورغم أن الأحزاب المنادية بالإصلاحات، كالحزب الوطني الديمقراطي، ولكن بشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي، كانت قادرة على كسب أعداد متزايدة من الأتباع، فأن الحزب الوطني الديمقراطي عجز عن تطوير قاعدة شعبية حقيقية له، بينما كان الحزب الشيوعي يسير في طريق غير واضح ايدولوجيا، وبطريقة مدمرة للذات، متنقلا من سياسة تعتمد التحالفات إلى سياسة تعتمد التطرف. ولكن، رغم هذه المشاكل، فأنه ما في يوم من الأيام، طوال فترة الخمسينيات، أظهر فيه الوطنيون العراقويون، دعما وتأييدا للطائفية، والانعزال العرقي، أو للمشاعر القومية المتعصبة. وما كانت مواضيع مثل الوحدة القومية العربية والهوية الأثنية، تحتل مواقع مركزية في اهتماماتهم (30). وحتى عندما كانت قيادة الحركة الوطنية العراقوية لا تطبق دائما ما تبشر به من أفكار إلا أن رسالتها في الإصلاح الاجتماعي ورفض الانغلاق العرقي، كانت تجد لها أذانا صاغية من قبل أعداد غفيرة من العراقيين.
إن القدرة التي أظهرتها الحركة الوطنية العراقوية في تعبئة العديد من الأنصار خلال الفترة التي مهدت لثورة تموز 1958، كانت علامة أمل للمستقبل. وكلام مثل هذا يتمتع بمصداقية خاصة، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار عمليات القمع المتواصلة التي كانت تشنها الدولة، بشكل خاص ضد الحزب الشيوعي، وكذلك تصعيد التهجمات من قبل العروبويين الوحدويين، وأيضا تزايد الهجمات من قبل الحكومة المصرية، بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تبنيه لقضية الوحدة العربية في عام 1956. إن الأفكار التي اعتمدتها الحركة الوطنية العراقوية في صياغة رؤاها للأمور، تمثلت فيما يلي: احترام متبادل بين كل الجماعات الإثنية العراقية ; تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة النظر بسياسة توزيع الثروات، كإصلاح الأراضي الزراعية، وتشريع قوانين عمل تقدمية ; وجود حدود ثقافية مرنة داخل المجتمع، من شأنها تسهيل وجود خطاب داخلي يعالج الفوارق الاجتماعية، بدلا من منع هذا الخطاب أو تقييده. وإذا أردنا الاختصار، فبإمكاننا القول إن رؤيا الحركة الوطنية العراقية للمجتمع السياسي العراقي هي، أن يكون هذا المجتمع quot;خيمة كبيرةquot;، يجد داخلها جميع العراقيين مكانا لهم، ما خلا كبار الأثرياء وquot;تجار السياسيةquot; (31).
ومن الناحية الثانية، وفيما يخص دعاة الوحدة القومية العربية، التي كانت أفكارهم منتشرة بقوة، تحديدا داخل ما يسمى بالمثلث العربي السني الواقع في الوسط الشمالي من العراق، فأن لغة الخطاب التي تبنوها من أجل تعبئة السكان لصالح مشروعهم، كانت مختلفة كليا عن لغة خطاب الوطنيين العراقويين. وكان المشروع الذي اعتمدوه بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة توحيد المجتمعات العربية، مع ما رافقه من مطالبة بتعجيل إنهاء السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، قد أصابه التشظي عند قيام الدولة اليهودية في فلسطين. وقد عزز قيام إسرائيل، التي كان ينظر إليها كجسم غريب (Other)، الفكرة الشائعة على نطاق واسع، والقائلة بان العالم العربي تتم محاصرته ونخره من الداخل، على أيدي الامبرياليين وحلفائهم من الخونة. والمقصود بالخونة هنا، تحديدا، هي النخب السياسية المحلية والأقليات الموجودة داخل العالم العربي. وطبقا لوجهة نظر العروبويين الوحدويين، فأن العالم العربي لا يمكنه أن يستعيد قوته، إلا إذا حصن نفسه تحصينا كاملا ضد quot;نجاساتquot; العالم الخارجي (32).
لقد أدت الهزيمة الفلسطينية إلى ظهور مجموعة من الخلافات الفكرية تتعارض مع ما كان قائما من رؤيا رمزية للإصلاح الاجتماعي. فطبقا لهذه الرؤيا المستجدة، لم يعد إصلاح العالم العربي يمر عن طريق إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل يمر عبر التضامن السياسي المرتكز على quot;الأصالة الثقافيةquot;. وبدلا من التركيز على معالجة القضايا الاجتماعية، فأن العروبويين الوحدويين شغلوا أنفسهم بصراعاتهم الداخلية الخاصة. فحزب الاستقلال، على سبيل المثال، بدأ ينأى بنفسه عن مجموعة الضباط الشريفين السابقين، مثل نوري سعيد، الذي كان ما يزال، وقتذاك، مهيمنا على النخبة السياسية العراقية. ورغم أن أعضاء حزب الاستقلال كانوا يتكونون، نسبيا، من التكنوقراط من موظفي الدولة المنحدرين من الطبقة الوسطى ومن فئة صغار التجار، وأوضاعهم الاجتماعية المتواضعة لا يمكن مقارنتها بأوضاع أفراد النخبة السياسية التقليدية، إلا أنهم مع ذلك كانوا يختلفون، بالتأكيد، عن الوحدويين العرب من أعضاء حزب البعث، المنحدرين من الطبقات الشعبية الفقيرة، والقادمين من أصول ريفية.

موقف المثقفين العراقيين إزاء نظام ما بعد ثورة تموز
إن الصراع الثالث، الذي ذكرناه في بداية هذه الصفحات وقلنا أنه كان يدور بين المثقفين أنفسهم، إنما ساهم في إثارة أسئلة حول الدور الذي يلعبه المثقفون في عملية التغيير الاجتماعي. وهنا، نطرح السؤال التالي: هل أن الشعراء العراقيين والروائيين وكتاب القصة القصيرة والفنانين والصحافيين والطلاب والقادة العماليين، تصرفوا كquot;مثقفين عضويينquot;، والتزموا بquot;حرب المواقعquot;؟ (المؤلف يقصد بquot;حرب المواقعquot; المعنى الذي يشير إليه غرامشي والمتضمن لفكرة quot; تدمير- بناءquot;، التي تتطلب تحريك المجتمع المدني من الداخل بطريقة ثورية هدفها إقامة علاقات اجتماعية ذات نوعية جديدة ح. ك.)
إن الحركات الثقافية الجديدة، التي تطورت في نهاية الأربعينيات وفي فترة الخمسينيات في العراق، والتي لاقت صدى واسعا من قبل طائفة من المتعلمين، كانت تتضمن، إلى حد كبير، على عناصر غاية في التجديد، فيما يخص المحتوى، لكنها فشلت، مع ذلك، في تقديم أمثلة متماسكة ومضادة لما هو مألوف، كي يكون بمقدورها تحدي الأشكال القائمة للتطبيقات السياسية. إن اكتفاء المثقفين العراقيين بالتركيز على نقد الأمور بدلا عن إعطاء رؤى بديلة، فيما يتعلق بالمجتمع والقضايا الإستراتيجية، وتحويل تلك الرؤى إلى واقع، يوضح إلى حد كبير لماذا التزم المثقفون منذ البداية بمواقف غير نقدية البتة إزاء النظام العسكري الجديد الذي وصل إلى السلطة بعد ثورة 14 تموز 1958. وكما يلاحظ غرامشي، فأن أي إستراتيجية ثورية حقيقية يجب أن لا تشغل نفسها فقط بنقد الأوضاع الاجتماعية القائمة، ولكن عليها أن تقدم رؤيا لصياغة مجتمع جديد، لما بعد الثورة. فرغم أن الانتلجيسيا العراقية لعبت دورا حاسما في تجريد النظام الملكي من الشرعية التي كان يدعيها، لكن حالما تم القضاء على النظام الملكي، فان تلك الانتليجيسيا وجدت نفسها تقف عارية، مفاهيميا وايدولوجيا، وبالتالي غير قادرة على تشجيع تحول نحو قيام سياسة ديمقراطية، وقيام نظام سياسي يمثل جميع الاثنيات. وبدلا من ذلك، فقد تم السماح لقاسم أن يمسك بزمام المجتمع، تقريبا بدون منازع، وهو أمر سرعان ما أنتج سياسة هي، في الأحرى، سياسة تسلطية أكثر من كونها شكلا من أشكال النظام الديمقراطي.
وعلينا أن نذكر هنا، أن الشخصية الوحيدة التي حاولت أن تضغط على قاسم باتجاه إجراء انتخابات ديمقراطية فورية، كان كامل الجادرجي، قائد الحزب الوطني الديمقراطي، وقد فعل ذلك بفضل ما تعلمه من تعاونه السابق مع حكومة صدقي سليمان في عام 1936.

حركة الشعر الحر هدفت لتغيير المجتمع كله وليس الشعر وحده
إن كل ذلك لا يمنعنا من القول بان العديد من المساهمات الثقافية والفنية من قبل المثقفين العراقيين خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حملت في ثناياها رؤيا شاملة لمجتمع تعددي، تستطيع داخله كل الجماعات الأثنية أن تعبر عن نفسها ثقافيا، وان تكون عناصر ناشطة في كل مفصل من مفاصل المجتمع العراقي.
وعلى سبيل المثال، فأن الرؤية النقدية التي تضمنتها حركة الشعر الحر، لم تقتصر على الشكل الشعري وحده، وإنما تخطته وطالت الموروث الثقافي. وكما يرى بحق Terry DeYoung فان شعر بدر شاكر السياب كان بمثابة تحدي للعديد من المسلمات السائدة، كما سنوضح.
فالأمر الأول هو أن شعر السياب كان، رفضا للرومانتيكية التي كانت سائدة في الشعر العربي، مثلما كان رفضا للعلاقة القائمة بين الفرد وبين الأمة، كما تضمنها التراث. ولكونه هكذا، فأن شعر السياب كان تفنيدا للفكرة القائلة بان quot;الأصالة الثقافيةquot;، والنقاء العرقي، ووحدة الأمة العربية هي المكونات quot;الطبيعيةquot; للهوية الجمعية العراقية، وللمجتمع السياسي العراقي.
الأمر الأخر هو، أن حركة الشعر الحر كانت تحدي للوحدة المفترضة بين الشاعر والأمة. فالقوة التي تخلقها لحظة لقاء الشاعر بالجمهور إثناء التظاهرات السياسية العامةndash; على سبيل المثال، خلال أيام وثبة 1948 ndash; ما كان بمقدورها لا أن تستمر طويلا، ولا أن توفر إجراءات فعالة لتغيير النظام السياسي. ومثلما لاحظ أحد المراقبين الأذكياء، فان حركة الشعر الحر كانت أكثر بكثير من كونها مجرد مسعى لتثوير الشكل الشعري وحده. لقد كانت رفضا لمحتوى وشكل وأغراض ومواضيع الشعر الذي كان موجودا لدى رومانسي ما قبل الحرب (الثانية) الذين كانوا يؤكدون، ببساطة، على تلاحم الشاعر التحريضي مع الجمهور، وهي عملية قد تنجح في المسعى التحريضي، لكنها تظل عاجزة عن خلق وسائل من شأنها إدامة هذه اللحظة الحاسمة، مثلما حدث في وثبة 1948 (33). وضمن هذا السياق، نلاحظ أن المثقفين كانوا قد بدؤوا يبتعدون، بشكل واضح، عن التعابير المكررة والشعاراتية التي كانت موجودة سواء في خطاب القوميين العروبيين المتطرفين، أوفي الخطاب الأكثر دوغماتية عند الحزب الشيوعي العراقي.
ورغم أن هذا التوسع في الثقافة الذهنية والسياسية لا يمكن اعتباره منظما وفقا لمعيار مجرد، بقدر اعتباره آلية تهدف إلى المزيد من التحدي الفعال ضد الحكم الكولونيالي في العراق،فانه، مع ذلك، كان يوحي بمزيد من التعددية في مجالات حرية التعبير، وذلك عبر دمج سلسة من روابط رمزية أكثر أتساعا بكثير مما كان في السابق جزءا من عالم الانتليجيسا العراقية.
الأمر الثالث هو، أن الحرمان الاقتصادي المتزايد وما ترتب عليه من نمو في الوعي الطبقي (وفي الوعي الوطني أيضا)، الذي ظهر واضحا خصوصا بعد الوثبة، أصبح ينذر بحدوث المزيد من التشظي للمجتمع العراقي. فالوثبة وتقسيم فلسطين، اللذين حصلا بعد الانهيار الذي أصاب القطاع الزراعي، وكذلك تزايد حدة الصراع داخل الحركة الوطنية نفسها، حفزت المثقفين العراقيين للبحث عن معايير جمالية فنية، وعن عوالم رمزية جديدة تأخذ بالحسبان الواقع السياسي والاجتماعي الجديد، الذي جسدته هذه الأحداث.
وبالنسبة للسياب والملائكة فان هذا التساؤل قادهما إلى رفض الوطنية العراقوية واحتضان المفاهيم العروبوية الوحودية. (34) ولهذا فان حركة الشعر الحر، وكذلك الحركات الأدبية والثقافية والفنية الجديدة يجب أن ينظر إليها بمعيار سياسي وفني، وليس بمعيار واحد.

أسباب الاهتمام بحضارة العراق القديمة
الاتجاهات الجديدة التي شهدها النتاج الثقافي العراقي خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تتمثل نتائجها فقط في الأعمال الشعرية العظيمة، وإنما وجدت طريقها، أيضا،إلى العديد من الأصناف الأدبية، والفنون، والتنقيب الأثاري، والسينما والموسيقى. إن التفاوتات الحادة في الدخول لدى الطبقات الاجتماعية، وكذلك تزايد وتيرة العنف بين الدولة وبين الحركة الوطنية، دفعت المثقفين العراقيين للتمعن في التصدعات التي أحدثتها التناقضات السياسية والاجتماعية المتصاعدة داخل المجتمع العراقي. وبدلا من أن تقوم الدولة بتحقيق توافقات أصلاحية من شأنها ربما تقليل هذه التفاواتات الاجتماعية، فأنها، أي الدولة، ازدادت تعنتا بوجه الأصوات المطالبة بالتغيير. إن الكشوفات الثقافية الثرية الجديدة، كشعر السياب والملائكة والبياتي وسعدي يوسف ولميعة عباس عمارة، بالإضافة إلى آخرين، شكلت مصادر في غاية الأهمية لقيام مجتمع عراقي حديث وحياة سياسية جديدة.
وعلى أي حال، فإن السياسة المنبوذة، المتخشبة والقصيرة النظر، التي كانت تنتهجها الدولة الملكية، ظلت بعيدة عن بلورة خطاب ثقافي ناضج يعكس التنوع العراقي. إما النتاج الثقافي خلال هذه الفترة فقد تميز، من الناحية السياسية، بالمشاكسة، بسبب انغماره في تحدي التراث و quot;إعادة بناءه من جديدquot; أو إعادة النظر فيه. وحتى إذا كانت غاية ذاك النتاج هي، خلق أشكال جديدة للهوية الاجتماعية والثقافية والسياسية، فأن هذه العملية قادت، منذ البداية، إلى مزيد من التشظي، وذلك من خلال تحليل ورفض الكثير من القضايا المستمدة من الماضي. وبينما كان المثقفون العراقيون يتلمسون طريقهم لإيجاد إجابات على بعض المسائل،مثل حالة التوتر الناشئة عن كيفية التوفيق بين حقوق الفرد وبين المسؤوليات الاجتماعية، أو قدرة التراث على مواجهة مشاكل quot;الحداثةquot;، أو نوعية الهوية السياسية والثقافية المطلوبة لإعطاء العراق وحدة مجتمعية، أقول بينما كان المثقفون منشغلين بهذه القضايا، فأنهم كانوا، في الوقت نفسه يتساءلون حول أي أنواع من الذاكرة التاريخية تصلح لمعالجة هذه القضايا. وهذا هو واحد من الأسباب التي تفسر لماذا كان الكتاب والمؤرخون وعلماء الآثار العراقيون لا يكتفون فقط بسبر أغوار التاريخ العربي للعراق، وخصوصا الفترة العباسية، وإنما كانوا منشغلين، أيضا، في سبر أعماق تاريخ عراق ما قبل الإسلام، أي حضارة وادي الرافدين، ليستمدوا منها الإلهام في مسعاهم. هذا النشاط كان في غاية التعقيد، وكان يتطلب quot;لغات خاصةquot; عديدة ومتنوعة، بالمعنى الذي كان يعنيه لودفك وجستنين Wittgensteinian (35). وهذا يعني أن الكثير من الخطاب المصاحب للإنتاج الثقافي، لم يكن مهيأ للنفاذ إلى شرائح واسعة من السكان، وذلك لسببين، أولهما أن نسبة واسعة من العراقيين كانوا أميين في الخمسينيات، والسبب الأخر أن ذاك الخطاب كان يتضمن مفاهيم وأطر عمل ذهنية لا يفهمها سوى المختصين الذين يناقشونها. فقد كان شعر السياب وأعمال جواد سليم، وأهمية اللقى الأثرية الجديدة التي تم العثور عليها، والمتعلقة بحقبة ما قبل الإسلام في العراق، كل هذه الأمور كانت بعيدة جدا عن تناول الجمهور، رغم أن أفراد الانتليجيسيا العراقية كانوا يبذلون جهودا متواصلة باتجاه خلق عالم جمالي ورمزي أكثر تماسكا، من أجل تسهيل فهم مجموعة واسعة من القضايا المعقدة.
يتبع

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه