الخامس من يونيو لم يكن في التقويم العربي مجرد معركة عسكرية فيها رابح وخاسر. كان مرحلة بحد ذاتها لعقلية عربية امتدت للاسف الشديد من اعلى الهرم الى اسفله، وقضت آنذاك على البقية الباقية من امكانية اتساع هامش التفكير الحر وقيام الدولة العصرية الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني وتطور الديموقراطية.
صارت الظاهرة الصوتية هوية عربية، فما نسمعه من احمد سعيد هو الحقيقة التي رافقتنا الى ما سمعناه من محمد سعيد الصحاف، اي بعد 36 عاما بالتمام والكمال. الاول دمر خمسين طائرة للاسرائيليين في اليوم وكاد يحتل تل ابيب والثاني ذبح quot;العلوجquot; على اسوار بغداد وكاد يحتل واشنطن... وبين النموذجين عشرات عشرات القصص من المحيط الى الخليج.
ومن الظاهرة الصوتية الى quot;مؤسسة الشعارquot;، فما تسمعه من القائد وجماعته وحزبه يحتاج فورا الى مجموعات عمل لوضعه موضع التنفيذ، ومن يناقش الشعار يصبح خارج المؤسسة فورا قمعا وسجنا وتهميشا.
عليك الا ترفع صوتك quot;فوق صوت المعركةquot;، والا تفكر للحظات في كيفية quot;رمي اليهود في البحرquot;، والا تستغرب عبارة quot;التوازن الاستراتيجيquot;، والا تبتسم اذا سمعت quot;لا صلح لاتفاوض لا اعترافquot;، والا تتذمر عندما ترى quot;طريق فلسطين تمر في جونيةquot;، والا تضع يدك على قلبك اذا كان quot;استرجاع القدس وتحقيق الوحدة العربيةquot; يمران من خلال الغزو quot;الشقيقquot; للكويت، والا تتعاطف مع مدنيين اسقطت طائراتهم لان من فجرها في الجو قائد عربي او مع ابرياء انهارت ابنيتهم فوق رؤوسهم لان من فعل ذلك quot;مجاهدquot;... كل ما عليك كي تبقى في المؤسسة هو ان تصفق للشعار وتتقن تلحينه وتهجئته بالشكل الذي تردح به المجاميع.
وبين الظاهرة والمؤسسة، لعبت هزيمة يونيو دورا كبيرا في خلق الهالة الصنمية للزعيم - القائد. فمن ينهزم بكل هذا الوضوح عليه ان يتطرف في عبادة الذات والتماهي مع الامة والتاريخ لترتقي صورته الى صورة غير بشرية في المهابة والخشية. واذا كان الزعماء الليبيراليون والاشتراكيون والعلمانيون يستوون في ذلك مع القادة quot;الجهاديينquot; والاسلاميين، فلان الموروث في التاريخ العربي والاسلامي يسمح بذلك ولا يفرق بين ايديولوجيات الحكام... المهم ان الحاكم هو الايديولوجيا والمعتقد بغض النظر عن انتماءاته.
بهذا المعنى يصبح الكلام عن القائد كلاما عن الوطن نفسه الامر الذي يوصل الى الخيانة، كما يصبح الكلام عن قائد آخر اسلامي كلاما عن الدين نفسه الامر الذي يوصل الى الكفر. ولم يسبق احد صدام حسين مثلا في المزج بين القيادة العلمانية البعثية الاشتراكية وبين الشعار الديني، الى الدرجة التي قال له اعضاء القيادتين القطرية والقومية في لقاء متلفز ان القومية العربية لم تعرف فارسا مثله وان الاشتراكية لم تعرف عادلا مثله وان الاسلام لم يعرف حاكما مثله. واذا كان احد القياديين البعثيين السودانيين (بدر الدين المدثر) شكر الله الذي جعله quot;من صحابة صدامquot; فان طه يس رمضان اعلنها بلا لبس:quot; اننا بعد الله نعبد صدامquot;.
واذا كان الحاكم هو الدولة والدين والامة فمن البديهيات ان يختصر المؤسسات بشخصه، وبما انه في النهاية شخص عادي وبشر مهما عاش لحظات مغايرة فسيعهد الى quot;حوارييهquot; وانصاره والمقربين منه بمساعدته في ادارة هذه المؤسسات على قاعدة الثقة لا الخبرة، وصولا الى تدمير المؤسسات بالفساد والرشوة والمحسوبية وزرعها بالموالين الهامشيين وابعاد الخبراء غير الموالين.
ثم quot;يكتشفquot; الحاكم ومساعدوه ان الهزيمة امام عدو الخارج والفشل في ادارة الدولة وتحقيق اي تنمية للمواطن والمجتمع سببهما نقص ولاء وهمة المواطن نفسه، فيزيد من التعبئة الثورية عليه لتحفيزه وشحذ هممه، ويزيد من توسعة السجون لquot;اعداء الداخلquot;، ثم يزيد من تركيبة الدولة الامنية للحفاظ على هيبته وحكمه مدخلا للحفاظ على quot;الدولة والامةquot;.
نحن الآن امام مرحلة اخرى، فالثقة بالحزب والرفاق والضباط ومسؤولي المناطق ستتراجع تلقائيا كلما تقدمت عوامل عبادة الذات والتماهي مع الامة وسيطرة هاجس الامن والخوف من quot;طعنات الظهرquot; والانقلابات، لذلك يستطيع الحاكم بما راكم من هيبة وquot;انتصاراتquot; وبما زرعه من رعب في مجتمع غير مدني ان يسلم مقاليد الامور الاساسية تدريجيا الى اشقائه واولاده وابناء عشيرته او قريته أو منطقته، فيسقط الرفاق المعترضون تدريجيا في حوادث سير ويدخل الحزبيون الى السجن بتهمة اساءة السلطة وخيانة الامانة والفساد... ثم تجتمع ضغوط ومصالح دولية مع حاجة تنفيسية داخلية فتحصل ديكورات انتخابية شكلية تبقي السلطة والثروة والقدرة حيث هي.
الخامس من يونيو. تاريخ ليس كمثله تاريخ، يتميز عن غيره بخاصية اساسية، ففي كل دول العالم تستطيع ان تقول:quot;غدا يوم جديدquot;، اما عندنا فيمكننا بكل ثقة ان نقول:quot; غدا يوم قديمquot; تتجدد فيه عقلية الحاكم المنتصر... على مواطن مهزوم.
[email protected]