اتسمت مواقف التيار الصدري، عندما كان وزراءه يشاركون في حكومة المالكي، ليس بالغموض فحسب، وإنما بالتناقض. وكان ذاك التناقض يكمن في تبني التيار لسياسة جمع رمانتين بيد واحدة، وفي آن واحد، أو سياسة الجمع بين النقيضين، أو سياسة القبض على النار والثلج بيد واحدة: quot;الثورةquot; و quot;الدولةquot; / المعارضة و الموالاة / رفض الفيدرالية الشيعية والتحالف مع قوى شيعية ترى الفيدرالية خطا أحمرا لا يمكن تجاوزه / إدانة المحاصصة الطائفية نظريا وتبنيها عمليا.

ففي الوقت الذي كان فيه وزراء التيار يمارسون وظائفهم الحكومية، ويتصرفون كرجال دولة مثل بقية الوزراء الآخرين، فأن رفاقهم في الذراع العسكري للتيار، أي جيش المهدي، كانوا يمارسون quot;الثورةquot; المسلحة أو quot;التمردquot; ضد أفراد الشرطة المكلفين بحفظ النظام العام، والتابعين لنفس الحكومة التي يشارك فيها رفاقهم. وبينما كان التيار يشارك في حكومة المالكي، فأن قادته كانوا يتصرفون، عمليا، كقوة معارضة ضد هذه الحكومة التي يشارك فيها التيار، ويفترض أن يدافع عنها بصورة تكافلية. إما في ما يتعلق بالمحاصصة الطائفية، فقد دأب التيار الصدري على إدانتها، نظريا، لكنه كان، من الناحية العملية، داعما لتك المحاصصة، من خلال قبوله الوزارات الست، والجميع يعرف أن هذه الوزارات من quot;حصةquot; الشيعة، وبالتالي فأن قبول التيار الصدري لتلك الوزارات يعد بمثابة تزكية للمحاصصة، بل إن الإتلاف الشيعي نفسه كان، وما يزال، تجسيدا لأسس المحاصصة الطائفية، تماما مثلما الحال مع جبهة التوافق السنية.

الآن، وقد خرج التيار الصدري من الوزارة، واحتفظ بتمثيله في البرلمان، ثم أعلن زعيمه السيد مقتدى الصدر بأنه يفوض رئيس الوزراء لاختيار وزراء آخرين يختارهم المالكي، على أساس الكفاءة، وبعيدا عن المحاصصة الطائفية، فأن هذه المبادرة تعتبر خطوة باتجاه رفع التناقض.
ولكن هذه الخطوة ستظل يتيمة، إذا لم يلحقها التيار بخطوات أخرى تكميلية، لتحقيق الانسجام الذاتي مع نفسه، ولإزالة الغموض الذي ما يزال يطبع سياسته ومواقفه، حتى بعد خروجه من الحكومة.
لنأخذ، مسألة المحاصصة الطائفية نفسها، التي يقول زعماء التيار أنهم خرجوا من الوزارة احتجاجا ضدها، ومنعا لتكريسها، وتحويلها من quot;عرفquot;، مثلما هي الآن، إلى quot;قانونquot; يحكم العراق مستقبلا. فقد ترك زعيم التيار، للسيد رئيس الوزراء أن يختار الوزراء الجدد، بعيدا عن المحاصصة. وهذه مبادرة رائدة، لكنها سددت لكمة بوجه quot;سياسةquot; المحاصصة، وليس لquot;مفهومquot; المحاصصة.
فالمحاصصة لا تزول، فقط، بمجرد أن تتنازل هذه الجهة أو تلك عن مقاعدها الوزارية، وتوصي بمنحها لأفراد من غير المنتمين لها. والمحاصصة ليست وقفا على الفعل السياسي، فحسب. المحاصصة هي مفهوم شامل، وهي رؤيا متكاملة تشمل مجالات الحياة كلها. المحاصصة تعني توصيف المواطنين، وتقييمهم، والتعامل معهم، وفقا لهوياتهم الثانوية: الدين، المذهب، العرق، المنطقة الجغرافية... الخ. وهذا التوصيف، أو هذا التقييم يتم، ليس على الطريقة المتآخية، أي الاعتراف المتبادل، وفقا لمفهوم quot;لكم دينكم ولي دينيquot;، وإنما يتم على طريقة الخنادق المتقابلة quot;المتناحرةquot;، وفقا لمفهوم التفاضل المرضي، الذي يقسم الناس إلى أصناف ودرجات، درجة أولى، ودرجة ثانية : نحن أفضل وأنتم أسوأ/ نحن أقوى وأنتم أضعف/ نحن على حق مطلق وأنتم على باطل مطلق/ نحن أكثرية وأنتم أقلية/ لكم هذه الوزارات ولنا هذه الوزارات/ نحن أسياد وأنتم عبيد.

أما اللامحاصصة، فإنها تعني تقييم الناس وفقا لهوية واحدة جامعة، هي الهوية الوطنية، المحددة بquot;عقدquot; سياسي - اجتماعي، يقول quot;نحن، جميعا، مواطنون من الدرجة الأولى، وكلنا سواسية كأسنان المشط، أفضلنا هو من يمنحه الناخبون أكثرية الأصوات، ويقدم للناس أفضل الخدمات.
فأين يقف التيار الصدري إزاء هذين المفهومين ؟
وفقا لسياسة ومواقف التيار، حاليا، فأنه ما يزال يتموضع داخل quot;خنادقquot;المحاصصة المذهبية quot;المتحاربةquot;، التي ظهرت في العراق عشية سقوط النظام السابق، وليس داخل الفضاء الوطني العراقي الشامل. فتسمية التيار أو الخط quot;الصدريquot; هي تسمية مذهبية شيعية. وزعيم التيار ومعظم قادته هم رجال دين شيعة. وقاعدة التيار تتكون من الشيعة وحدهم. وذراعه العسكرية أسمها quot;جيش المهديquot;، ومثلما نعرف فأن الإمام المهدي هو إمام للشيعة. والصراع، أو بالأحرى القتال المسلح، الذي خاضه التيار الصدري، خصوصا بعد تفجيرات سامراء، هو قتال مذهبي، شيعي- سني. والإتلاف الذي ما يزال التيار يصر على البقاء داخله هو، كيان مذهبي شيعي. والمناطق الجغرافية التي يتواجد وينشط فيها التيار هي، مناطق مذهبية شيعية. والخطاب الذي يستخدمه التيار في توصيف المواطنين العراقيين السنة هو، خطاب مذهبي، يحمل معنى القدح وليس المدح (النواصب).
وكما نرى، فأن التيار الصدري إذا ظل يحتفظ بهذه الميزات ويسير على هذا النهج، ويتمتع بهذه الرؤيا، فأنه سيظل يراوح على أرضية المحاصصة، حتى لو تنازل عن الوزارات التي يشغلها وأوصى أن تمنح لغير المنتمين له، وحتى لو لعن المحاصصة ألف مرة، وكفر المنادين لها.
ما المطلوب، إذن أن يفعله التيار الصدري، إذا أراد، حقا، ومثلما يؤكد، القضاء على المحاصصة الطائفية ؟
المطلوب هو، أن يقدم التيار الصدري على انجاز ثورة ثقافية تجديدية راديكالية، تطال بنيته كلها. وبإمكان التيار أن يجعل من خطوته الوزارية (تنازله عن الوزارات)، منطلقا لتدشين الثورة الثقافية. أي، أن يصر زعماء التيار الصدري quot;إصراراquot; على أن الوزارات الست التي انسحبوا منها، يجب أن لا يشغلها وزراء من الإتلاف الشيعي، ولا حتى مقربين من الإتلاف، إنما يشغلها عراقيون تكنوقراط، معيار اختيارهم الوحيد هو، الكفاءة، فقط، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية (مسلمون، مسيحيون، صابئة، أيزيديون) والمذهبية (شيعة، سنة) والقومية (عرب، أكراد تركمان) والأيديولوجية (ديمقراطيون، ليبراليون، إسلاميون). إن هذا الأمر، لو تم، فأنه سيكون، كما ذكرنا، تدشين لثورة ثقافية كبرى يقدم عليها التيار الصدري، من شأنها أن تعيد رسم الخارطة السياسية في البلاد، وتسد الطريق، بطريقة لا لبس فيها ولا غموض، أمام تكريس المحاصصة الطائفية. لكن، زعامة التيار الصدري لم توضح هذه المسألة بشكل قاطع وحاسم، بدليل أننا بدأنا نسمع، حتى قبل أن يغادر الوزراء الصدريون مكاتبهم، من يريد quot;اغتيالquot; هذه المبادرة الصدرية، ويقول أن الوزارات الست التي انسحب منها الصدريون هي quot;من حصةquot; الإتلاف الشيعي، ويجب أن تملأ من قبل أشخاص من هذا الإتلاف. وإذا تمت تلبية هذا المطلب، فأن مغادرة وزراء الكتلة الصدرية من الوزارة سوف لن يكون لها قيمة عملية تذكر، فيما يخص موضوع المحاصصة.

الخطوة التكميلية الأخرى التي يتوجب أن يقدم عليها التيار الصدري، إذا أراد القضاء على مفهوم المحاصصة هي، أن يتخلى التيار عن خطابه المذهبي الإتهامي، التشهيري، الحالي ضد العراقيين السنة، وأن يتبنى خطاب وطني عراقي شامل وجامع. وإلا، كيف يريد التيار الصدري القضاء على المحاصصة، وزعماءه ما يزالون يستخدمون توصيف quot;النواصبquot;، عندما يتحدثون عن مواطنيهم العراقيين السنة ؟ قد يقول الزعماء الصدريون أن هذه المفردة يستخدمونها لوصف quot;غلاةquot; السنة، أو الجهات quot;التكفيريةquot; السنية. لكن، مهما كانت النوايا وراء استخدام هذه المفردة، فأنها ستظل، في ذهن رجل الشارع quot;الشيعيquot;، تحمل دلالات تحريضية، إقصائية، طائفية ضد quot;جميعquot; السنة، مثلما ستظل تعني، في ذهن رجل الشارع quot;السنيquot;، دلالة تحقيرية، وشتيمة ضد quot;جميعquot; العراقيين السنة. وفي الحالتين، فأن الإصرار على استخدام هذه المفردة، يكرس، أردنا أو لم نرد، مفهوم المحاصصة الطائفية، بمعناها الإقصائي، التدميري.

المسألة الثانية التي لم يتم حسمها من قبل التيار الصدري هي، مسألة بشقين، أولهما الموقف إزاء الفيدرالية الشيعية، أو مسألة أقاليم الوسط والجنوب، والشق الثاني هو، الموقف إزاء الإتلاف الشيعي نفسه. فنحن ما نزال نسمع تصريحات يؤكد خلالها زعماء التيار الصدري أنهم ضد إقامة الفيدرالية الشيعية. لكن هذه التصريحات ما تزال خجولة ويلفها الغموض. فالتيار ما برح يؤكد أنه خرج من الحكومة، ولم يخرج من الإتلاف الشيعي. والمعروف أن بعض الأطراف في الإتلاف ما تزال حتى هذه اللحظة تصر على إقامة الفيدرالية الشيعية، وتعتبرها مسألة حياة أو موت. فكيف يوفق التيار الصدري بين موقفه الرافض للفيدرالية الشيعية، وبين بقاءه داخل إتلاف، تصر بعض أطرافه على إقامة الفيدرالية ؟ أليس هذا تناقضا ؟
وحتى يحسم التيار الصدري هذا التناقض فأن عليه أن يوضح موقفه بطريقة غير قابلة للتأويل: إما أن يعلن أنه مع الفيدرالية الشيعية، جملة وتفصيلا، أو ضدها، جملة وتفصيلا، أو انه مع الفيدرالية ولكن بشروط، ويقوم بتوضيح هذه الشروط. المهم، على التيار أن يحسم أمره إزاء هذه المسألة. وإذا حسم التيار الصدري موقفه الرافض للمحاصصة وللفيدرالية، فعليه أن يحسم، تاليا، موقفه ويحدد علاقته مع الإتلاف الشيعي: هل سيبقى التيار داخل الإتلاف، أم لا.

بالإضافة لهذه القضايا quot;الملحةquot; التي ذكرناها توا، هناك قضايا أخرى بعيدة المدى ونعتبرها، من وجهة نظرنا الخاصة، على الأقل، ملتبسة، وتحتاج إلى توضيح من قبل التيار الصدري.

لقد مضى على ظهور التيار الصدري إلى العلن أكثر من أربع سنوات. وخلال هذه السنوات خاض التيار مواجهات ومعارك سياسية وعسكرية على أكثر من جبهة، واستطاع أن يفرض نفسه كقوة عراقية مهمة، سواء اتفقنا معها، أو عارضناها. ويفترض أن هذه الخبرة المكثفة التي تراكمت خلال السنوات الأربع، تساهم في إنضاج التيار، وتجعله أكثر وضوحا، في ما يريد تحقيقه من أهداف. لكن الواقع يشير عكس ذلك.
والسؤال الذي يتوجب البدء منه، يتعلق بكينونة التيار الصدري نفسها. أين يضع التيار الصدري نفسه، بين الكيانات العراقية القائمة ؟ هل هو كيان سياسي ؟ مذهبي ؟ ديني ؟ ديني ndash;سياسي ؟ ثم، ما هي الأهداف الإستراتيجية التي يسعى التيار إلى تحقيقها ؟ التخلص من الاحتلال ؟ ثم، ماذا بعد التخلص من الاحتلال ؟ ما هو برنامجه السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي ؟ ما هو نوع الدولة العراقية التي يريد التيار بنائها ؟ ما هو موقفه إزاء الديمقراطية، كفلسفة للحياة وكأسلوب عمل سياسي ؟ كيف يتعامل التيار مع مسألة الحداثة والتحديث ؟ كيف ينظر التيار لدور المرأة، ولموقعها في المجتمع ؟
نحن نرى أن الأوان قد حان أمام زعامة وقادة وكوادر التيار الصدري، لأن يجيبوا على هذه الأسئلة وغيرها الكثير، بروية، وبتعمق، وباسترخاء نظري وسياسي، بعيدا عن فوهات البنادق، والخطابات المتشنجة الحماسية الرنانة، والأهازيج الشعبية المثيرة للعواطف، وبعيدا عن رفع الشعارات والمطالب اللاواقعية.
وهذا يتطلب أن يتنادى زعماء التيار، الآن وليس غدا، إلى عقد اجتماعات موسعة، فيما بينهم أولا، ومع كوادرهم وقواعدهم، ثانيا، ليعرفوا أين هم الآن، وأين هم ذاهبون غدا.
لقد وصف بعض زعماء التيار الصدري، وهم على حق تماما، مبادرة التيار بالتنازل عن مناصبه الوزارية، بأنها فرصة تاريخية لإنقاذ البلاد من براثن الصراع الدامي، الدائر منذ أربع سنوات. ونحن نرى أنها، أيضا، فرصة تاريخية أمام التيار الصدري، ليراجع نفسه، وبإمكان التيار أن يتحول إلى قوة عراقية وطنية. وهذا التحول لا يتم إلا عندما يتحول التيار إلى حزب سياسي عراقي، ويصبح، مثلا، quot;حزب الوسطquot;، على غرار أحزاب الوسط في الديمقراطيات الأوربية، ويضع هدفا له، تجميع العراقيين، على اختلاف مللهم ونحلهم الدينية، والمذهبية، والاثنية، ومواقعهم الأيدلوجية، وخصائصهم البيولوجية (رجال ونساء).
وإذا حقق التيار هذه الثورة الثقافية، فأنه سيصبح quot;المنقذquot; السياسي الذي يلتف حوله ملايين العراقيين. لكن، السؤال الأعظم هو، هل أن التيار قادر على أنجاز هذه الثورة الموعودة، أم أننا كحاطب ليل ؟