الرهاب أو الفوبيا لدى علما النفس هو الخوف الوهمي والمبالغ فيه من شتى الأشياء والظواهر. فهناك من لديه رهاب من الأماكن الضيقة أو المرتفعة وهناك من لديه رهاب من أطباء الأسنان أو الصدرية البيضاء للأطباء عموماً، وهناك من لديه رهاب من الغرباء, ولكن هناك رهاباً لا أدري إن كان المحللون النفسانيون قد تحدثوا عنه، وهو رهاب الإنسان الشرقي من مسألة الوطنية. فهو ما أن يقترب منها حتى تعتريه تشنجات حادة وترتعد فرائصه ويرتفع صوته أو يتحشرج بشكل عصبي ولا يتورع عن إطلاق شتى النعوت على من يناقشه فيها تصل بسرعة في هذه الأيام إلى تهمة العمالة للأجنبي والعمل لصالح المحتل وهو لا ينتظر الإحالة لمحكمة مخولة إنما يصدر هو حكم الخيانة العظمى، وينفذ الإعدام بقطع رأس صاحبه على الفور،وإذا كان يكتب فإنه يتصور الكومبيوتر مقصلة فيضغط عليه ويهشمه!
هذا الرهاب اليوم هو أكثر الأمراض شيوعاً ليس فقط بين العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين بل والكثير من العرب خاصة أولئك الذين عهدوا أجدادهم وأسلافهم غزاة لا مغزوين، وما زالوا حتى اليوم يحلمون باستعادة الأندلس بعد تحريرها من الأسبان بـــ (بكم ) سيارة مفخخة!
إنها أخطر ظاهرة فكرية ونفسية نعيشها اليوم، ومنها تنبع الكثير من السياسات والمواقف المؤلمة، بل هي أحد مصادر الإرهاب الفتاك والمدمر الذي أحال الوطنية إلى الدين فجعل الذود عنها بقتل النفس والآخرين معاً فرض عين! وأحد مصادر الاحتراب اليومي في العراق حيث كل طرف يعتقد إنه يحمي وطنية وشرف العراقيين ويجسده بقتل أولئك المارقين الخونة العملاء وهم ليسوا سوى أطفال وشيوخ ونساء أرامل!
هؤلاء يعتقدون إن كل اقتراب من الأجنبي أو تحاور أو عمل معه اختياري أو لا مناص منه هو خيانة، بل إن بعضهم يطلق النار على شرطي المرور في الشارع لأنه يعمل في ظل الاحتلال! وهؤلاء لا يعرفون غير السلاح وقد نسوا عقولهم وضمائرهم، ونسوا أن العقل أقوى من السلاح فهو الذي اخترعه وهو الذي أبدع القوانين وطرائق الصراع وحسن التخلص، بل هم يلجأون لوحشية الغاب وغريزة الحيوان حين يفجرون أنفسهم بين البشر متوهمين أن الإنسان يمكن أن يكون وطنياً ومتديناً ووحشاً كاسراً بنفس الوقت!
المضحك المبكي أن هؤلاء كالفتاة الشرقية علمها أهلها أو مجتمعها أن تختصر الشرف أو العفة بغشاء البكارة، وهي يمكن لها أن تعمل كل شيء سراً مادامت قد حافظت على غشاء بكارتهاzwj;. فكثير من هؤلاء المرضى يخف رهابهم ويزول حين يتم لقاؤهم بالأجنبي أو المحتل سراً أو بعيداً عن عدسات التصوير! هكذا فعل صدام حسين حين أعد وعصابته سراً على دخول القصر الجمهوري ليلة 17 تموز 1968 متعاوناً مع المخابرات المركزية الأمريكية! وهكذا فعل عبد الناصر حين رتب قنوات سرية له مع الأمريكيين وحتى الإسرائيليين! وهكذا أسس الأخوان المسلمون حزبهم بالتعاون سراً مع القنصلية البريطانية في الإسكندرية عام 1925( حزب الدعوة هو النسخة الشيعية من هذا الحزب ولو سحب الأمريكان اليوم الملعقة الذهبية من فمه لانقلب متحدثاً عن الجهاد ضد المحتل) وهكذا كان قد فعل بن لادن حين عمل في خدمة الأمريكيين ضد السوفيت في افغانستان، وغيرهم وغيرهم كثيرون!
انثالت هذه الخواطر لدي بعد أن قرأت مذكرة نشرها الصديق القديم فاضل ثامر يتحدث فيها عن مساعيه لتشكيل مجلس أعلى للثقافة في العراق، يقول فيها :
quot; وشخصياً كان لي شرف الإدلاء بوجهة نظر في هذا الموضوع بعد سقوط النظام الدكتاتوري مباشرة وقبل تشكيل الحكومة العراقية ووزارة الثقافة، إذ نشرت في إحدى الصحف المحلية مقالة تحت عنوان ( نحو تشكيل مجلس أعلى للثقافة في العراق ) أثارت اهتمام جميع الحريصين على فكرة تأسيس مؤسسة ثقافية شعبية وغير رسمية تضطلع بمهمة وضع أجندة شاملة لمختلف الأنواع الثقافية في العراق بعيداً عن هيمنة المؤسسة الرسمية وإملاءاتها واشتراطاتها، واتصل بي أحد الأصدقاء القدامي ممن عمل في الهيئة الاستشارية التي شكلها في ذلك الوقت بول ابريمر وهو الزميل (إ.أ) مبدياً حماسه للمشروع وعارضاً عليَ التعاون لتحقيقه لكني اعتذرت عن قبول هذا التعاون مع وجهات الاحتلال مبيناً له إني أنتظر تشكيل حكومة وطنية يمكن لها أن تحتضن مثل هذا المشروع، وعندما تشكلت هذه الحكومة المؤقتة التي اختارها السفير بريمر آنذاك تفاءلنا خيراً لمستقبل الثقافة العراقية خاصة بعد أن أعلن عن حل وزارة الإعلام (وهو قرار جائر) والإبقاء على وزارة الثقافة ، لكن الثقافة إلخ ...)
هذا نص فقرة وردت في هذه المذكرة أو المقال الذي لا أريد مناقشة جميع ما ورد فيه إذ هي حكاية طويلة، ولم تتبلور عناصرها بعد وما زالت في حالة تجاذبات وصراعات كثيرة ويصعب حصرها، ويمكن العودة لها في ( إيلاف ) كلما اتضحت قضايا فيها تستحق النقاش لكني أريد أن أقف عند ما ورد في هذه الفقرة لا لأني المقصود فيها فقط بل لأنها أيضاً تتضمن جوهر المقال نفسه، وكيفية تعامل الكاتب مع هذا الموضوع، وطريقة تفكيره عموماً!
يؤسفني القول أن الأمر هو ليس كما ورد في مقالة الصديق فاضل، إنما هو في الواقع شيء آخر تماماً،فمشروع تشكيل المجلس انطلق من مجلس إعادة إعمار العراق وقد طرحها الصديق إبراهيم الزبيدي وعملت معه في محاولة لتحقيقها حين كنا آنذاك عضوين في هذا المجلس، ونعمل مع زملاء آخرين مستشارين في وزارة الثقافة، ولم أكن أنا قد قرأت مقالة فاضل، والآن فقط أعرف بوجودها ولا أدري أين نشرها. وحين فاتحته حول تشكيل مجلس أعلى للثقافة كنت منطلقاً من مشروعنا حول ضرورة العمل على إعادة بناء الثقافة العراقية بعد أن خربتها الدكتاتورية وحروبها وقمعها الذي تواصل حوالي 35 سنة،وقد وضعنا خطوطاً رئيسية أولية من أجل تطويرها واغنائها بالمزيد من الحوار والنقاش مع أوسع مجموعة ممكنة من المثقفين!
وعندما عرضت الفكرة على الصديق فاضل ثامر أبدى ترحيبه وحماسته لها، وفي لقاء أخر عرضت عليه قائمة بأسماء مقترحة لهاذ المجلس وكان اسمه من بينها فوافق عليها وعلى مشاركته على العمل قدر ما يستطيع ضمن المجلس المنشود، ولم يقل مطلقاً لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر أنه ينتظر حكومة وطنيه لتحقيقها!
ليس هذا فقط ،بل إنه لبي دعوة لحضور اجتماع حول هذا الموضوع الذي كنا جميعاً نحس بخطورته وإن لا أحد له الحق في التسرع بتحقيقه قبل الوصول إلى أكبر توافق ممكن بين المثقفين ،وقد كان مقرراً أن يعقد الاجتماع في قصر المؤتمرات، لكنه لم يتم لأن الحضور ومن بينهم فاضل ثامر كان قليلاً، وذلك لصعوبة الإجراءات الأمنية في الدخول والخروج من المنطقة الخضراء كما هو معروف! وقد زرت كردستان في تلك الأيام (منتصف تموز 2003) منتدباً من مجلس إعادة الإعمار وكان من ضمن أهداف هذه الزيارة المتعلقة بالوضع الثقافي في كردستان هو الوقوف على رأي الاخوة المثقفين في كردستان حول تشكيل هذا المجلس، وقد تحدثت حوله مع كثيرين من بينهم وزيري الثقافة في أربيل والسليمانية ، كما تعمقت في نقاشه أكثر مع الشاعرين الصديقين شيركو بيكس ورفيق صابر، فلم أجد لديهما رغبه في تحقيقه، لكنهما لم يقولا إنهما لا يريدان قيامه لأن ثمة احتلالاً في العراق، بل قالا إنهما يفضلان التريث حوله!
وحين صرفنا النظر عن فكرة تشكيل المجلس نظراً لتفاقم تدهور الأوضاع الأمنية وانشغلنا بالعمل في لجنة وطنية كبيرة لمكافحة الإرهاب والفساد انبثقت أيضاً عن مجلس إعادة الإعمار وترأسها العميد توفيق الياسري زميلنا في المجلس، كان فاضل ثامر يحضر معنا اجتماعات هذه اللجنة في فندق فلسطين، ويدلي بمساهماته واقتراحاته ممثلاً لاتحاد الأدباء! ولم يكن هناك ثمة حديث عمن هو وطني ومن هو يعمل مع الاحتلال، أو مع بول بريمر، كان همنا جميعاً جراح الوطن ورائدنا اسعافه والخروج به من محنته وإعادة بنائه!
من أين جاء الصديق فاضل بهذا الكلام؟ولماذا يطرحه الآن بهذا الشكل؟ أتمنى أن لا تكون ذاكرته قد ضعفت إلى هذا الحد، وأن يكون على الدوام بصحة وعافية!
وإذا رجعنا لمقالته نفسها فهو يقول (كان لي شرف طرح هذه الفكرة بعد سقوط النظام مباشرة) ترى من كان يخاطب الصديق فاضل بمقالته التي كان له فيها شرف طرح مشروعه؟ وهو يعرف أن ليس في البلد غير سلطات احتلال وغير الدبابات الأمريكية تجوب الشوارع. هل كان يتوقع مثلاً أن هكذا أمر يمكن تحقيقه فقط داخل مقهى الشابندر التي كنا نلتقي فيها أنا وإياه وغيرنا من الزملاء الأدباء؟ وهو الذي يقول إنه ينتظر حكومة وطنية لاحتضانها، ويقول في موضع أخر في مقالته إن هكذا مجلس يقتضي إمكانات دولة وصندوق يتغذى من موارد البلاد! ثم يقول: (وعندما تشكلت هذه الحكومة المؤقتة التي اختارها السفير بريمر آنذاك تفاءلنا خيراً لمستقبل الثقافة العراقية)
وهذا منطق غريب جداً يمكن أن نقبله من كاتب مبتدئ لا من كاتب كبير وعريق ورئيس لاتحاد الأدباء في العراق. هل الاحتلال قد تبخر بمجرد أن انتقل العمل الثقافي في وزارة الثقافة من مستشار إلى وزير وكلاهما عينهما بول بريمر؟ أو أن الاحتلال قد زال بمجرد رحيل بول بريمر؟ يا صديقي فاضل لا يخفى عليك: الاحتلال قائم حتى اليوم بغض النظر عن التسميات وقرارات الأمم المتحدة ،وأعتقد أن الحقائق الساطعة والملتهبة جعلت حتى النعامة في العراق أذكى من أن تدفن رأسها في الرمال، وإنما تواجه الأفق المشتعل!
لذا فإن الأجدى أن نتعامل بالحقائق ولا نتحسس أو نصاب بالرهاب من مقاربة موضوعة الوطنية فنرتبك أو نتشوش ،ونحاول أن نلقي من قارب كنا فيه معاً هذا في المستنقع، وذاك بين زنابق الجنة! لا نحاول القول أننا لم نعمل في عهد احتلال ونعمل اليوم في عهد الوطنية والسيادة والاستقلال! الكلام المقنع أن نقول: إننا كنا وما زلنا نعرف أن هناك احتلالاً مباشراً بدأ في 9 نيسان 2003( عهد صدام احتلال آخر ) وما يزال وإننا قاربناه وحاورناه وعملنا معه سواء بسرور أو على مضض، وكل ذلك قد تم بوعي منا ووضوح وإرادة، وكان هدفنا خدمة وطننا وشعبنا وليس الاحتلال،وإننا إذ نرفض احتلال بلدنا، نعتقد أيضاً أن قوتنا غير متكافئة معه، لذا فإننا سنعمل على إزالته بالعمل السياسي الناضج والفعال وبالحكمة والمنطق والقوانين الإنسانية الني هي لصالحنا، لا بالهاونات والمفخخات التي تقتل شعبنا، وبقوة الثقافة التي كنا نعمل معاً على إعادة بنائها بعد أن خربها الحكم الاستبدادي، وجعلها هشة رخوة زائفة ساعدت وسهلت احتلال العراق،لذا يا صديقي فاضل ثامر إن الذين عملوا على صياغة ثقافة الدكتاتورية وتلقوا عليها الجوائز هم العبيد الذين عملوا مع الاحتلال ولكن مسبقاً طبعاً أو بأثر رجعي أو مستقبلي ،وإن الذين جاءوا لا حقاً كانوا أحراراً يحولون تدارك ما صنعت أيدي دعاة الوطنية من خراب ودمار واحتلال جديد!
من هذا يمكن القول إذا كان ثمة شخص يعتقد أن عمله مع الأمريكيين هو ليس من أجل خلاص وطنه، وإنما هو خيانة له ثم يستمر في العمل ويتستر عليه ويخجل منه فإنه يكون قد ارتكب خيانته أو إنه كان مستعداً لارتكابها!
وإذا كان ثمة شخص يعمل مع الأمريكيين حتى برضى أو على مضض وهو مقتنع بأنه لا يخون وطنه بذلك وإنما يعمل من أجله فإنه سيبقى متطابقاً مع ضميره وعقله واثقاً من نفسه لا يخشى شيئاً، ولا يتستر على شيء، على العكس هو نفسه يعلم الناس بعمله، فمن شاء قبله، ومن شاء رفضه، متفهما في كلا الحالتين عقول الناس، ودرجة استيعابهم، وبعد أو قصر نظرهم، ودون أحقاد أو ضغائن!
لم يكن مجلس إعادة الإعمار في العراق جهة احتلال، على العكس كان جهة تحرير، ولكن بالعقل والعمل والبناء والحوار وليس بالكمائن وأحزمة الإنتحاريين وسكاكين الذبح. لقد ضم هذا المجلس صفوة من المثقفين والخبراء العراقيين، لم يسألوا في تلاقيهم وتجمعهم من منافيهم في مختلف دول العالم من منهم مسلم أو مسيحي أو مندائي أو أزيدي، ومن هو عربي أو كردي أو شيعي أو سني، رجال ونساء شجعان تركوا عوائلهم وأطفالهم وبيوتهم الآمنة في أجمل مدن الدنيا، وبعضهم ترك رواتب وامتيازات أعلى من التي تقاضاها في المجلس، وجاء ليساهم في بناء وطنه بين الخرائب والدخان، وفي أحلك وأصعب فترة من تاريخه،ولم يظهر ولم لمرة واحدة لدى أعضائه أو رئيسه نزعة محاصصة عرقية أو طائفية.
ورغم ما رافق عمل المجلس من سلبيات ونواقص، وما وضع في طريقه من عقبات وعراقيل، إلا أنه استطاع أن ينجز الكثير مما لو قدر لها أن تتواصل وتتعمق لقصرت من أمد الاحتلال، أو في الأقل لسحبت الكثير من ذرائع وجوده،عكس الحكومات التي أعقبته والتي قامت على أسس طائفية وعرقية والتي خلقت على الأرض أوضاعاً استغلها المخربون والإرهابيون بحجة المقاومة، فجعلوا العراق اليوم في ظرف سيزيد من مدة بقاء الاحتلال ويزيد من قواته، وضرورات وجوده!
لذلك يتذكر الكثيرون أن الأيام التي عمل فيها أعضاء مجلس إعادة الإعمار على تسير أمور الدولة كانت أيام عمل وبناء رغم الصعوبات، وكانت نموذجاً لعمل التكنوقراط وقدرتهم على الإدارة بكل نزاهة ودقة وعدالة! بعيداً عن التميز والعزل والاستئثار القومي أو الطائفيzwj;zwj;. ولو كان المجلس يتمتع بصلاحيات للعمل لقدم الكثير، إذ إنه في الواقع وعكس ما يتصور البعض لم يكن مدللاً من الأمريكيين، أو أداة طيعة بيدهم، بل كان مكبلاً وعليه أن يقاوم بطريقته السلمية الخاصة، وكثير من المشاريع التي أنجزها وحصل على تمويل لها كانت أشبه بعملية انتزاع سمكة من فم تمساح!
ولعلك تذكر يا صديقي فاضل أنك عندما كنت تعمل معنا في لجنة لوضع برنامج عمل لوزارة الثقافة بعد أن صار الأخ مفيد الجزائري وزيراً لها، كيف أخذت الوزارة تعمل بنشاط وأمل بالمستقبل، فقدمت ما استطاعت من منجزات وإعمال هي مهما كانت الانتقادات عليها لا تقارن بعملها اليوم، حيث يقودها إمام جامع وهابي لم نسمع منه كلمة واحدة ضد القاعدة وجرائمها القذرة، ويساعده فيها وكيل عمله الرسمي الجهاد والصلاة لإخراج المواكب الحسينية من ديوانها، وكل مفهومه للثقافة أنها بكائيات عاشوراءzwj;. كيف لا يطول أمد الاحتلال؟ بل كيف لا يتحول على أيديهم إلى ضرورة حضارية؟؟؟!!!!
أعتقد يا صديقي إن من يقدم عملاً مادياً أو معنوياً ثقافياً أو سياسياً في ظروف كظروف بلادنا اليوم عليه أن لا يتنصل منه ما دام كان مقتنعاً به، بل يتحدث عنه إذا ما دعت الحاجة ويثق بنواياه الحسنة وتقديراته الفكرية والفلسفية التي جعلته يقوم به. أما أن الأمور قد آلت إلى ما هي عليه الآن، فهذا ليس ذنبه وحده، أو بشكل أدق هو لا يتحمل ذلك الحجم من الذنب الذي يريد البعض أن يلقيه عليه! خاصة إذا عرفنا أن الأمر فوق طاقته، وإن ثمة قوى داخلية وخارجية باغية وعاتية ومعروفة جيداً وراء ما يحدث، والمهم إنه قدم كلمته وموقفه مقروناً بالعمل وفي ظرف كان من الممكن في كل ساعة بل في كل دقيقة أن يفقد فيه حياته! وأعتقد إن على المثقف أن لا يفخر بعمله لوطنه (في ظرف احتلال أو أي ظرف معقد آخر ) فقط إذا تحققت انتصارات أو نجح مشروع التغيير و البناء الذي راهن عليه، إنما عليه أن يفصح عن عمله ولا ينكره في فترة الانتكاس أو الهزيمة أيضاً. فهو مشروع فكر وضمير وتقدير وراءه الإخلاص وحسن النية، وليس مشروع تجارة أو شركة مساهمة بحصص الطوائف أو القوميات أو دماء الشهداء كما يمارسها البعض ممن هم داخل العملية السياسية الآن وخارج التاريخ، اليوم وغداً!
لذلك ينظر الكثيرون بتقدير كبير لعملك رئيساً لاتحاد الأدباء وعمل الزملاء معك في هذا الظرف القاسي جداً الزاخر بأعنف العقد السياسية والثقافية التي مر بها الوطن في تاريخه الحديث،ويحسون بتقصير هائل إزاء مئات المثقفين والمبدعين والصحفيين والفنانين الذين استشهدوا أو يستشهدون على الدوام!
لذ لا ينبغي لك أن تتصور أن عملك قد أضحى شرعياً بمجرد رحيل بول بريمر أو بقيام حكومة منتخبة أفسدتها الطائفية والعرقية للأسف الشديد. إن عملك استمد شرعيته من إيمانك أنك عملت وتعمل من أجل العراق وأهله الطيبين المعذبين، وإنك والزملاء في الاتحاد تتصدون للاحتلال وتعملون لجلائه بقوة الكلمة وسطوة الثقافة وصلابة المنطق، وأنتم تقودون القوة المعنوية المؤثرة في النضال الحضاري الذي هو وليس غيره من سيخرج المحتلين ويساهم في إعادة بناء العراق على أسس جديدة. ومهما ادلهمت الأجواء فسيبقى أملنا بانتصار العراق كبيراً وفعالاً. أتمنى أن تجد ملاحظاتي لديك تفهماً، وأتمنى لك وللزملاء الآخرين النجاح في مساعيكم لتشكيل مجلس أعلى للثقافة، أو أية صيغة أخرى ترونها مناسبة، وتساعد على ازدهار ثقافة العراق!