اختزلت ثقافتنا الشعبية طبيعة الدولة المصرية، بمثل يقول quot;حمارة الحكومة عرجا بس بتوصلquot;، فالسلطة المركزية قد تسترخي ويتراخى معها القانون، وهو ما يحدث كثيراً في نهايات عهود الحكام، الذين قيض لهم اعتلاء عرش البلاد لسنوات طويلة، كما يجري الآن، لكنها تظل قادرة على الأذى لو شاءت.
ومظاهر الرخاوة التي منيت بها مصر ـ والتعبير لأستاذنا جلال أمين ـ لا حصر لها، لكن يصبح الأمر مفزعاً حين يصل إلى حد ضرب القضاة بالأحذية، كما حدث أثناء النطق بالحكم على أحد quot;يتامى صدام حسينquot;، النائب الذي أدين بالرشوة، فما كان من أعوانه لإثبات ولائهم له سوى الاعتداء على القاضي، وتحطيم قاعة المحكمة، وإتلاف عشرات السيارات، في مشهد لم تعرفه ساحات القضاء المصري من قبل.
في اليوم التالي استيقظت الحكومة فجأة ونفخ الله في صورة quot;حمارتها العرجاءquot;، فاستنفرت قواتها للتصدي لتنظيم أيمن نور الإرهابي، الذي تتزعمه زوجته الأخت جميلة إسماعيل، ويضم في عضويته طفليه ومحاميه، وحالت المحكمة الجليلة دون دخولهم القاعة، لاعتبارات يعلم الله وحده حقيقتها.
ولا يتطلب الأمر مقارنة وقائع محاكمة quot;النائب إياهquot;، وجلسة أيمن نور الأخيرة، ليكتشف أن هناك quot;نزعة انتقاميةquot; تقف وراء كل خطوة يخطوها الرجل، تشبه تلك الروح الانتقامية التي بدت في التعامل مع الشقيقين أنور وطلعت السادات، لتسقط عضوية أحدهما، وتلقي بالآخر خلف أسوار السجن الحربي.
إذن، لنتجاوز التفاصيل القانونية في تلك القضايا، والتي إن تُبد لكم تسوؤكم، لنتحدث عن الفخ الذي تنصبه السلطة للطيبين من أبنائها، حين تبدو هزيلة هشة متهافتة، فتشجع بعض المتحمسين للمضي بعيداً، إلى النقطة التي تصل إليها quot;حمارة الحكومة العرجاءquot;، لتدهس المخدوعين باسترخاء الدولة.
الحكومة التي استدرجت أيمن نور حتى صدق أن quot;الأغاني ممكنةquot;، هي نفس الحكومة التي غضت الطرف عن quot;نائب الرشوة ومتعهد رحلات الصيف والشتاء تأييداً للبعث البائد، حتى توحش أنصاره، الذين ألقوا بصور مبارك على الأرض حينما كان القاضي ينطق بإدانة quot;عمدتهمquot; بالرشوة، وراحوا يهتفون quot;يسقط حسني مباركquot;، كأنما الكون انقلب في لحظة، وتحول المنافقون إلى معارضين.
تابعت هذا المشهد الفوضوي إلى حد العبث، ورأيت إحدى مؤيدات quot;نائب الرشوةquot; وهي تخلع حذاءها لتلقي به على منصة القضاء السامية، ووقتها رأيت فيما يرى الحالم صور أيمن نور في كل شارع وحارة، وعلى مقار الحزب الوطني والمصالح الحكومية وبوابات المعسكرات وحتى quot;نفق العروبةquot; في عقر دار مبارك، وشاهدت الشريف والشاذلي وسرور يتوددون لنور، كلٌ على طريقته وحسب خبرته في هذا المضمار.
وتخيلت المواطن البريطاني عبداللطيف المناوي يسعى لدى أصدقاء نور لاستضافته في برنامجه الطويل الممل ليروي جانباً من طفولته وصباه وحتى نضاله في quot;العهد البائدquot;، بينما كانت تسعى زوجته لإقناع جميلة إسماعيل بالحديث quot;في العمقquot;، وشاهدت ميليشيات الحزب الوطني تهتف في ميدان طلعت حرب، بالروح والدم نفديك يا نور، بينما كان ممتاز القط يكشف في مقاله بأخبار اليوم سبب إصابة نور بالسكر، قائلاً إنه من فرط quot;الحلاوةquot;، ومطالباً أجهزة الأمن بملاحقة غير المصابين بالسكر لكشف حقيقة ولائهم.
هذه ليست محض أضغاث أحلام، بل لعلها مخاوف حقيقية لدى كافة الأطراف، فالنظام يخشى أن تبدد quot;كاريزماquot; نور أمنية جمال مبارك الدفينة، التي ينكرها دائما باعتلاء عرش النيل، ونحن الحالمون بوطن جميل نخشى أن يعتلي الانتهازيون الموجة كما يفعلون دائماً، لكن الثابت في نهاية المطاف أن أيام السجن الكئيبة هذه غسلت نور وطلعت السادات بالماء والبرد والثلج، وغفرت لهما ما تقدم من ذنوبهما وما تأخر، ووضعتهما في مصاف كبار رجالات الأمة، لأنهما دفعا الثمن مقدماً، وقطعا الطريق على المزايدين ومناضلي الحناجر.