حقيقة مؤتمر المثقفين العراقيين واحتمالاته (1/2)
ومع ذلك،إذا ركنا إلى حسن النوايا وحصل الاطمئنان( وحتى إشعار آخر ) إلى أن المؤتمر قد عقد بأموال مثقف عراقي، ومن تولى قياداته هم مثقفون يريدون إنقاذ وطنهم وإعادة بنائه،وهذا حقهم وواجبهم،وإذا ركنا إلى سوء النوايا ( وحتى أشعار آخر ) وسلمنا أن المؤتمر قد عقد بأموال مشبوهة أو غامضة المصدر، ولغايات شخصية ضيقة ومستغفلة. فإن ما تحقق على أرض الواقع هو بناء كبير،ينبغي أن يعتد به و ينطلق في مسيرة متصاعدة تزري بكل ما حوله من نوايا سيئة أو حسنة ولا يتوقف إلا ليعيد بناء نفسه بشكل أفضل!
لذا يتحتم علينا أن نسأل ماذا حقق هذا المؤتمر في فعالياتة الكثيرة وما بذل فيه من مال وجهد وتمنيات وأحلام؟
لقد كان هذا المؤتمر أول لقاء جدي وواسع النطاق على مشروع كبير بين ما يسمى بمثقفي الداخل ومثقفي الخارج، وإذا لم نتوقف عند العواطف المتفجرة والمفعمة بالشجن والأسى والحيرة لما جرى ويجري، فقد تلمس الكثيرون لدى زملائنا القادمين من الوطن نضجاً وتسامياً وحرصاً عالياً على إنجاح هذا المؤتمر، والنظر للعملية الثقافية العراقية ككل موحد لا يتجزأ بكل ما تحوى من غنى في تنوعها وانتشارها في العالم،وقد قابله تلهف ومزاج مرح لدى القادمين من المنافي بحكم طراوة أماكن إقامتهم! ثمة تبدل طيب في المزاج بين الفصيلين العراقيين عن ذاك الذي لمسته خلال عودتي للعراق قبل ثلاث سنوات حيث كان هناك بينهما تشنج أو شعور متبادل بالاغتراب أو شك ومباراة في إطلاق الاتهامات وصلت حد توزيع صكوك الخيانة والوطنية على حسابات خاوية! لمست بدقة وبفرح أن روح الثقافة العراقية أو المثقفين العراقيين هي في نمو وسمو وتشق طريقها بين الأهوال والكوارث إلى مزيد من النضج والحكمة، وهي التي يعول عليها في تشخيص الداء العراقي ورسم طرق الخلاص منه واستعادة العراق لعافيته وسعادته. لقد كان الزملاء القادمون من الوطن هم بؤرة المؤتمر المتزنة والمشرقة ( كان مؤلماً أن يتخلف الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر عن الحضور لتوعكه المفاجئ )( وقد ترك فراغاً عدم حضور مبدعين وكتاب كبار يصعب حصرهم بينما كان بعض من دعي ليسوا بوزنهم أو إنهم لم يقدموا للثقافة العراقية جزءاً يسير مما قدمه هؤلاء ) (المبدعة لطفية الدليمي حالت ظروفها الخاصة دون حضورها ووجهت رسالة للمؤتمر وقبلت ترشيحها للأمانة العامة ) ( جاسم المطير تحدى مرضه وحضر المؤتمر من هولندا على كرسي متحرك وساهم واقفاً بقامته الروحية ) ( سألت الزبيدي عن الغائبين، قال: بالطبع لا نستطيع دعوة الجميع،ومع ذلك أقر أن ثمة ملابسات وعجالة وارتباكات حصلت وإغفالنا دعوتهم لا يعني أننا لا ننظر إليهم بما يستحقون من تقدير وإكبار، وأعد إننا سنتلافى ذلك في لقاءاتنا القادمة وهي كثيرة كما نأمل )( وكم كان رائعاً حضور الفنان الكبير محمد غني حكمت،كانت ابتسامته وحركته في أروقة المؤتمر بحيوية شاب متألق ساهم بكلماته الناضجة وبلوحته الجميلة التي تصدرت قاعة المؤتمر كشعار جميل!)( يوسف العاني، أحال سنوات عمره الطويلة المثمرة إلى حمرة متوردة فتية على خديه،وقد قدم مقطعاً من إحدى مسرحياته الشهيرة كأنه يأتمن بها المؤتمرين على مستقبل العراق ) ( والفنان الكبير حسين الأعظمي اعتصر لضيوفه من قلبه وحنجرته الذهبية أنغاماً شجية لأحلام بغداد وأريجها وشدوها )
ترى ما أهمية ما تحقق وما مدى صلابته لمواجهة تحديات السنوات أو الأشهر المقبلة ؟ وما هي قدرته على تحقيق أهدافه الطموحة التي تصدرت وثائقه وتبارى المشاركون في الإضافة عليها تحدوهم الآمال العريضة ؟ أن أحد أكبر هموم هذا المؤتمر هي تحقيق وحدة المثقفين العراقيين والعمل على خلق ثقافة حية جديدة قادرة على مجابهة الأوضاع والتحديات الملمة بالعراق وتمكن الناس من استعادة ثقتهم بحياتهم وبأنفسهم، وخوض غمار حياة مفعمة بالأمل والبناء! ولكن هل سيسمح لهم الواقفون على بوابات العالم القديم بالمرور؟،وهم يمسكون بأيديهم الغليظة الهراوات والسكاكين وفتاوى التكفير أو فتاوى التسلط. بالطبع هذا يتوقف على جدية المثقفين وشجاعتهم ومدى أيمانهم برسالتهم أو مهماتهم وقدرتهم على تحقيقها، وضرورة تقوية تنظيمهم والمضي به قدماً إلى اتحاد متكامل يستفيد من مزايا العمل في الداخل والخارج مؤكداً على الطابع التقدمي والإنساني والحر للروح العراقية مهما تنوعت منحدراتها الطائفية والقومية وأساليب عملها أو إدارتها أو انتشارها!
لقد كسر هذا المؤتمر ذلك الحاجز النفسي الحقيقي أو الوهمي بين مثقفي الخارج ومثقفي الداخل وأكد إمكانية عملهم وضرورته وجدواه إلى أقصى حد خاصة وإن الفرص التكنولوجية تجعل ذلك يسيراً ومتقناً جداً!ريثما يعود المنفيون لوطنهم ولا يلتحق مثقفو الوطن بالمنافي!
وأكدت سلاسة التلاحم بين الممثلين أو القادة الرسميين لاتحاد الأدباء في العراق وبين قيادات المجلس التي انبثقت عن الانتخابات الحرة والشفافة (وربما هي أول ترشيحات وانتخابات تتم بعيداً عن تدخل السلطة وقد حصد فيها قادة اتحاد الأدباء معظم الأصوات) عن إمكانية عمل الاتحاد والمجلس الثقافي بشكل متوازن ومتضامن لا متعارض وإن يكون أحدهما ظهيراً للآخر لا بديلاً له! إن مهمات وواجبات كثيرة أمام الثقافة العراقية عليها إنجازها مساهمة منها في خروج العراق من محنته خاصة في ما يتعلق بإعادة بنائه وتحقيق استقراره وأمنه واستكمال سيادته الوطنية!
ولكن مع ذلك لا ينبغي الإفراط في التفاؤل فثمة ألغام كثيرة على الطريق إضافة لألغام الإرهاب!فهناك قوى وجهات كثيرة ما تزال تريد اللعب على خريطة الوضع الثقافي وإعادة رسمها لمرات عديدة حسب أهوائها السياسية أو الشخصية! وهي قد راقبت أعمال المؤتمر من بغداد أو الخارج بقلق أو بغضب وبعضها هدد وتوعد، ومضى على الفور يهيئ للبديل الذي يريد أن يجهز على كل ما تحقق،وهناك قوى أخرى صامتة واثقة من نفسها أن مصير المثقفين الوقوف على أبوابها فالحكومة الحالية لها أجندتها وهمها الكبير جعل تنظيم المثقفين واجهة لها وهي ماضية في محاولة تحطيم تراثه العلماني والتحرري العريق لمصلحة طرحها الديني والطائفي المتخلف. وهناك الوجود الأمريكي أو الأجنبي الذي أثبتت السنوات الأربع المنصرمة انهماكه بالمعادلات العسكرية والسياسية باسم مكافحة الإرهاب منطلقاً كثور هائج غير مكترث لما يسحق في طريقه من ركائز و توازنات روحية أو فكرية للعراقيين! وهناك رجال سياسة عرب وكرد أدركوا بذكاء أو دهاء كيف إن طريق الثقافة قصير ورخيص ومضمون لتمرير المشاريع السياسية الخطيرة، وما عليهم سوى الضغط هنا والإغراء هناك لشراء المواقف والشعارات والبيانات الثقافية المؤثرة! وهم لا يخفون أنهم يريدون تشكيل مجلس عراقي للثقافة يكون مرتبطاً بسلطاتهم المعلنة والخفية والتي لم يعد يعرف أين مراكزها، هل هي في بغداد أم في أربيل أم في النجف في قم أم في دمشق!
لم يمر زمن على العراق زاخر بالتحدي والاستلاب و ينبغي على المثقفين العراقيين أن يمسكوا فيه زمام أمرهم كما اليوم! إن ثقل المعادلة والكلمة الفصل هي بيد مثقفي الداخل حيث ينبغي أن يتجلى حرصهم على استقلالهم وعلى تمسكهم بمستقبل ثقافة بلادهم بالاستناد على وحدتهم مع مثقفي الخارج والتمسك بها بقوة مهما التفت حولهم الأحابيل الطائفية والقومية!
لا مفر أمامهم إذا أردوا الإيفاء بوعودهم الثقافية الكبيرة من الصمود بوجه الضغوط والمغريات والحفاظ على كيانهم المستقل الجديد وجعله مصدر دعم روحي لشعبهم ومرجعية للضمير العراقي والعقل العراقي الحر ينافس أو يحد من سطوة المرجعيات الدينية والطائفية المتحكمة الآن بمصائر العراقيين ولم تقدهم سوى للمزيد من الخراب والعذاب. إذا استمرت روح العمل المشترك الواسع حتى مديات عالمية وإنسانية إيجابية من الممكن تحقيق نقلات نوعيه في واقعنا الثقافي العراقي وبما يمكن فيه مجابهة واقع الموت والردة الحضارية في بلادنا!
وبقدر ما هناك من أمل في إرادة المثقفين،هناك عوامل إحباط ويأس في واقع العراق الطافح بالدماء والأهوال والتعقيد ولكن لا يسع المراقب سوى أن يأمل خيراً وينتظر!
إذا نظرنا إلى داخل المجلس وقومه الخاص نجد رغم التلاحم الفوري الصحيح المتحقق بين تنظيم اتحاد الأدباء والمجلس أن هناك إمكانات أو أسباباً لظهور تنازعات أو خلافات في المسؤوليات والصلاحيات قد لا تفجر هذا التلاحم ولكنها ربما تفك أو تضعف عراه. كما إن مهمات وصلاحيات الرئيس والمستشار العام الذي كان السباق بينهما للرئاسة محفوفاً بمخاطر أن يطيح أحدهما بالآخر، ما زالت غير واضحة بشكل كاف، وهي قد تتصادم وتتعارض مع بعضها من جهة أو ما بين الأمانة العامة والأمين العام من جهة أخرى! ورغم أنها نظمت بقانون، إلا إن الكثير من بنوده ومواده ظلت تحمل الكثير من الغموض والارتباك رغم الجهد الذي بذل على إعادة صياغتها. كما إن التمويل المالي الجيد الذي منح المؤتمر زخم البداية القوية هو قصير الأمد،فقد قال إبراهيم الزبيدي إنه سيمول عمل وأنشطة المؤتمر لسنة واحدة والباقي ينبغي أن يتكفله المجلس برئاسته وهيئاته وأعضائه، أو بما يحصل عليه من مساعدات، وهي غير مضمونة طبعاً. ترى ما هو مصير هذا المجلس إذا نقطع الدعم المالي عنه؟ من سيرعاه ومن سيدعمه مالياً ؟ خاصة وإنه قد ولد متمرداً وكان ثمرة حب محرم كما يقال وخارج الشرعية الأبوية للسلطة!
بالطبع هناك مصاعب كبيرة أمام هذا المجلس مثلما هناك آفاق وسعة مشرقة أمامه أيضاً!
إذا قدر لهذا التنظيم الجدي الغياب فسيخسر المثقفون العراقيون أول تنظيم بنوه بقدراتهم الذاتية بعيداً عن السلطة وتدخلاتها، وسيخسرون التقاء نهري الثقافة العراقية في قرنة عمان،وقد يخسرون البحر والأفق المنفتحين أمامه! ستكون البدائل الجديدة تنظيمات أو تمزقات أو تشظي قد يكون صورة مطابقة للواقع السياسي والاجتماعي المشتت والمبعثر والمنكفئ! ومع ذلك إذا جرى التصدى لكل هذه الخلافات المتوقعة أو الصعوبات المادية الطبيعية والتحديات الخارجية بالرغبة القوية الحاسمة في الاستمرار على هذه البداية الناجحة فمن الممكن تذليلها وتجاوزها والتكيف مع الواقع والنمو داخل صعوباته لا داخل رفاهية ممنوحة له لقاء سلب الإرادة!
وكل هذا يمكن اعتباره حجر أساس للبناء عليه وتطويره إلى صرح شامخ يليق بالثقافة والمثقفين العراقيين، وهو بالطبع سيخضع لسلسة تبدلات وتحويرات تتناسب وتحسن الأحوال في العراق أو تدهورها، ولكنها ستحافظ على جوهره الوارد مفصلاً في وثائقه التي أقرتها الهيئة العامة!
لقد قطعت الثقافة العراقية نصف قرن على طريق الهزات الكبرى والنكسات الكبرى، وسلكت المعراج الطويل من الآلام، وآن لها أن تتلمس طريقها لتنقذ نفسها وتؤدي مهمتها الإنسانية عبر استعادة تنظيمها لنفسها، وتنسيق صفوفها للالتفات لمهمتها الأساسية وهي الإبداع والعطاء الروحي والجمالي، وهذا ميدانها الحقيقي، الأول والأخير!