هكذا، إذن، حم القضاء وحسم الأمر، ورست سفينة الانتخابات الفرنسية على quot;جوديquot; اليمين الفرنسي. فحالما أشارت عقارب الساعة إلى الثامنة من مساء يوم الأحد، السادس من أيار الجاري، حتى ظهرت على شاشات التلفزيونات الفرنسية صورة رئيس فرنسا الجديد، اليميني نيكولا ساركوزي (حصل على نسبة 53.1 في المائة)، لتتراجع إلى الوراء، نتيجة ذلك، صورة منافسته الاشتراكية، سيغولين رويال (حصلت على 46.9 في المائة). وبعد دقائق من إعلان النتيجة، بل وقبل ذلك بساعات، كان أنصار المرشحين قد افترشوا أشهر ميدانين في باريس، ساحة الكونكورد لأنصار ساركوزي، وساحة الباستيل لأنصار رويال.
quot;الأم شجاعةquot; تمسح دموع أبنائها
ورغم أن هذه النتيجة لم تفاجأ أحدا، خصوصا بعد أن كانت معاهد استطلاع الرأي قد أعلنت، قبل أيام قليلة، أرقاما قريبة من النتيجة الرسمية، إلا أن ذلك لم يمنع خيبة أنصار quot;اللبوةquot; الاشتراكية، الذين تجمعوا في ساحة الباستيل، وانهمار دموعهم، أيضا. لكن عزاء هولاء الوحيد هو، أن مرشحتهم quot;الأم شجاعةquot;، على حد وصف صحيفة اللوموند الفرنسية، خسرت الانتخابات، هذه المرة، quot;بشرفquot;، وquot; غسلت عارquot; الحزب الاشتراكي وعموم اليسار الفرنسي، الذي سببته هزيمة الاشتراكيين في انتخابات عام 2002 ، واعتزال الزعيم الاشتراكي، ليونيل جوسبان، الحياة السياسية، بسبب ذاك الفشل المدوي.
وفي الطرف الأخر من باريس، أي في ساحة الكونكورد، كان أنصار ساركوزي يغنون ويرقصون، ويتغنون بهذا quot;النصر التاريخيquot;. وهم على حق. فالفوز الحالي الذي حققه نيكولا ساركوزي،كان تاريخيا، حقا. إنه يحصل لأول مرة لليمين الفرنسي، منذ عهد الجنرال ديغول، عندما فاز عام 1965 بنسبة 55.20 في المائة. وquot;تاريخيةquot; انتصار اليميني ساركوزي تمثلت، أيضا، في نسبة المشاركين في هذه الانتخابات. فقد بلغت نسبة المشاركة هذه المرة 83.77 في المائة، وهي أعلى نسبة طوال عهد الجمهورية الخامسة.
ساركوزي والخيانة
وبسبب ما رافق الانتخابات الحالية، من أقاويل وإشاعات، ومخاوف حقيقية من محاولات إقصاء سينفذها اليمين الفرنسي quot;الجديدquot;، وقبل ذلك تمشيا مع الأعراف والتقاليد الديمقراطية الفرنسية العريقة، أعلن ساركوزي، حال فوزه، بأن انتصار اليمين هو، quot;ليس انتصار quot;قسمquot; من فرنسا ضد قسم أخر، إنما هو، انتصار للديمقراطيةquot;. وأكد ساركوزي، كعادة جميع الفائزين قبله، بأنه سيكونquot; رئيسا لكل الفرنسيينquot;، مضيفا quot;أن التغيير الذي أريد تحقيقه، سأنجزه بالتعاون مع جميع الفرنسيينquot;. ولم ينس، بطبيعة الحال، أن يطري على منافسته الاشتراكية التي خسرت أمامه. وفي رغبة منه لتطمين ناخبيه، الذين كال لهم الوعود الكثيرة، كرر ساركوزي على مسامع أنصاره الذين احتشدوا في ساحة الكونكورد: quot; لن أخونكم، لن أكذب عليكم، ولن أخيب ظنكم بيquot;. لكن، ساركوزي كان حريصا، أيضا، على طمأنة أولاءك الفرنسيين الذين لم يصوتوا له، عندما قال إن انتصاره في الانتخابات quot;لا يعني الانتقام، بل الانفتاح على الجميعquot;. وطالب أنصاره quot;بإعطاء صورة لفرنسا موحدة، لا يجد فيها فرنسي واحد نفسه على الهامشquot;.وبعد دقائق على خطاب ساركوزي، أعلن فرنسوا فيون، المرشح الأقوى لرئاسة الحكومة الفرنسية الجديدة، بأن quot;الحكومة القادمة ستجسد سياسة الانفتاح، وستضم في صفوفها شخصيات من الوسط واليسارquot;.
رويال تراهن على الشباب
وعلى الضفة الأخرى لنهر السين، وبعد لحظات على إعلان نتيجة الانتخابات، كانت المرشحة اليسارية، التي نزعت عنها جلد quot;اللبوةquot; الشرسة، الذي ظهرت به خلال المناظرة التلفزيونية مع ساركوزي، وتحولت، بملابسها البيضاء، إلى حمامة سلام، تلوح بيديها لأنصارها، وتقر بهزيمتها، وهي تقول: quot;ها هي نتيجة الانتخابات تعلن عن نفسها، وهذه هي إرادة الناخبين. أتمنى للرئيس الجديد أن ينجز مهمته لخدمة الفرنسيينquot;.
لكن رويال المسربلة بغبار الهزيمة، أكدت، مع ذلك، لأنصارها بأن اليسار الفرنسي ما يزال بخير، ووعدتهم، قائلة بأن quot; هناك شيء بدأ الآن ولن يتوقف، وبإمكانكم الاعتماد علي من اجل تجديد اليسارquot;.
هل تتحدث بثقة هذه اليسارية، التي تعتبر أول امرأة فرنسية ترشح نفسها لرئاسة الجمهورية، وهي تشير إلى quot;تجديدquot; اليسار الفرنسي، أم أنها تطلق الكلام جزافا، لتداري هزيمتها أمام اليمين، ولتسد الطريق، منذ الآن، أمام quot;فيلةquot; الحزب الاشتراكي، الذين استأنفوا، حتى قبل جلاء غبار معركة الانتخابات الحالية، معاركهم الداخلية، من أجل إبعادها عن مركز الزعامة داخل الحزب الاشتراكي ؟ ما من جواب قاطع، خصوصا وأن الأمور ما تزال في بداياتها، رغم أن بعض quot;فيلةquot; الحزب شرعوا يطرحون أنفسهم، منذ الآن، كمجددين للحزب، ومنقذين لعموم اليسار الفرنسي.
وإذا كانت عملية التجديد، أي تجديد، لا تتم إلا بمشاركة واسعة من الشباب، فبإمكان رويال الاعتماد على دعم الشبيبة الفرنسية لها. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن أكثرية الشباب الفرنسي صوتوا لليسار، وأكثرية الشيوخ منحوا أصواتهم لمرشح اليمين، دون أن يعني هذا الكلام أن ساركوزي لم يحظ بدعم فئات كثيرة من أوساط الشباب. ومع فئة الشباب، فأن الذين صوتوا للمرشحة الاشتراكية هم، من العاملين في القطاع العام. فقد صوت 65 في المائة من هولاء لصالح المرشحة اليسارية، بينما بلغت نسبة الذين صوتوا لها من العاملين في القطاع الخاص 46 في المائة.
والأسباب التي دفعت فئة الشباب لدعم المرشحة اليسارية هي، أسباب متعددة. وأول هذه الأسباب تكمن في الطبيعة الحماسية التقليدية لدى هذه الفئة من الناخبين ورغبتهم العفوية في التغيير. والسبب الأخر هو، اقتران فئة الشباب بحركات التمرد التي عرفها المجتمع الفرنسي، وخصوصا ثورة الطلبة عام 1968 ، ذات الطابع اليساري المتمرد، وهو إرث يصفه مرشح اليمين ساركوزي بأنه quot;إرث فوضويquot;، ويريد استئصاله من تاريخ فرنسا كله.
والسبب الأخر وراء دعم الشباب للمرشحة اليسارية يكمن في تخوفهم، صحا أو خطأ، من التوجه quot;العنصريquot; لمرشح اليمين الصاعد، إزاء الأجانب داخل فرنسا، أو الفرنسيين من أصول أجنبية. ففي الوقت الذي يرحب به كبار السن الفرنسيين بتوجه كهذا، بل أن البعض منهم صوتوا لساركوزي بسبب هذا الدافع بالذات، فأن الشباب الفرنسي، على العموم، لا يحمل مشاعر عنصرية، أو حتى معادية ضد الأجانب، فهولاء الشباب عاشوا ونشأوا، عكس أبائهم وأجدادهم، في مدارس مختلطة تضم الفرنسيين والأجانب، ونشأ بفضل هذا الاختلاط، فهم وتقارب وتعاطف مشترك.
والسبب الأخير وراء تأييد الشباب للمرشحة اليسارية هو، رفضهم للروح quot;المحافظة، السلطوية، البوليسيةquot; التي يروون أن مرشح اليمين، يريد فرضها، بالقوة، على المجتمع الفرنسي، وبدت في خطاباته التي سبقت فوزه.
إما أسباب تصويت غالبية العاملين في القطاع العام لصالح المرشحة الاشتراكية، فيرجع إلى مخاوف هذه الشريحة الاجتماعية من البرنامج الاقتصادي الليبرالي المتوحش لمرشح اليمين، وهلعهم من إقدامه على تطبيق سياسة الخصخصة، وتقليص هامش الخدمات الاجتماعية، مما يعني غلق أو تقليص أو إلغاء دور القطاع العام، وبالتالي تهديد العاملين في هذا القطاع بشبح البطالة. ولهذه الأسباب فان ساركوزي لم يحصل إلا على نسبة 44 في المائة من أصوات المستخدمين، بينما بلغت نسبة العمال الذين صوتوا له 41 في المائة.
انعطافة فرنسية نحو اليمين
لكن علينا أن نؤكد أن هذا جانب واحد من الصورة، إما الجانب الأخر فيتمثل في هذه الدينامكية الموعودة لتحريك عجلة الاقتصاد الفرنسي إلى الأمام، في حال فوز المرشح اليميني. ورغم أن هذا الوعد ما يزال في رحم الغيب، إلا أن هناك غالبية من الفئات الفقيرة تتشبث به، وترى أن ساركوزي قادر على الوفاء به. وربما هذا ما يفسر أن نسبة 60 في المائة من الفرنسيين الذين لا يحملون أي مؤهل جامعي، و 54 في المائة من الذين يعيشون على راتب الحد الأدنى للأجور، صوتوا لصالح المرشح اليميني. وهذا الإقبال البين من الفئات الشعبية في المجتمع الفرنسي على دعم مرشح اليمين هو، الذي جعل بعض المعلقين يتحدثون عن انعطافة quot;يمينيةquot; ولدت توا، داخل المجتمع الفرنسي، إلى حد أن هولاء المعلقين بدأوا يتحدثون عن ما يسمونه quot;الشعب اليمينيquot;، الذي ارتضى اليميني ساركوزي رئيسا له، أي أن ساركوزي لم يصل إلى سدة الرئاسة، فقط بفضل دعم رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى، والنخب، إنما وصل بفضل دعم شعبي لبرنامجه الانتخابي. وهذا الدعم quot;الشعبيquot; لم يأت من أنصار ساركوزي وحزبه، فحسب، وإنما جاء،أيضا، من أصوات أنصار مرشح اليمين المتطرف، جان ماري لوبين، المعروف بتشدده إزاء وجود الأجانب في فرنسا، وكذلك من أصوات مؤيدي مرشح الوسط، فرانسوا بايرو.
ورغم أن لوبين أوصى ناخبيه بمقاطعة الدورة الثانية من الانتخابات، والبقاء في بيوتهم، وأن بايرو لم يحث ناخبيه على التصويت لأي من المرشحين في الدورة الثانية، إلا أن وصية لوبين، وموقف بايرو، لم يتم اعتمادهما، كما يبدو. فقد وجد كثيرون من مؤيدي اليمين المتطرف، أن ساركوزي هو المرشح الأقرب لتلبية بعض مطالبهم وبعض شعارات حزبهم.
والمتتبع لنوعية خطابات ساركوزي، طوال الحملة الانتخابية، يجد أن هم ساركوزي الأكبر يكمن في كيفية استمالة القاعدة الشعبية العريضة في اليمين المتطرف، وذلك عن طريق تأكيده على احترام quot;الهوية الفرنسيةquot;، وموقفه المتشدد إزاء هجرة الأجانب، وتأكيده المبالغ في مكافحة الفلتان الأمني، خصوصا في الضواحي التي يسكنها فرنسيون من أصول أجنبية، وهذه هي نفس مطالب وشعارات ناخبي اليمين المتطرف. وقد نقلت بعض الصحف الفرنسية عن ساركوزي قوله، quot;لو لم أفعل هذا، لكان اليمين المتطرف واليسار المتطرف هما اللذان وصلا إلى الدورة الثانيةquot;.
والحق، أن مرشحة اليسار، سيغولين رويال، استفادت، هي أيضا، من أصوات ناخبي الوسط. فلو اعتمدت رويال على أصوات الاشتراكيين والحزب الشيوعي والخضر واليسار المتطرف، وحدهم، لما وصلت إلى هذه النتيجة التي حصلت عليها. فاليسار كله لا يجمع سوى 36 في المائة، من مجموع أصوات الناخبين. هذه الأصوات الأخرى التي حصلت عليها رويال جاءت من بعض ناخبي الوسط، الذي كان قد حصل على نسبة 18.55 في الدورة الأولى.
وطبقا لاستطلاعات الرأي فأن نصف أصوات الوسط ذهبت لصالح المرشحة الاشتراكية، وهو الأمر الذي عدل كثيرا من نسبة الأصوات التي حصلت عليها.
لأي فرنسا سيرد ساركوزي ديونه؟
الآن، وقد فاز ساركوزي برئاسة الجمهورية الفرنسية، وحقق حلمه الذي نذر له نفسه منذ أن كان شابا يتظاهر ضد الطلاب اليساريين في الجامعات الفرنسية، وخاض من أجل تحقيقه، معارك سياسية ضد أقرب المقربين له، وأقدم على اقتراف quot;خياناتquot; إزاء رفاق دربه، بما في ذلك ضد أبيه الروحي، الرئيس المنصرف، جاك شيراك، فهل ينام قرير العين، انتظارا لحلول يوم 16 من هذا الشهر، عندما سيدخل، رسميا، مظفرا قصر الإليزيه؟
ما هي المهمات العاجلة التي تنتظر هذا الفرنسي quot;الأجنبيquot; (جده لأبيه من أصل هنغاري)، وماذا سيعطي لفرنسا، التي يقول أنها أعطته كل شيء، وقد حان موعد رد الدين ؟ ولأي فرنسا سيرد ساركوزي ما بذمته من ديون وطنية وأخلاقية ؟ لفرنسا الشركات الكبرى التي هللت لفوزه، أم لفرنسا التي بكت أسفا لنجاحه ؟ لفرنسا كومونة باريس، أم لفرنسا فرساي ؟ لفرنسا ذات البشرة البيضاء، أم لفرنسا الملونين ؟ لفرنسا اليوار وسارتر وفوكو وبارت، أم لفرنسا سيلين ودريولاروشيل ؟ لفرنسا التي كانت ترابط في الشوارع تأييدا لاستقلال الجزائر، أم لفرنسا التي لا ترغب حد الآن لمراجعة تجربتها الكولونيالية ؟
هذه أسئلة تتطلب وقتا طويلا للإجابة عليها. إما الآن، فأن ما يشغل بال ساركوزي هو، تسمية وزراءه. ووفقا للإنباء التي تتداولها وسائل الإعلام الفرنسية، فان ساركوزي سيعود بسرعة إلى باريس، بعد أن خلد للراحة، بعض الوقت، في مكان منعزل بصحبة عدد محدود جدا من رفاقه، كي يفكر مليا بأسماء طاقمه الوزاري، والمفترض أن يعلن عنه في الرابع عشر أو الخامس عشر من هذا الشهر، والذي سيتكون من خمسة عشر وزيرا، نصفهم من النساء. إما وزارات الدولة فلن يعلن عن أسماء شاغليها إلا بعد إجراء الانتخابات التشريعية المقرر إجرائها منتصف الشهر القادم.
وحتى هذه اللحظة، فأن المرشح الأقوى الذي سيكلفه ساركوزي بتشكيل الحكومة هو، مستشاره السياسي الحالي، فرانسوا فيون. إما وزارة الخارجية فيتنافس عليها رئيس الوزراء الأسبق، ألين جوبيه، ووزيرة الدفاع الحالية، ميشيل أليوت ماري، بينما يرشح البعض وزير الخارجية السابق، ميشيل بارنيه، وزيرا للدفاع. ومن الشخصيات الأخرى المرشحة للأستيزار هي، الناطقة الرسمية باسم الحملة الانتخابية، رشيدة داتي، الفرنسية من أصل مغربي، حيث من المنتظر أن تشغل حقيبة العدل، علما بأن هناك من ينافسها على هذا المنصب، وهو السيد أرنو كلارسفيلد.
برنامج طموح ومهمة صعبة
هذا على الصعيد السياسي العملي العاجل. إما على صعيد الأفكار والبرامج التي وعد ساركوزي ناخبيه بتطبيقها، فأن المسألة ليست بهذا الوضوح والحسم.، وإنما هي أكثر تعقيدا وصعوبة. فالرئيس الفرنسي الجديد أعلن عن أفكار طموحة، ويريد لفترة رئاسته أن تحمل بصماته الخاصة، وأن يكون يوم توليه الرئاسة، يوما جديدا في تاريخ فرنسا، يأذن ببدء quot;صفحة جديدةquot;، وتدشين مرحلة تاريخية جديدة، تشكل quot;قطيعةquot; مع ما سبقها من مراحل. والرجل على عجلة من أمره، لا يطيق الانتظار. انه يريد أن يخلق فرنسا جديدة; فرنسا، تشبهه هو، أكثر مما تشبه ماضيها هي; فرنسا تعتمد الديناميكية بدل السكون، وتمسك بزمام المبادرة بدل انتظار ما يقرره الآخرون لها، وتتبنى سياسة الاقتحام، بدلا من الاكتفاء بصد هجمات الآخرين.
وهذه المفردات لو ترجمت للحياة العملية، فإنها تعني، وفقا لرؤيا ساركوزي الليبرالية اليمينية المحافظة، أو على الأقل وفقا لما يقوله خصومه السياسيون، قطع أو تقليل المساعدات الاجتماعية للفئات الفقيرة، وتغليب سياسة القوة والبطش في حل مشاكل المجتمع، خصوصا الأمنية منها، بدلا من سياسة التسامح والحوار وسعة الصدر، وهي سياسة تعني سد الأبواب أمام أي هجرة أجنبية، وأن فتحتها فبشروط صارمة، وهي سياسة تعني خلق فرنسا منغلقة على نفسها، وغير مفرطة الكرم في تحاورها مع الأخر المختلف، حتى لو كان هذا الأخر راغبا، مثل تركيا، للدخول ضمن العائلة الأوربية.
وهذه الرؤيا quot;الساركوزيةquot; لا تحظى برضا جميع الفرنسيين، إنها تحظى برضا 53 في المائة منهم، هم الذين صوتوا له. ولكن، ماذا عن ال46 في المائة الذين صوتوا ضده من الفرنسيين، أي نصف الشعب الفرنسي، تقريبا ؟ وماذا عن أولاءك الذين صوتوا له من غير معسكره السياسي، إذا خاب ظنهم، لاحقا ؟
صحيح أن ساركوزي يملك تأثيرا ونفوذا في أوساط رجال الأعمال، لكن خصومه السياسيين يملكون تأثيرا في أوساط نقابات العمال، التي تتحكم بدورها في شرايين الحياة الاقتصادية، عن طريق الإضرابات، مثلا. وصحيح أن ساركوزي يملك تأثيرا في الأوساط الإعلامية، لكن خصومه السياسيين يملكون نفوذا واسعا في أوساط الطلبة وفي نقابات الكادر التعليمي، بأنواعه. وصحيح، أيضا، أن ساركوزي يملك تأثيرا يشبه السحر في أوساط البوليس الفرنسي، لكن خصومه ينتظرون، من الآن، في الضواحي الفقيرة، التي تتكون غالبية سكانها من الأجانب الذين يروون فيه عدوهم اللدود، والذين بدأوا quot;تدريباتهمquot; الأولى، احتجاجا ضد فوزه، بإحراق عدد من السيارات في بعض المدن الفرنسية.
ثم، ماذا إذا حققت الانتخابات التشريعية المزمع إجرائها في العاشر والسابع عشر من الشهر القادم، مفاجأة، وجاء خصومه السياسيون إلى قاعة البرلمان، وأصبح بأيديهم الحل والربط ؟
الممرضات الليبيات أم البلغاريات!
السؤال الآن، والذي يهمنا كعرب هو: هل ستتغير سياسة فرنسا الخارجية، بعد فوز ساركوزي في هذه الانتخابات؟
وفقا لما يراه المعلقون الفرنسيون، فأنه من المستبعد أن تغير فرنسا سياستها الخارجية بطريقة دراماتيكية، خصوصا في ما يتعلق بالعالم العربي. فعلى سبيل المثال، فأن قرار فرنسا quot;الشيراكيةquot; بعدم المشاركة في الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة للإطاحة بنظام صدام حسين، ما تزال تستأثر بتأييد أكثرية الفرنسيين، بما في ذلك اليسار الفرنسي المعارض لسياسة شيراك. ومن المستبعد أن يقدم ساركوزي على إغضاب أوساط واسعة من الفرنسيين. والأمر الأخر الذي لا يشجع فرنسا على تغيير سياستها quot;العراقيةquot; هو، عدم وجود حل في الأفق القريب، للأوضاع الأمنية والسياسية داخل العراق.
وإذا كان الرئيس الأميركي جورج بوش هو، أحد الذين هنأوا، مبكرا، ساركوزي، فأن ذلك يأتي من باب موقف الرئيس بوش الذي يفرحه أن يقل عدد الذين وقفوا ضد سياسته بشأن شن الحرب على العراق، والرئيس جاك شيراك واحد من هولاء. والسبب الأخر الذي جعل الرئيس الأميركي يفرح لفوز ساركوزي هو، تصميم ساركوزي على الوقوف بحزم ضد التطرف الإسلامي السياسي، وتأكيده دائما وأبدا بأنه يريد quot;إسلام فرنسيquot;، وليس quot;إسلام داخل فرنساquot;، أي أنه ضد تغلغل نفوذ الحركات الإسلامية المتطرفة إلى الساحة الفرنسية، تمويلا وأفكارا. ومن الآن وصاعدا، فأن الرئيس بوش سيجد، إذا فتح النقاش حول مكافحة الإرهاب، في الرئيس الفرنسي الجديد، سندا قويا، وعنيدا لا يتزحزح.
إما في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فأن ساركوزي لم يعرف عنه ولع خاص بحل هذه القضية، ولم يعرف عنه غرام مشبوب للفلسطينيين، ولا نظن أن هذه القضية مدرجة على سلم أوليات أجندته. وأكثر الظن أن أولويات الرئيس الجديد ستتركز على المحور الأوربي، والعلاقات مع روسيا والصين. ومن المرجح أن يبتعد ساركوزي عن أسلوب quot;شخصنةquot; العلاقات، في مجال السياسة الدولية، الذي أقترن بسياسة الرئيس شيراك.
لكن ما نقوله لا يعني أن الرئيس الفرنسي الجديد، نيكولا ساركوزي، سيطبق سياسة شيراك الخارجية بحذافيرها، أو يغيرها بصورة دراماتيكية. فقد وصل ساركوزي إلى سدة الرئاسة، وهو خال من أي تعهد، أو من أي قيد. ويستطيع ساركوزي، إذا رأى فائدة في تغيير هذا المفصل أو ذاك في سياسة فرنسا الخارجية، أن يقول أنه لم يتعهد بأي شيء، وأن ما فعلته فرنسا، سابقا، إنما فعلته عندما كان بعيدا عن كرسي الرئاسة، وبالتالي فأنه في حل من اتخاذ أي سياسة خارجية جديدة يراها نافعة لفرنسا.
يبقى أن نقول إن الرئيس الفرنسي الجديد تنقصه كثيرا خبرة الرئيس شيراك، وكذلك معرفة شيراك العميقة بالعالم العربي، وأيضا علاقاته الشخصية الواسعة بزعماء هذا العالم. ويرجع السبب في ذلك إلى عوامل ذاتية تتعلق بشخص الرئيس الجديد، وعوامل أخرى لها علاقة بحداثة تجربته السياسية الخارجية. فقد ولد ساركوزي ونشأ وصلب عوده، في الأحياء الباريسية الراقية، المنعزلة على نفسها. وظل طوال سنوات فتوته وشبابه محاطا بأصدقاء وبمعارف من هذا المحيط. بالإضافة لذلك، فأن الذين عرفوه عن كثب لم يتحدثوا كثيرا عن محاولات مكثفة ومعمقة قام بها لتثقيف نفسه، وتوسيع دائرة معارفه في ما يخص العالم الخارجي.
ولعل هذا quot;النقصquot; في الحنكة والتجربة والدراية بشؤون العالم العربي، أنعكس في أول خطاب له، ألقاه بعد دقائق من إعلان فوزه. فالمعروف أن خطابا كهذا يكرسه صاحبه، بسبب قصر الفترة الزمنية، للحديث عن القضايا الأكثر إلحاحا، والتي تضرب على أوتار الناخب المحلي. وهذا ما فعله ساركوزي. لكنه، فجأة، وبدون أي مناسبة، تحدث في خطابه المذكور عن قضية الممرضات البلغاريات المعتقلات في السجون الليبية، حتى بدت هذه القضية وكأنها واحدة من القضايا التي يتحمس الناخب الفرنسي لمعرفة حلها. وكان الأولى بالرئيس الجديد أن يتحدث، مثلا، عن الأسير الفرنسي الذي ما يزال بأيدي طالبان، أو يتحدث عن قضية المجاعة في أفريقيا، أو عن قضية دارفور. وفوق ذلك كله، فأن الرئيس المنتخب ساركوزي أخطأ، ربما في غمرة حماسه، في تسمية جنسية الممرضات، فقال عنهن quot;الممرضات الليبياتquot;. ويقول البعض أن ساركوزي تعمد الإشارة إلى قضية الممرضات البلغاريات، بالذات، عرفانا منه لجهود المطرب الفرنسي الشهير، جوني هوليدي. فالمعروف أن هوليدي وقف بجانب ساركوزي، ودعمه في حملته الانتخابية، سوية مع بعض quot;نجومquot; الغناء والثقافة الآخرين. وكانت الزوجة السابقة للمطرب هوليدي، وهي من أصل بلغاري، قد أسست جمعية فرنسية للدفاع عن الممرضات البلغاريات، والمطالبة بإطلاق سراحهن. ويبدو أن ساركوزي أراد أن يكافأ المطرب الفرنسي وزوجته على دعمهما له.
على أي حال، ومهما يكن من خبرة ساركوزي في شأن السياسية الدولية، فأن الأيام القادمة ستتكلف بتعليمه المزيد منها، خصوصا وانه، كأي رئيس أوربي، سيكون محاطا بجمهرة من أصحاب الاختصاص.
المهم أن ساركوزي تمكن، بتصميم لم يعرف الكلل، من وضع قطاره اليميني المحافظ ،على السكة. فهل سيقود الفرنسيين إلى مبتغاهم بسلام، أم سيضطر القطار للتوقف كثيرا بسبب إضرابات عمال السكك، الذين بدأوا يتوعدونه من الآن ؟
التعليقات