لا يمكن الأستخفاف بما تشهده محافظة صعدة اليمنية، خصوصاً أن التمرد الذي تشهده المحافظة طال أكثر مما يجب فضلاً عن أنه أتخذ، بفعل التدخلات الخارجية، طابعاً مذهبياً بعيداً كلّ البعد عن عادات المجتمع اليمني وتقاليده. لكن ذلك، لم يحل دون ممارسة القيادة في صنعاء لسياسة الحوار والصبر والتروي التي يُؤمل بأن تأتي ثمارها قريباً.
تكفّل أعتماد سياسة الحوار والصبر والتروي بجعل الأحداث الدائرة في صعدة لا تؤثرعلى أحتفال اليمن بالذكرى السابعة عشرة للوحدة. جرت الأحتفالات بعيد الوحدة في الثاني والعشرين من مايو - ايار كما كان مقرراً لها أن تجري. وأستضافتها هذه السنة محافظة أبّ التي يغلب على أراضيها وجبالها اللون الأخضر بفضل نعمة المطر. وتضمّن الأحتفال الذي حضره الرئيس علي عبدالله صالح مهرجاناً شبابياً وأوبريت عن الملكة أروى. وظهرت في الأوبريت الملكة، أي أمرأة تقود الرجال وتسير في مقدمهم، في أشارة رمزية ألى وجود عقلية تسعى ألى تطوير اليمن بعيداً عن أي نوع من الرضوخ للفكر المتزمت الذي تنادي به الأحزاب والتنظيمات الدينية المتطرفة. كذلك، تضمنت العروض التي ظهر فيها نساء ورجال في رقصات يمنية، أغنية بالأنكليزية أدتها فتيات يمنيات عكسن رغبة أكيدة في الأنفتاح على كل ثقافات العالم وعلى كلّ ما هو حضاري فيه.
بقي، أنّ أهم ما كان في الأحتفال الكلمة التي ألقاها الرئيس اليمني ودعا فيها المتمردين في المحافظة المحاذية للسعودية ألى الحوار بعد ألقاء أسلحتهم. كان كلام علي عبدالله صالح بسيطاً ومقنعاً وفحواه أن الحوار أفضل من الأقتتال وأنه ما دام على المتقاتلين أن يتحاوروا في ما بينهم في نهاية المطاف، لماذا لا يفعلون ذلك الآن بدل أن يعودوا ألى الحوار بعد جولة جديدة من القتال يسقط فيها مزيد من القتلى. والقتلى يمنيون أوّلاً وأخيراً. أنهم رجال ونساء وأطفال معظمهم أبرياء لا علاقة لهم بالفكر المتخلف الذي ينادي به الحوثيون الذين يقاتلون الجيش اليمني في صعدة منذ نحو ثلاث سنوات من دون هدف واضح بأستثناء الرغبة في اعادة الأمامة ألى اليمن بعد ما يزيد على أربعة عقود من دفن النظام الكهنوتي المتخلّف. يسقط القتلى تحت شعار quot;الموت لأميركاquot; و quot;الموت لأسرائيلquot;. الشعار شيء والحقيقة شيء آخر. في صعدة لا يموت سوى اليمنيين أكانوا من أفراد الجيش الوطني الذي بذل الغالي والرخيص دفاعاً عن البلد ووحدته أو من ألأهالي الذين لا علاقة لهم بشعار مستورد يقبض كل من يطلقه مبلغاً بالدولار الأميركي. هذا الدولار الأخضر الذي يصيرquot;مالاً طاهراًquot;، على حد تعبير السيد حسن نصرالله الأمين العام لquot;حزب اللهquot; في لبنان عندما يكون مصدره أيران!
مرّة أخرى، لا بدّ من الأعتراف بأنّ ما تشهده محافظة صعدة خطير، بل خطير جدّاً، خصوصاً أذا اخذنا في الأعتبار أن الحوثيين يستخدمون الدعم الأيراني لأثارة حساسيات ذات طابع مذهبي في بلد يمتلك مجتمعاً أبعد ما يكون عن مثل هذا النوع من الحساسيات. ولعل أخطر ما في ظاهرة الحوثي أن التمرد لا يقول ما الذي يريده بأستثناء أنّه يريد أعادة الأمامة. يستطيع ذلك في حال لجأ ألى الوسائل الديموقراطية المعتمدة في اليمن وفي حال كان الشعب اليمني يقبل بالعودة ألى خلف. الأمامة لا تستعاد بالقوة. لماذا يخشى الحوثيون أذا صناديق الأقتراع؟ هل يخشون الصناديق أم يخشون أبناء الشعب اليمني الذي لا يمكن القبول بالعودة سنوات، حتى لا نقول قروناً، ألى خلف.
كان نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية اليمني الدكتور رشاد العليمي في غاية الوضوح عندما قدّم في المؤتمر الصحافي الذي عقده في صنعاء قبل أيّام أدلة على مدى التورط الأيراني في الأحداث التي تحولّت محافظة صعدة مسرحاً لها. كان كلام وزير الداخلية اليمني مقنعاً ألى أبعد حدّ، خصوصاً عندما اشار ألى ألى أن السفير الأيراني في صنعاء والقائم بالأعمال كانا يؤديان بأستمرار مناسك العمرة والحج... مع واجب المرور في صعدة في طريقهما ألى السعودية. قدّم الوزير ما يكفي من الوثائق وألأدلة على التورط الأيراني. كانت لديه وثائق وأدلة تكشف ضخامة المؤامرة التي يتعرّض لها اليمن بغية أستنزاف البلد ومنعه من الأنصراف ألى التنمية وتطوير موارده والتجربة الديموقراطية التي يسعى ألى ترسيخها.
يبدو هدف المؤامرة التي يتعرّض لها اليمن واضحاً. أنه يتلخّص بأن المطلوب أن يكون quot;ساحةquot; أخرى تحاول أيران من خلالها ممارسة لعبة الأبتزاز مع هذه الدولة العربية أو تلك... أو مع الأميركيين. هذه المرّة أخطأت أيران في العنوان، لا لشيء سوى لأن اليمن ليست لقمة سائغة، خصوصاً أن لدى مجتمعها القدرة على التمييز بين الشعارات المضللة من جهة وبين الواقع من جهة أخرى. المواطن اليمني أذكى بكثير مما يعتقد. يمتلك ذكاء فطرياً يسمح له بالتفريق بين الصح والخطأ وبين الحق والباطل. وألأهم من ذلك كله أن القيادة في اليمن مستعدة للذهاب ألى النهاية في السعي ألى العودة ألى الحوار وتفادي المواجهة. في النهاية، الحوار بالنسبة ألى عبدالله صالح بمثابة عقيدة. أعتمد عقيدة الحوار منذ الأسبوع الأوَل لرئاسته في العام 1978 من القرن الماضي. وقتذاك، شكّل لجنة لصياغة الميثاق الوطني. ومع بدء اللجنة عملها، توتر الجو مع الشطر الجنوبي وحصلت حرب فبراير- شباط 1979 بين الشطرين. وما كادت الحرب تنتهي حتى شكل لجنة للحوار الوطني ضمت عناصر كان يعرف جيداً أنها تنتمي ألى quot;الجبهة الوطنية الديموقراطيةquot; التي كانت مؤلّفة من شماليين موالين للنظام في الجنوب. أكثر من ذلك، كانت الجبهة التابعة للنظام في عدن تستولي على أراض في الشطر الشمالي، من قعطبة ألى ريمة المطلة على البحر الأحمر. نجح الحوار وأدى في النهاية ألى نوع من الهدنة وألى أستعادة الشطر الشمالي أراضيه بأقل مقدار من الخسائر البشرية. وبالحوار، تحققت الوحدة، علماً أنّه كان في أستطاعة علي عبدالله صالح حسم الوضع في الجنوب بعد أحداث 13 يناير 1986.فضّل آنذاك الأنتظار على التدخل العسكري الذي كان مبرراً نظراً ألى أن ما كان يشهده الجنوب يعتبر حرباً أهلية بكلّ معنى الكلمة وأن السلطة الشرعية ممثلة بالرئيس علي ناصر محمد (الرئيس الجنوبي وقتذاك) كانت ترحب بأي تدخل مصدره الشمال. تحققت الوحدة في الثاني والعشرين من مايو ndash; أيار 1990 عبر الحوار وكانت في الواقع نتيجة لأنهيار النظام في الجنوب وهرب أهله ألى الوحدة لأنقاذ أنفسهم أوّلاً.
وفي العامين 1993 و 1994 ، أستنفد علي عبدالله صالح كلّ أنواع الحوار مع الحزب الأشتراكي اليمني الذي كان يتزعمه السيد علي سالم البيض تفادياً لأي مواجهة عسكرية. تحمّل الرئيس اليمني كلّ أنواع الأساءات وقدم تنازلات كبيرة، بما في ذلك قبوله quot;وثيقة العهد والأتفاقquot; التي كانت تلغي صلاحيات الرئيس ألى حدّ كبير، وذلك كي لا تراق الدماء. لم يلجأ ألى الحسم العسكري ألاَ بعد أنسداد كل السبل أمامه وبعدما راهن الحزب الأشتراكي على أن في أستطاعته فرض الأنفصال بالقوة. خرج اليمن منتصراً من المواجهة، وكان لا بدّ من العودة ألى الحوار ولكن في ظلّ موازين مختلفة صبّت في مصلحة علي عبدالله صالح.
في الأمكان أيضاً الأشارة ألى المؤامرة التي أستهدفت اليمن بعد فشل محاولة الأنفصال والمتمثلة في الأحتلال الأريتري لجزيرة حنيش اليمنية وجزر أخرى قريبة منها. كان مطلوباً سقوط اليمن في فخ التدخل العسكري لتحرير حنيش والجزر الأخرى. لم يقع علي عبدالله صالح في الفخ لسبب في غاية البساطة هو أن هناك عقيدة أسمها الحوار. بالحوار واللجوء ألى التحكيم الدولي، أستعادت اليمن حقوقها وفشلت المؤامرة التي لم تكن أريتريا الطرف الوحيد المتورط فيها.
يفترض في الحوثيين التواضع قليلاً وأخذ كل هذه التجارب في الأعتبار. التوق ألى الحوار لا يعني بالضرورة ضعفاً. الحوار اليوم أفضل من الحوار غداً. من انتصر بفضل الحوار في المواجهات المتعددة مع النظام الماركسي في ما كان يسمى الجنوب، ومن أنتصر بفضل الحوار على مؤامرة الأنفصال، لا يمكن أن ينهزم أمام المؤامرة الجديدة الهادفة ألى أعادة اليمن قروناً ألى خلف في أحسن ألأحوال أو أدخالها في حروب أهلية ذات طابع مذهبي في أسوأ الأحوال. عقيدة الحوار لا يمكن ألاّ أن تنتصر لأنّها ذات أرتباط بالمستقبل وليس بالظلم والظلام والظلامية! عقيدة الحوار لا يمكن ألاّ أن تنتصر لأن البديل منها مزيد من الخراب والدمار والخسائر يدفع اليمنيون، واليمنيون وحدهم ثمنها من دم أبنائهم...