مع استتباب أمر الخلافة لأبي بكر، اصطدم بالشرط الاول الواجب توفره فيمن سيتولّى امر المسلمين بعد النبي. وهو ان يكون عالماً بأمور الدين، متفقهاً في الشريعة وأحاديث الرسول باعتباره من ابرز وجوه صحابته. لكنه كان كثيراً مايقع في الخطأ امام الصحابة حين يروي الاحاديث، وكانوا يجادلونه ويصححون له.
وتلافياً لذلك ndash; على مايبدو ndash; اعلن ابو بكر منع نقل الاحاديث عن الرسول، ولتسويق المنع وجد انه لابد من تفكيك العلاقة بين الدين والخلافة. ولابد من ايجاد مبرّر في النصوص الدينية يخدم غرض بسط السلطة، وقد حدث هذا فعلاً. وهو من أوّل واخطر انواع الممنوعات التي انتجت بمرور الوقت مسوّغات اخرى لممنوعات او تحريمات عديدة، تطلّبت من الفقهاء الاقرب من رجال السلطة التشريع لها من صلب النصوص الاصلية. وفي هذه العلاقة المنفعية التاريخية بين السلطان والفقيه، بات الثاني يسوط بسوط الاول، والاول يحكم بتشريع الثاني. وهكذا بعد اربعة عشر قرناً تراكم بين ايدينا كماً هائلاً من التفاسير وعدداً لايحصى من الفقهاء المتتلمذين على مفاهيم مخطوئة ومزيفة في مرويّاتٍ مغرضة لاعلاقة لها باصول الدين كما جاء خدمة لتطوّر الانسانية جمعاء.
ان قرار منع نقل الاحاديث عن الرسول، هومنع للصحابة من فعل ذلك بقول ابي بكر lt; انكم تتحدثون عن رسول الله احاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه gt; * 1.
أُلقي بعبء هذا المنع على حديثٍ نبوي ndash; شكّك الكثيرون بصحة وروده ndash; وجاء على لسان مسلم في صحيحه، في الجزء الرابع من كتاب الزهد والرقاق ndash; باب 16 حديث 72 قول الرسول : lt; لاتكتبوا عنّي ومن كتب عني غير القرآن فليمحه gt;. وفي ذات المصدر ورد حديث لعائشة في ذات الغرض، قالت lt; جمع ابي الحديث عن رسول الله وكانت خمسمائة حديث، فبات ليله يتقلّب كثيراً gt; قالت : فغمّني، فقلت : اتتقلب لشكوى ام لشئٍ بلغك ؟ فلما اصبح الصبح قال : lt; اي بنيّة، هلّمي بالاحاديث التي عندك gt; فجئته بها، فدعا بنارٍ، فحرقها، فقلت : لم احرقتها ؟ قال : lt; خشية ان اموت وهي عندي، فيكون فيها احاديث عن رجلً أئتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني، فاكون قد نقلت ذلك gt; 2.
لم يجرؤ بعد ذلك احد من الصحابة على نقل الاحاديث، بل رموا كثيراً مما كتبوه في الماء واحرقوا القسم الاخر. فاقتصر المسلمون على حفظ القرآن وتلاوته فقط دون العودة الى البيان والتفسير. واستمرت حملة المنع في عصر الخليفة الثاني المعروف بصلابته، ففرض القيود على رواة الاحاديث ومنع تدوينه. حتى انه حين علم بان بعض الصحابة رووا بعض الاحاديث، أمر بسجنهم، امثال [ ابن مسعود، ابوالدرداء، ابو مسعود الانصاري ]، وفرض عليهم الرقابة والاقامة الجبرية في المدينة، وظلوا كذلك حتى مقتل عمر. 3
كما رافقت حملة المنع زمن الخليفة الثالث، وبات يحاكم الرواة بالضرب والسجن والنفي، وباتت الاهواء القبلية والاجتماعية تتحكم بقررات الخلافة. فقرّب اليه التجّار وملاّك الاراضي من اقاربه وسلّمهم بيت مال المسلمين ومؤسسات الخلافة. فظهرت الى السطح الفوارق الطبقية بين عامة الناس، وأُبعد الصحابة وحلّ محلّهم الوليد بن عقبة ndash; اخو عثمان من امه ndash; ومروان بن الحكم. وحدث ان طالب ابوذر الغفاري بتوزيع اموال المسلمين على الفقراء والمحتاجين، وطالب بالعدل بكل شئ، فسجن ونفي الى صحراء الربذة حتى مات هناك. كما اُعتدي على الصحابي عبدالله بن مسعود في المسجد، وضُرب الصحابي عمار بن ياسر حدّ الاغماء، ونفي العشرات من المسلمين الى بقاعٍ اخرى، وقد عُرف عن عثمان قوله lt; لايحلّ ان يروى حديث عن رسول الله لم اسمع به في عهد ابي بكر وعمر gt;.
يعلّق الشهرستاني على حادثة احراق ابو بكر لاحاديث الرسول الخمسمائة وعلى رواية عائشة، ويستنتج بان ابا بكر لم يعرف كراوية للحديث، ولم يرد ذكره في كتب اصحاب السيروالتاريخ. وورد انه فقط كان يكتب الى بعض عمّاله في امور فرائض الصدقة وفي تدوين جباية الاموال للولاة 4. والتساؤل هو : لماذا يحرقها ؟ هذا الفعل الذي الغاها من الوجود تماماً، والذي بات منهجاً الغائياً سار عليه من بعده. وبات التحدّث بما ينقل عن الرسول وكذلك فعل التدوين بأمر السلطان فقط. وهي رؤية سياسية احادية للدين. وورد ان الرسول قد تنبّا بمثل هذا في حديث الأريكة، اي ان هنالك من سيجلس على اريكته ويحدّث بحديث رسول الله، فيقول lt; بيننا وبينكم كتاب الله gt; 5. الرسول الذي كان من طموحاته ومهامه نشر العلم والكتابة والقراءة والحوار لاحداث تغيير شامل في المجتمع، لايمكن ان يمنع التدوين والروي والجدل والكتابة. ويروي رافع بن خديج في ذلك، قال lt; مرّ علينا رسول الله يوماً ونحن نتحدث فقال : ماتتحدثون ؟ قلنا : ماسمعنا منك يارسول الله، فقال : تحدّثوا وليتبوّأ مقعده من كذب عليّ من جهنم، ومضى لحاجته، فسكت القوم، فقال رسول الله : ماشأنهم لايتحدثون ؟ قالوا : الذي سمعناه منك يارسول الله. فقال : اني لم ارد ذلك، انما اردت من تعمّد ذلك، فتحدثنا.. قلت : يارسول الله، انّا نسمع منك اشياء، افنكتبها ؟ قال : اكتبوا ولا حرج gt;. وعن اهمية الحديث ايضا قول الرسول lt; الا اني اوتيت الكتاب ومثله gt;، وفي آخر lt; الا اني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن اشياء : انها لمثل القرآن gt;، وفيحديث آخر lt; الاّ ان ماحرّمته هو ما حرّمه الله gt;.
ان الرؤية التبريرية لرجال السلطة وفقائها لاصول الدين هي التي شرّعت الخلاف على مر العصور الاحقة، لان حجة منع نقل الحديث تخوفاً من ان تترك الناس القرآن او ان تنشغل بسواه او تخوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن، هي تبريراتٍ واهية، لتلازم عمل القرآن بالسنّة، فبالأول يُفهم، وبالثاني يُفسّر، اضافةً الى سهولة التمييز بين لغة القرآن الاعجازية البلاغية وبين لغة التفسير والبيان التوضيحية. اي ان حقيقة المنع حدثت لاسبابٍ سياسية وفكرية بعد وفاة الرسول. وهنا تاتي اهمية مقارنة الاسانيد بالاصول الثابتة للوقوف على صحة المرويات من عدمها.
ان تحجيم دور ثقافة الحوار والجدل والاخباريات وربطها بموافقة السلطة بدأت مع عصر الخلافة، وان افترضنا عدم الدقة في بعض الاحاديث وتناقضها مع البعض الاخر، لكن ذلك لم يكن مبرراً مقنعاً لمنع الحديث والتعمق بامور الدين. بل نجد في القرآن مايناقض ذلك، كقوله lt; اقرأ باسم ربك الذي خلق gt; في سورة العلق، وفي سورة القلم lt; ن والقلم وما يسطرون gt; وفي سورة البقرة lt; فاكتبوه gt; و lt; ولا تسئموا ان تكتبوه صغيراً او كبيراً gt;. وهنالك في القرآن ثلاثمائة آية تحثّ على التحاور والتثقيف والعلم والتدوين، وعشرات الدعوات الشبيهة في احاديث الرسول، وعرف عنه منحه الحرية للأسير مقابل تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة. اذن من غير المعقول تصريح الرسول بمنع الحديث كما جاء في تبرير الخلفاء الاوائل، وان كان كذلك فكيف سمح لابي بكر بتدوين خمسمائة حديثٍ عنه ؟ تلك الاحاديث التي احرقها ابو بكر فيما بعد.
في حقيقة الامر ان الخليفة الاول لم يكن عالماً باحكام التفسير والبيان، فتوجّس ان يؤدي هذا الامر الى التشكيك في صلاحيته للخلافة بعد الرسول وليس فقط في مقدرته الفقهية. فاخترق النص الديني برؤية سياسية تبريرية اتاحت له هو ان يحدد ماهية الشريعة الواجب اتباعها، واصبح بعدها القول والفعل السياسي مساوياً الى حدٍ ما لاحكام الشريعة. وهو ما يبرر قوله lt; انا اعلم منكم، آخذ منكم وارد عليكم gt;، اي هو مقرر الافتاء في امور الشريعة. وصار سلوكه منهجاً للخليفة الثاني من بعده، ولكل الولاة والامراء، حتى ورد انكار الخليفة الثاني على البعض الافتاء بقوله lt; كيف تفتي الناس ولست اميراً ؟... gt; 6.
في العموم لقد حدث انقسام المسلمين فعلاً منذئذٍ، وتضاعف جيلاً بعد آخر. وان كان في البدء بين تيارين، الاول يرى الشريعة مستوحاة من القرآن والسنة، والثاني يراها في اجتهاد الشيخين واعتقاداتهما، ثم تعددت الانقسامات فيما بعد. حتى جاء عثمان، فاضاف سيرته الى سيرة الشيخين، لتصبح اصلاً ثالثاً من اصول الشريعة. وامتد فقه الرجال الذي بدأ باثنين ليصبح ثلاثة ثم اربعة ثم عشرة. بمعنى ان القانون السلفي هو من شرّع تعددية الخلاف ولم يقف عند عددٍ محدد، عكس ماورد في القرآن ndash; الآية 153من سورة الانعام lt; وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل gt;، وقول الرسول في الحث على العلم والتحذير من جهالة السلطة ورفقائها :lt; ان الله لايقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم، اتّخذ الناس رؤساء جهّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضًلوا وأضلّوا gt; 7.
يصح قولنا الان ان تشريع ثقافة المنع في فترة الاسلام الاولى ndash; فترة الشيخين ndash; جاءت لاعتباراتٍ سياسية لتركيز السلطة والخلافة، ثم تواصلت هذه الثقافة بابشع صورها في عصر معاوية لتدعيم السلطة وابعاد الخصوم، وبعد مائة عام من النزاعات، اي في عصر عمر بن عبد العزيز جرى الأمر بتدوين الاحاديث، لكنها كانت مختلطة بالكثير من الاجتهادات، واعتمد المحفوظ منها في زمنٍ عاد فيه المجتمع الاسلامي الى سلطة القبيلة والعشيرة والاعراق، واصبحت تلك المدونات ndash; على مافيها من مغالطات ndash; كما اشار ابن خلدون، شريعةً لكل المسلمين.
المصادر
1-تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 5
2-نفس المصدر ج 1 ص 3
3-نفس المصدر ج1 ص 7، مجمع الزوائد ج 1 ص 149
4-الشهرستاني ndash; منع تدوين الحديث ص 11
5-مسند احمد ج 9 ص 132
6-طبقات بن سعد ج 6 ص 179، 258، سنن الدارمي ج 1 ص 61، كنز العمال ج 1 ص 185، 189
7-تفسير العياشي ج 2 ص 33
التعليقات