مثلما أنّ التّوجّهات العروبيّة قد أجهضت على فلسطين منذ بدء الصّراع في هذه البقعة من الأرض، يبدو أنّ التّوجّهات الإسلامويّة الأصوليّة الّتي ظهرت في السّنوات الأخيرة تخطو هي الأخرى الآن خطوات حثيثة للإجهاض على ما تبقّى من حالة مجتمعيّة فلسطينيّة. فمنذ أن بدأ الصّراع في هذه المنطقة، وجد الفلسطينيّون أنفسهم في ما يمكن أن يسمّى quot;الحضن العربي الدّافئquot;. غير أنّ هذا الدّفء الموهوم كان يشير في الحقيقة إلى هشاشة الوضع الفلسطيني من ناحية تكوين الهويّة الوطنيّة المنفصلة عن سائر الهويّات الوطنيّة الّتي بدأت تظهر على ساحة هذه المنطقة من جهة، وحالة الاتّكاليّة الفلسطينيّة الّتي وسمت توجّهات أهل هذه البلاد طوال عقود.

والحقيقة الّتي لا يمكن تجاهلها هي أنّنا هنا في هذه البقعة من الأرض لا زلنا نتعارك خلال هذه العقود المنصرمة، أو القرن الفائت، على خلفيّة انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة من جهة، ومن بعد على خلفيّة ما أعقبه الاستعمار البريطاني والفرنسي من تقسيمات جغرافيّة لسكّان هذه المنطقة، ومن خلال ابتداع هذا الاستعمار لدويلات وشعوب جديدة لم تكن قائمة في الواقع من جهة واحدة، واضطهاد شعوب أخرى قائمة في هذه البقعة منذ قديم الزّمان، كالأكراد على سبيل المثال من الجهة الأخرى.

لا مناص من التّذكير أيضًا بأنّ كلّ هذه الحدود المرسومة بين الدّول أو الدّويلات الّتي نشأت في هذه البقعة، مثلما هي في مناطق أخرى من العالم، هي من مخلّفات ذلك الاستعمار الّذي انحسر وترك هذه المناطق. وبكلمات أخرى، يمكن القول إنّ العروبيّين الّذين يتحدّثون عن حدود هذه الكيانات السّياسيّة النّاشئة كما لو أنّها كانت قائمة دائمًا فإنّما هم يناقضون أنفسهم من ناحية تقديس هذه المخلّفات الاستعماريّة. وإذا كانوا على هذه الحال التّقديسيّة لمخلّفات الاستعمار، فلا بأس عليهم، لكن حريّ بهم في الآن ذاته أن يعرفوا ذلك أوّلاً، ومن ثمّ فليذهبوا مع هذا التّقديس للنّهاية. أي، وبكلمات أخرى، فليدافعوا إذن، وعلى سبيل المثال، عن استقلال لبنان الحقيقي والكامل بحدوده الّتي خلّفها الاستعمار أمام محاولات الهيمنة السّوريّة المتكرّرة على هذا البلد طوال هذه العقود الأخيرة. أم أنّ القومويّة والتّوجّهات العروبيّة، بنظرهم، تنفع في حال العراق والسّودان على سبيل المثال ولا تنفع في حال لبنان؟ إنّ علم هذه التّناقضات العروبيّة عند الله.

هذه هي حال هؤلاء مع الوضع الفلسطيني الّذي ينزف طوال هذه العقود. بل الحال أبعد من ذلك بكثير، إذ أنّ من يضع العروبة في سلّم أولويّاته فإنّه في الواقع يعبّر عن يأس من إصلاح الحال الذّاتيّة فيذهب إلى خانة الحديث القوموي التّعميمي معلّلاً النّفس بأنّه رافعٌ لرايات الأمّة، هذا المصطلح الفضفاض الّذي لا يعرف أحد من كلّ هؤلاء ماذا يعني وماذا يحمل من مواصفات. وبذلك يكون قد أراح ضميره من آلام التأنيب لما هو حاصل في خانته الضّيقة.

والأمر الآخر الّذي يماثل هذا التّوجّه هو هذا التّيّار الإسلاموي الّذي بدأ ينهش ما تبقّى من الحالة المجتمعيّة الفلسطينيّة. ويمكننا أن نربط هذا التّوجّه الإسلاموي الجديد بذلك القوموي القديم. فلقد تبدّلت التّوجّهات غير أنّ الجوهر يبقى واحدًا. إنّ من يضع التّوجّه الإسلاموي في رأس سلّم أولويّاته فهو في الحقيقة لا ينظر إلى فلسطين ككيان مجتمعي وسياسي منفصل عن سائر quot;الأمّةquot;، الإسلاميّة في هذه الحالة. وهنا، مرّة أخرى، فإنّه يركن إلى حالة من الاتّكاليّة على العالم الإسلامي ليحلّ له مشاكله المستجدّة.

من هنا، فإنّ التّوجّه الإسلاموي الفلسطيني سيبيع المجتمع الفلسطيني في مزاد علني للأيديولوجيّات الإسلامويّة الّتي قد تنشأ هنا وهناك في هذا العالم المترامي الأطراف. وبذلك فإنّ هذا التّوجّه يشكّل في الحقيقة خطرًا على الوجود الفلسطيني الوطني الّذي طالما دافع عنه ياسر عرفات، رغم كلّ تحفّظاتنا منه ومن فساد سلطته. إنّ الكشف عن ضبّاط إيرانيين في غزّة واعتقالهم، كما تفيد الأنباء، هو طرف هذا الخيط الّذي يجدر بمن تبقّى من مسؤولين فلسطينيّن الانتباه إلى خطورته. الأخطبوط الإيراني الّذي أرسل أذرعه إلى لبنان والعراق من قبل، والآن يرسلها إلى فلسطين فهو لا يفعل ذلك لزرقة عيون الفسطينيّين وإنّما لغرض في نفس خامنئي. إنّ الشّعب الفلسطيني، على ما نعلم من حقائق الجغرافيا لدينا، سيعيش جنبًا إلى جنب مع الشّعب الإسرائيلي في هذه البقعة من الأرض، وليس إلى جنب الشّعب الإيراني مع كلّ الاحترام للشعب الإيراني، ليس لملاليه.

ولهذا فإنّ التّوجّه الفلسطيني يجب أن يكون في مواجهة المجتمع الإسرائيلي على ما تحمله هذه الحقيقة من مسؤوليّات الحديث الصّريح مع هذا المجتمع. إنّ المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى قيادات تصارحه بهذه الحقائق، بعيدًا عن أوهام الشّعارات الرنّانة، والبلاغات الطنّانة، الّتي طالما جلبت الكوارث والمآسي على أبناء هذا الشّعب. فهل بقيت هنالك قيادات مسؤولة؟ وهل بقي هنالك مثقّفون فلسطينيّون يتحمّلون مسؤوليّة المصارحة مع أبناء شعبهم في هذه المرحلة؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فليسمع هؤلاء أصواتهم علانية، قبل فوات الأوان.

[email protected]