اهداء خجول: لو لم تكن الكلمات إلاّ حياة ــ كما قال الشهيد العراقي الخالد (عزيز سيد جاسم) رحمه الله تعالى ــ لم اهد هذه الكلمات إليها، تلك التي لم تلد روحها بعد، أحتراما لقامتها الشا مخة، وتثمينا لذلك العفاف الباسق، وإجلالا لكبريائها لا عن غرور، وغرورها لا عن كبر، ولكن إعتزازا بالنفس الشهمة، وتكريسا للشعور الحي بكرامة كل إنسان. والله الموفق لكل خير، وهو ملاذنا حتى لو لم نعرفه.

نظرة على الدراما الشكسبيرية
في (عطيل) كما في غيرها، كان شكسبير يهدف فيما يهدف إليه، تعرية الطبيعة البشرية لا من خصائصها الأولى حسب تصوره وفهمه لهذه الخصائص، بل كان يجهد قاصدا، وبعمق، تجريد الطبيعة من إكتساءات متوالية تلبّست بها عبر مئات القرون من الزمن الصعب، فكأن شكسبير يكره الثقافة، لأنها كما تبدو له في تصوري، عبارة عن خدعة سرعان ما تختفي فيما لو إزدحمت الحياة بمفارقاتها وتناقضاتها وصراعاتها، أي عندما تدخل الحياة في حيز إنعطافها على ذاتها الرقمية، ذاتها المشبعة بالانا وحسب.
إن شكسبير كان يعمل على مشروع ضخم، مشروع ناقم، مدمر، قاسي، يجبه الإنسان في ذورة جبروته، في قمة حضوره التاريخي، في عمق شعوره بالقوة والسلطة، كان شكسبير لصا كبيرا، لصا خفيا، يحفر في غرور الإنسان، يحطم سطوته الروحية، يصدع شعوره بالفوقية والإستعلاء ! وكان آليته في هذا العمل المدمر التعرية، الكشف، تمزيق الثياب قطعة قطعة، تجريد الجسد، الروح، العقل، الضمير، الوجدان، الشعور، الوعي، الفهم، الدراية، الفقه، تجريد كل ذلك من الغلاف الخارجي، من تلك الأقشاش الهشة، التي يختفي وراءها الشيطان بكل خبثه وجبنه وكهنوته الشهوي بالتخريب والتفسيد والتدمير !
كان شكسبير يعمل على إثبات جبن الثقافة، خشونتها الخفية، خبثها، فهي لا تعدو خدعة، كائنا خادعا، ليست سوى غطاء مختلق، سرعان ما يتمزق بأنياب الطبيعة المدببة، الشرسة، المسنونة بسم الخصائص الاولى !

تجريد الطبيعة!
تعريتها من الثقافة، تلك الزائدة الكا ذبة، فإ ن الغيرة... الدم... الغضب... الحسد... القتل... الكذب... التمويه...الزمن المستعار... تلك هي الأ وائل، تلك هي الأواليات، تلك هي الحقيقة النا بتة من الأ زل، فلماذا لا نحكم على الثقافة بالكذبة الكبيرة؟
الاخلاق... النظم الدستورية... العادات... العرف الجميل... الدساتير... وكل الأنسقة ا لتي تعبر عن محاولات جادّة لضبط تلك الحقائق في سياق الحفاظ على الإجتماع، لم تكن سوى جهد متأخر...
شكسبير آل على نفسه أن يزيح الستار عن هذا الوهم، وهم الثقافة، وهم الدين، وهم السلطة الأخلاقية، شبح الكائن القيمي المقدس.
فهل كان حاقدا على هذ ه النشاطات الإنسانية لأنها مجرد خدع للسيطرة على الخصائص الاولى؟
أم لأنها حضور مؤقت يفتقر إلى الأصالة والتكوين الفطري؟
هل كان حاقدا على الثقافة لما تحمل من زيف يوحي بالعكس؟
أم كان في الأساس غارقا في طبيعته الاولى فكتب بوحي من تلاعبها بفكره وقلمه وحروفه؟
هل كان يريد فضح الأ زدواجية الإنسانية حيث عمل الإنسان على تغليف الخشن المتأصل في داخله بالناعم المستورد؟
تلك من أسرار العبقرية الشكسبيرية ودهائها ا لمجنون بالتخفي.
لم تكن دراما شكسبير مفردات ملتَقَطة على نحو الاننقاء، منتقية من ساحا ت الفعل الانساني وهو يتحرك على سجيته بقدر ما هي سياحة جريئة في بحر النفس الإنسانية المهتاجة بكل ما يهتاج به الكون من قوى وفوضى وشراسة، وذلك قبل أن تتصل بما فرض عليها التاريخ من إنجازاته المصطنعة، فدراما شكسبير قطعة متواصلة بمادتها وحسب، بحروفها الخالدة، بنقاطها المشتقة من جسدها فقط، بعلامتها المنسوجة من خيوطها المنتزعة من لحمها وروحها ودمها.
الشك كائن مرعب بما يحمل من قدرة على الوفاء لذاته، حتى ليختفي وراء اليقين، يحركه بغية شفاء ا لعقل من عذابه المستعر، و الغيرة الجنسية / عطيل / تستعيد سطوتها بأعنف ما يكون عندما تتاح لها فرصة الظهور والإنبعاث من أعماق النفس، حرقة على جسد مسروق، وتلك هي فورة الدم، أستحكمت قبضتها على مفاصل التا ريخ، ولم تبق لأوهام السلام إلاّ ومضات خاطفة، تتحول إلى أمل مرصود بشوق التحقق لحظة حقيقية وليس وهمية غادرة بالغياب على حين غرة، ومن غير مقدمات منذرة.
تلك هي دراما شكسبير، بل تلك هي ا لدراما الشكسبيرية، إنها دراما الزمن الحقيقي للاشياء، وإذا ما قراناها وتفحصنا جسدها كمفا جأة تصدم حياتنا التي قد تكون في غاية الهدوء والصفاء، إنما نقرا ونتفحص ونطالع أواهمنا ا لغبية، نطالع حقائقنا ا لغائبة عنا نحن بالذات، وهذا أمر عجيب حقا.
هي (دراما) من طراز آخر، تنطوي على رؤية جديدة با لتعامل مع الصراع، تغذينا برؤية جديدة عن الصراع، هذا القانون الكوني الشمولي الرهيب ! ليس الصراع في الدراما الشكسبيرية بين خير وشر، بين نور وظلام، بين صدق وكذب، بين سلب وإيجاب، بين حق وباطل، بين سلام وحرب، بل هي بين شر وشر، بين سلب وسلب، بين كذب وكذب، بين حرب وحرب، بين عدم وعدم...
إن ما يعترض الصراع من ومضات تبدو خيرة، تبدو مشرقة، تبدو مفارقة، تبدو شفافة، تبدو رحمة، تبدو متألقة، إنما هي أوهام، هي زمن مستعار، حضور عار من كل مقومات الحضور الذي يتحدى النسيان وا لا همال والتضاؤل والتصاغر، ثم الموت !

لمحات استثنائية طارئة، سرعان ما يسخر منها التاريخ، فتذوي في جدث النسيان، وأي نسيان، النسيان الذي ينتقم منها في أعز زمنها.

ودراما عطيل على وجه الخصوص
ندخل محنة الكلفة التي تستجلب مبررات غير عادلة فيما قصرنا جوهر الدراما الشكسبيرية في (عطيل) ببعد نفسي واحد يماهي وحدته الصلبة، وهي وحدة مُفتعَلة مهما رسمنا لها من عنوان قائم برأسه، ومهما خصصت لها علوم النفس من بيانات، حتى إذا كانت هذه البيانات إحصائية على مستوى محكم للغاية بإتباع قواعد الحساب، ليس لأن علوم النفس مهما برعت حسابيا وتجريبيا تبقى رهينة الظن، بل لأن النفس الإنسانية ليست بهذه البساطة التي تتيح لنا تقسيم ملاكاتها وخزائنها من القوى في خانات مبرمجة، كل خانة تحتفظ بحريمها المقدس، دون خارج يغزو هذا الحريم، يربك عذريتها، ويشقق وحدتها ليندس بين ذارتها المحكمة كما يبدو للغير، وهل ننسى أن عمل الخير يجر مثيله، كما أن سوء الظن ــ مثلا ــ لا يكتفي بالحذر، بل قد يقود أو ربما فعلا يقود إلى جريرة ما كان لها أن تحدث، لا أريد هنا الدخول في تفاصيل ما أستطيع تسميته بـ (التشابك النفسي)، بل أريد فقط أن استبعد تحنيط دراما شكسبير في (عطيل) وغير (عطيل) في عقدة واحدة تشكل نسيج الدراما ومادتها وجوهرها، وحتى إذا كان هناك بعد طاغ، فليس هو بالبعد الصلد، الذي لا ينفذ إلى بنيته ما يخالطها بشغب أبعاد أخرى، وما أكثرها وأخصبها في ميدان النفس البشرية المذهلة، فهل (الغيرة الجنسية) التي يقترحها ناقدون كبار كـ (عقدة) مركزة في بنية العمل ا لشكسبيري في (عطيل) هي حقيقة صافية؟ هي بنية خالصة، بحيث لا صدى آخر يشاغب مادتها الخاصة بها؟ وهل (الدسيسة) كـ (عقدة) مقترحة لتفسير (عطيل) مخلوق مفارق الى حد المثل الافلاطونية؟ من الصعب الإرتكان إلى مثل هذه القسوة النظرية في تحليل هذه المفاهيم أو الأمراض أو الظواهر أو المشاكل أو العقد، حتى إذا كانت مستحكمة على نسبة عالية من مساحة الجسد الفني، وهو حقيقة لا أشك فيها، فإن لنا أن نقول أن موضوع عطيل هو الد سيسة، ولكن ليس على نحو القرار الأزلي الخالص.
يقولون: أن (الغيرة الجنسية) هي موضوع (عطيل)، وأقول: ليس بحدها الهلامي المطلق، بل في سياق ما يضاف إليها من لواحق مرغمين عليها، بسبب من الأسباب، فهي الغيرة الجنسية عند (عطيل المغربي) وليس (عطيل الغربي)، وهو غيرة المحارب وليست غيرة الجبان، وهي غيرة الرجل الذي بنى مجده بدمه وليس الرجل المكبوت بعقدة المجد دونما تجد لها متنفسا، وهكذا، إلى ما تشاء قدراتنا من اكتشاف خيوط اللعبة المعقدة، وربما تتباين كثرة وقلة، قوة وضعفا، عمقا وسطحية، باختلا ف وتراكب الخبرات والقراءات عبر تاريخ الكدح الانساني من أجل المعرفة والقوة، وإن كانت المعرفة هي القوة في المعيار (الفيكوي) المدهش.
لنفترض أن (الغيرة الجنسية) نبت فطري غرائزي أسّسه الله المتعال في النفس الإنسانية على نحو الإرتكاز، ولكن هل يتعالى هذا النبت المركوز فطريا على لواحق مضافة وراثة أو إكتسابا إلى الشخصية الإنسانية بشكل وآخر؟ لماذا كان عنوان العمل (عطيل)؟ ما هو سر التسمية؟ لا أنكر العموم، لا أنكر الكلية، لا أنكر الرمز، لا أنكر المثال، ولكن العموم في طي الخصوص، وا لكلي وهو وجه من وجوه الجزئي، والرمز في حامله، والمثال في عينه السابقة عليه رغم أنف إ فلا طون.
هل الدسيسة التي جسدها (ياغو) بريئة التكوين؟ وهل هي بعيدة عن الجشع كتوجه نفسي؟ وهل هي غريبة ولا تمت بصلة بنزعة الحقد والإستئثار و الحسد؟
أسوق هذين المثلين بسرعة لعلي أجعل منهما مدخلا للإيغال في غابات الذوات الشكسبيرية عبر ملحمة عطيل التي تعتبر في تصوري أصعب فهما وتحليلا وتفسيرا في كثير من نقاط إبهامها وغموضها.