أقام النحات العراقي سليم عبد الله خمسة تماثيل ضخمة في مدينة (كياسو) السويسرية لقيت ترحيباً لدى كثير من الأوساط الرسمية والثقافية والشعبية، واليوم يشن اليمينيون حملة لرفعها وقد أغضبهم أن فناناً مهاجراً تصير أعماله معلماً حضارياً وسياحياً في بلدهم المحافظ!

أذكر يا صديقي إنك كنت شاباً نحيلاً يافعاً حين هممت على السفر البعيد الطويل. وحين أزفت لحظة الرحيل الأكثر طولاً من الطريق كله، وجدت أمك قد أحضرت لك ثلاث حقائب كبيرة. لم تستطع دموعها المتلألئة كحبات الندى على وردة مقطوعة أن تجعلك تأخذ حقيبة واحدة من تلك الحقائب التي أودعت فيها كل ما اعتقدت أنها ستجعل الغربة كأساً من الحليب الدافئ في صباح بارد مشمس عذب!
أبقيت على حقيبتك الصغيرة التي لا تكاد تحوي منامتك وعدة الحلاقة ودفتر تخطيطات ودمعة واحدة من دموع أمك ملفوفة في منديل اعتقدت يومها أنها هي وحدها البلورة السحرية التي سترى من خلالها زوايا العالم كله!
وبينما كنت تغادر بلادك التي قد لا تراها ثانية أفلحت في إبقاء عينيك جافتين صافيتين رغم حرقتهما ورحت تختلس النظر من نافذة السيارة محاذراً أن تقع عليك عينا مخبر! تحولت فجأة إلى أجمل لص في العالم! أخفيت في حقيبتك الصغيرة أبواب بغداد، والثور المجنح، وساعة القشلة، ونصب الحرية، وجنائن بابل المعلقة بنخيلها وورودها وطيورها وأسماكها المتقافزة كشرر نار العشق، وشباك الكاظم، وباب مشرب كاردينيا الذي يعرف زجاجه عدد الأمواج التي مرت أمامه بدجلة، وعدد العشاق الفاشلين السكارى الذين تاهوا من عتباته في دروب الدنيا! يالك من طيف ظريف طماع لا يشبع من عب الخمور المعتقة في سراديب عذراوات المعبد اللواتي تعلمن العهر على يد الكهنة وعلمنه للحاكمين دماً وصرخات وندماً، وللشعراء والفنانين قداسة وبراءة وجنوناً، ولجداتنا حزناً وخفراً وبطوناً تحبل وتلد أمام فوهات القبور! لقد كانت الأشياء ليلة خروجك في ذلك الغروب حمائم تلوذ بشواهد القبور، وأنت بينهما رسول الأموات للأموات! ها قد مرت ثلاثون عاماً كانت أطول من صحراء العرب، وأقصر من شعر امرأة عربية عارية!

ترى كيف أغويت مرة أخرى مدينة سويسرية كاملة وخبأتها في حق كحل؟
ثم كيف نشرتها ثانية كما تنشر امرأة حمرة الشفاه والخدود وسهام الأهداب القاتلة ووزعتها على مدرجات الجنائن؟ كيف يا صديقي أخرجت هؤلاء العمالقة الخمسة من حقيبتك الصغيرة وأوقفتهم عند أبواب مدينة غريبة باردة؟ بل كيف أجريت الدورة الدموية في عروق هذه التماثيل وكيف جعلت أنفاسها شيحاً وخزامى وكافوراً؟ وكلما ألقوا خطوة في الطرق المغرية أوقفتهم بنظرة من عينيك الحزينتين! من يصدق أن عينيك الذابلتين تأسران عمالقة، وبلمحة منهما يتجمد الدم في عروقهم البرونزية وتلهث أنفاسهم ويتوقفون خاشعين متوسلين؟ لم أعد أستغرب ألاعيبك الساحرة! أيام صبانا بين الشواطئ والبساتين، كنا نبرع في اصطياد العصافير والطيور المهاجرة وكنت تبرع في إطلاقها من أيدينا دون أن تجعلنا نغضب منك، بل كنا نتحلق حولك ننظر كيف حولت رملة الشاطئ إلى مدن وقلاع وحوريات شبقات وآلهة صرعى! وحين تلتهب أجسادنا يعود كل شي بضربة منك إلى رمل وريح!

لقد ظلت الحياة معنا هكذا على الدوام! لكنك منحت العمالقة ينابيع وضروعاً مكتنزة يستطيع من يشاء أن يحتسى منها عسلاً أو خمراً وينتشي ويرى بأم عينيه تفاصيل كل ما حوت حقيبتك الصغيرة التي خرجت بها، بينما أنت نسيت محتويات تلك الحقيبة! أنت محق، من لا ينسى لا يبدع! لكن هيهات لك أن تنسى بلورة الأم السحرية الملفوفة في المنديل، لقد أضفت لها دموع نساء كثيرات، وبالطبع الكثير من دموعك أيضاً!
اليمينيون محرجون محاصرون بعمالقتك العادلة الحالمة الفاتنة! اليمينيون يذوون حين يرون الناس يعبون من عيونها نبيذهم اليومي ويراقصون شوارعهم النشوانة الثملة ولا يكترثون لصيحاتهم الحادة المدببة الشبيهة بسكاكين الإرهابيين في بلداننا!
ليال طويلة والعمالقة الخمسة ينتظرون إشارة منك ليتجولوا مع الناس في هذه المدينة الجميلة دون جدوى. حتى وأنت نائم لا يجرؤ العمالقة على التحرك خطوة واحدة دون أن تمنحهم أحلامك ثياباً وأجنحة. في الليل فقط يتجول العمالقة في مدينتهم وفي كل مدن العالم ويعودون عند الفجر إلى قواعدهم سالمين! بينما تكون أنت قد قضيت الليل تلقي شباكك تصطاد أحلاماً للبلاد النازفة القصية. كل ليلة تلف شباك صيدك بثياب حبيبتك وترحلان معاً في قارب وحيد بين الأمواج العاتية! حتى حبيبتك اعتادت أن تسمع روحك تختنق بفورات الدم الهادرة في بغداد فتقوم هي بلي المجذاف لشاطئ آخر. في اليوم التالي تتلمس عمالقة البرونز كأنك لست خالقهم. ربما تريد أن تتأكد أنهم ليسوا عمالقة الحديد التي طاردتنا! عمالقتك شيء آخر. أكثر حياة ولديها إحساس وذوق. والأهم أنهم أبرياء من نزوات وضلالات البشر! لقد أوقفت عمالقتك هناك وهنا بقوة روحك لا بقوة الجاذبية الأرضية! ربما ستطلق سراحهم ذات يوم فأنت لا تطيق اعتقال أحد حتى ولو كان برونزياً شديد الاحتمال. بالتأكيد إنهم سيبحثون عن أشقاء لهم في بقاع مختلفة من العالم بين الوديان السحيقة أو فوق الجبال الشاهقة. هناك سيلتقون بشقيقهم الجواهري، العملاق القلق، الذي طرح كل جلوده التي تقلب بينها وارتدى جلده الأخير الذي صنعته له أنت من البرونز. ورغم إنه شطر على جبلين متباعدين في كردستان عاد وشطر روحه مرة أخرى لتقف عند بوابة مقبرة وادي السلام تستقبل جموع الموتى المتقاطرين وحشود الناهضين من أجداثهم! وكلما استيقظ قلقه المزمن وانتفضت روحه تريد العودة لجلده البشري هبت يداك التي عجنت برونز جسده الجديد إليه بكأس من العرق وأبياتٍ من البحتري تنعشه فيحلق بجناحين من حديد وصخر يجوب حدائق الأعالي وحين يضجر من رصانة الملائكة يحط على قاعدته كصقر خبير! أنت وحدك أقنعت الجواهري محترف المنافي بالإقامة في مكان واحد! وبجسده البرونزي الخالي من جراحات الأعداء والأصدقاء وجراحاته لنفسه! في لحظة ما قد لا يحتمل العمالقة البرونزيون دسائس الرجال الجشعين الخاضعين لغرائزهم متجاهلين آلام الناس وإشارة التاريخ! آنذاك سيشدون الرحال عائدين إلى المنافي جاذبين خلفهم قوافل من الأحياء بأجسادهم الهشة المعذبة! قد يلتحق بهم الرجال البرونزيون الآخرون :المتنبي وأبو نؤاس والرصافي والسياب وكل من استحال روحاً من نور وجسداً من حديد!
ولكن هذا خطير جداً إذ ستبقى البلاد لمن حرف طريقها، وأضاع عليها فرص الزمان، ونهب خزائنها، وجعلها قفصاً هائلاً للغربان السود المتكاثرة والتي لا تعيش إلا على الدماء والبكاء! لذلك لا نستبعد أن تنهض قهرمانة من ساحتها في الكرادة الشرقية، بجسدها البرونزي الذي يضج شهوة وحكمة لتغلي زيتها وتسكبه على رؤوس الحرامية الجدد الذين خرجوا من خوابي الخل واختبأوا في الصوامع والجوامع ومقرات الأحزاب. آنذاك سيعود الراحلون والعماقة البرونزيون، ويعود كل شيء كما أردته في الحلم الذي غادرت من أجله بغداد فتركت الأم تموت وحيدة في حسرة رؤياك. نعم لا شك عندي ستعود بغداد لأهلها الطيبين الأوفياء لمائها وتمرها وكتبها ,وأغانيها ونجومها! وسيتطاير الغربان والخفافيش بعيداً حيث كهوفهم وعصورهم المظلمة. من قال إن العمالقة البرونزيين لا يجترحون المعجزات؟ إذا لماذا يخافهم اليمينيون والإرهابيون والظلاميون والفاسدون؟ كم مرة فجروهم؟ وكم مرة قتلوا مبدعيهم؟ نعم يا صديقي البرد قاس، والحر أقسى، الحر يذيبنا، والبرد يفتتنا، أنت على صواب. الوطن يقتضي ضمائر من ذهب الروح، والمنافي تقتضي أجساداً من برونز النيازك!