في مثل هذه الفترة قبل 40 عاماً كانت النكسة. وهي لم تمّح حتى الآن. تحوّلت إلى وشمٍ واضح على جسد كل عربي. فنحن عملياً نعيش في مناخها وفي جوّها. تحوّلت تفاصيل النكسة إلى غابات نفسية موحشة. كانت صعقة كهربائية شاملة خضّت الجسد العربي بأكمله، وكم كان درساً قاسياً وواضحاً ولكنه لم يكتب جيداً حتى الآن، فبرغم الهراء الطويل الذي أنفقه العربي بحثاً وسرداً لهذه النكسة إلا أنه لم يكتب دلالاتها الحقيقية. لم يكتب شيفرة النكسة. لأن شيفرتها صعبة وموجعة ونحن يستفزّنا الوضوح ونتألم جداً من النقد الصارخ والحديث الشفاف. كانت النكسة بمثابة الدرس السياسي لأمة لم تفهم بعد معنى السياسة إلا في أبعادها العسكرية، ولم تفهم معنى الأمن إلا بشقّه البوليسي، كانت تجربة معقّدة لأن عوامل متعددة نشرت الغموض وجعلته واقعاً يتبختر أمام العربي بكل سخافة وعماء، وحتى لا أسهب كثيراً سأوجز خلاصات ومحاور عبر الكلمات التالية:
-كانت مفردة الصوت حاضرةً على أكثر من صعيد، فـ(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) إلا أن أصوات الراديو كانت أعلى، وكان بعض الصحافيين من الموظفين لدى الدول العربية يمارسون التجهيل والتضليل العلني، كما يمارسه الإذاعيّ الذي يهرّج بناءً على متطلبات quot;قوميةquot;. حيث تحوّلت كلمة quot;قوميةquot; إلى يافطة تعلّق عليها كل مشاجب الدول وأخطائها، فكلّ نقد لأي ممارسة هو نقد للقومية وتهديد للأمن القومي، وتلك الحيلة هي في الواقع حيلة صوتية تبرهن على مدى العمق في التسطيح الذي يمارسه الإعلام العربي منذ تلك الفترة وإلى اليوم، كانت تجربة دقيقة ومفصلية بالنسبة للعربي أن يهزم في أرضه من قبل حفنة من اليهود المستوطنين لم تكن فكرةً مقبولة، إلا أنها كانت هزيمة حقيقية، رغم تلطيف المؤرخ القومي quot;قسطنطين زريقquot; للهزيمة حيث سماها quot;النكسةquot; مخفياً حسّ الهزيمة مراعاة لشعور العربي الذي وقع ضحية تخدير الأصوات الخطابية الزعاماتية والأصوات الإذاعية والثرثرات الصحافية، فنحن الآن مثلاً نستمع إلى محمد حسنين هيكل، وهو يلقي تجربة حياته العقيمة وهو يشرح أدواره في الحروب فيحاول أن يقنعنا بمحورية ذاته في الصراعات العربية، ويحاول أن يقنعنا أنه ينصح كثيراً جمال عبد الناصر، حتى تظنّ من كثرة ثرثرته عن نصحه لزعماء العالم أنه-كما قال الماغوط- كان رئيس مصر وأن جمال عبد الناصر كان رئيس تحرير الأهرام! إنه التملّص وادعاء الحكمة التي يدّعيها العربي المهزوم ndash;فقط- بعد الهزيمة.
-إنها الـ quot;رضّةquot; كما يسميها المفكّر الاجتماعي محمد الأنصاري، رضّة لم نفق منها بعد، وكافة الممارسات السياسية والثقافية تدلّ على أننا لازلنا في جوف صدمة النكسة، أصبحت كلمة quot;الانتصارquot; كلمة مشؤومة لأنها عبارة صوتية تهريجية، كانت تهيّج الملايين في السابق لكنها الآن أصبحت كلمة quot;شعريةquot; كأي قصيدة عربية، إنها مثل quot;السيف أصدق أنباء من الكتبquot; لكننا في الواقع لم نصدّق سوى أنفسنا، أما الواقع الذي نعيشه والتجارب التي خضّتنا والتي قرضتنا لم نصدّقها بعد، فالقومية العربية التي تقوم على مسارات من الهوية لم تفق بعد من حلمها الطويل. حتى قضية فلسطين محور الصراع لم تكن سوى quot;قميص عثمانquot; وهي الأخرى أصبحت quot;دكاناًquot; أصبحت القضايا مجّرد صناديق لجمع التبرعات، من دون أيّ تطوّر أو تجذير لفهم القضية ولموضعتها وفق المسار السياسي ووفق تاريخها النضالي الطويل، لأن فلسطين أصبحت تتقلص أصبحت بالونة تتجه نحو التقلّص كل لحظة وكل يوم.
-كانت النكسة جارحة لنرجسية العربي الذي شبع من الانتصارات التي سمعها-في الراديو-! والتي لم تكن سوى انتصارات من ورق، كان لتلك الرضّة الدور البارز في رسم الشرخ العميق على نرجسية العربي، واستغلّت الحركات الإسلامية التي بدأت تقتات في دعايتها لنفسها على فشل القومية استغلت تلك الأحداث، فربضت على قلوب الناس، وبدأت تضخّ مفاهيم حركية، استمدّتها من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، والندوي، وكانت مملوءة بحلم إعادة الخلافة الإسلامية، ومكتضّة بمفاهيم دموية حول الجهاد، واستغلّت تلك الجماعات سخط الشعوب على quot;الحكوماتquot; بسبب الهزيمة والنكسة لصالح تمرير أفكارها وطبخها على نارٍ هادئة، ونجحت فعلاً منذ الثمانينات، وساهم في نجاحها بعض الظروف كالركض إلى افغانستان. وأصبحت هذه الجماعات مثل الدينصورات الخطرة، تدخل كل دولة وتترك بيضاً خطيراً سرعان ما ينتج دينصورات هائجة تركض في كل اتجاه وتضرب في كل زاوية مملوءة بالهمجية والطيش وقلة الوعي وضعف العقل ومملوءة بهياج التطرف. إنها نتيجة من نتائج النكسة أن تستغلّ تلك الجماعات عاطفة شعب بأكمله لتمرير تطلعاتها الشخصية.
وأخيراً، فإنها نكسة مليئة بالشيفرات والدلالات، ولنقاران حالنا بإسرائيل وكيف استثمرت هي النكسة وفهمتها وتدبّرت الدروس منها، ونحن لم ندوّن بعد مدوّنة واحدة تكون عملاً موسوعياً يرصد تفاصيل تلك النكسة، إن عدم التدوين هذا أو quot;حظرهquot; يشرح سبب نكساتنا، اننا نخفي مصادر انهيارنا بينما نحن في شدّة الحاجة إلى النقد والشفافية، وحتى اليوم تبرز الخطب الطنانة والرنانة التي تحاول أن تخدع الناس، ولكن يكفي أن نعلم أن الخطاب القومي بات شاعرياً ، وبعبارةٍ أخرى quot;العيال كبرتquot;.

[email protected]