بعد سقوط سلطة صدام التقيت في بغداد برجل كان كلما سمع تفجيراًً يدوي ويرج مقاعدنا في الفندق أو مكان العمل ويرى الدخان يتصاعد من أمكنة كثيرة في آن واحد أو تطالعه أنباء الفجائع والكوارث في أنحاء العراق أو حين يرى أو يسمع عن صفقات الرشاوى والاختلاسات وأرقامها الخيالية يقول:
ـ غير معقول، هذه فقط حلقة من الكامرة الخفية! نعم حلقة سيئة سمجة من إنتاج وإخراج المستر بوش!
ثم يمضي للقول:
ـ لو أسندوا الأمر لهوليود لخرج الفلم أكثر اتقاناً!
بالطبع كنت آخذ كلامه على محمل الجد من زاوية واحدة فقط وهي أن الإنسان حين يبلغ به الألم حداً فظيعاً ورهيباً يلجأ إلى الوهم ويروح يطمس الحقيقة في زاوية ما من عقله، وقبله قال المتنبي: (طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب)
وفي أحاديثي وبحثي معه ومع غيره وجدت أن كثيراً من العراقيين ما كانوا ليحتملوا فظائع وكوابيس عهد صدام لولا تصورات وهمية نفسوا عنها بنكاتهم وأخيلتهم الفنتازية وتنظيراتهم العجيبة. وتلك واحدة من مرونة وتكيف النفس البشرية وليس العراقية فقط!
لا أدري إن كان هذا الرجل الظريف الطيب ما يزال يعتقد أن ما يجري في العراق هو مجرد حلقة سيئة الإنتاج والإخراج من كامرة بوش الخفية! لكن هذا اليوم ألح علي خاطر غريب! ماذا لو تبينا حقاً أن كل ما جرى ويجري في العراق هو مجرد حلقة مثيرة في البرنامج الشهير (الكامرة الخفية) التي تكثر منه الفضائيات العربية بكل سماجته وابتذاله؟ كيف سيكون موقف هؤلاء الذين يصولون ويجولون الآن مرتبين أوضاع الحكم لهم وحدهم متبجحين مدعين بأنهم هم الذين حرروا العراق وأعادوه لركب التاريخ ناسين أن المستر بوش يمكن أن يخرج لهم كامرته المخفية في زاوية ويقول لهم مقهقهاً:
ـ الآن كل شيء سيعود كما كان، ويمكنكم أن تعودوا من حيث جئتم!
ثم يربت على كتف صدام في حجرته في السجن حيث يأكل الموز الصومالي ويدخن السيجار الكوبي قائلاً:
ـ أعترف لك أنني كنت فظاً معك لكن الحلقة كانت مفيدة. إنها بروفة ناجحة ستمكنك من دحر أية محاولة حقيقية للإطاحة بك!
آنذاك سيقهقه صدام ببلاهته المعهودة ويعانق بوش بحرارة قائلاً:
ـ لا يهمك، البيت بيتك يا رجل تستطيع أن تخرج عندنا أي فيلم تشاء وستجدني كما كنت دوماً في خدمة أمريكا!
ويغمد سيفه في حزامه ويعود لمشيته العنترية. وحيث أن ولديه وحفيده المقتولين هم كل ما يهمه من قتلى العراق الذين بلا عدد فإنه سينساهم مع كل الإهانات والإذلال الذي لحق به مادام سيعود للسلطة والنوم كل ليلة في مكان سري وممارسة هوايته المفضلة في قطع رؤوس العراقيين ليبني بها أمجاده وأمجاد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج!
ثم يلتفت بوش للقادة العراقيين قائلاً:
ـ يؤسفني أن أقول لكم إن أداءكم كان سيئاً جداً. لقد تسببتم في خسارتي كل أموالي بل وحتى سمعتي!
لقد أجهدت نفسي وخنت الأمانة السينمائية وحذفت المشاهد التي تظهر بعضكم متهالكاً على السلطة ناسياً كل الشعارات والوعود التي أطلقها في فترة المعارضة، وبعضكم الآخر متهالكاً على المال فراح يسرق ويختلس ويرتشي بشراهة لا نظير لها في العالم.، ولكني سأضطر لعرضها في كل تلفزيونات المعمورة، لم أعد أحتمل المظاهرات التي تصفني بالمتاجر على حساب الحقيقة!
ويضيف بصوت أكثر حدة مثبتاً نظراته على قادة محددين:
ـ لقد كانت بروفة لحساب البيت الأبيض لمعرفة إن كان يستطيع تحرير العراق وإيران وجعلهما واحتين للديمقراطية والنور لكن لقطات كامرتي التي لا تخطئ تظهركم وأنتم تعملون على جعل العراق توأماً مشوهاً لإيران ينفث معها الظلام والموت على المنطقة والعالم. وهذا ما لن يقبل به حتى مخرج تلفزيوني مبتدئ!
ثم يواجه بغضب جمعاً من الرجال بالعقل والكوفيات البيض وبعضهم بالأقنعة السود كالخفافيش قائلاً:
ـ أما أنتم فحكايتكم مريرة جداً!لا يشفع لكم أنكم كنتم في عزلة ريف وبداوة فارتجفتم هلعاً من كل من يطرق باب العراق ويدعوه للتواصل مع العالم!لقد استثمر الآخرون تمسككم بتوحشكم فجعلوا منكم متاريس لحدودهم وأنياباً لشهواتهم واعتقدتم أن الوطنية هي في تفجير السيارات بين الناس وفي الأسواق وعلى أبواب المدارس والمساجد. لقد قتلتم عشرات آلاف الأبرياء لتقتلوا البعض من حراسنا ودون أن تقفوا يوماً وتراجعوا ضمائركم!وها نحن نخرج فقط لأننا انتهينا من إنجاز مهمتنا وليس خوفاً منكم!للأسف لقد سجل عاركم بأشرطة تلفزيونية وسيشاهدها الناس في كل مكان. وأنتم الذين تتحدثون كثيراً عن غسل العار لا أدري كيف ستغسلون عاركم!
كان جمع من قادة الكرد يقفون قربه واجمين قلقين فسيتركهم بوش ويرحل بعيداً مع حرسه وطاقمه التلفزيوني ويبقون وحدهم قبالة صدام. لقد كانت تجربتهم معه مريعة عندما هزم في الكويت وأبقاه بوش الأب في قصره وها هو بوش الأبن يقول لهم:
ـ يبدو إن قصور السلطة أنستكم شعارات الجبال!كامرتنا الخفية صورتكم في مشاهد عديدة وأنتم منهمكون في الحصول على أكبر قدر من مزايا الانفصال عن العراق ومزايا العيش ضمنه، لقد نسيتم حقيقة كبيرة وهي أن إضعاف العراق هو إضعاف لكردستان كما أن إضعاف كردستان هو إضعاف للعراق!
وبينا كان بوش يجمع طاقمه الفني وكامراته وأشرطته كان ثمة أحزاب قدمت من وراء الحدود الشرقية والغربية ومن معسكرات اللجوء الحارة والباردة أخذت تشد الرحال هي الأخرى وقد تخلى عنها الكثير من أعضائها وضباطها وأفراد عصاباتها الذين كان كثير منهم من فدائيي صدام وشرطته السرية وجلادي أقبية الأمن العامة وراحوا يتراكضون باتجاه دوائرهم السابقة مخرجين صور صدام التي كانت مجفورة تحت الأرض هاتفين بشعارهم المشروخ: بالروح بالدم نفديك يا صدام!
بينما البعض الآخر يوضب حقائبه المنتفخة للسفر. فهم على كل حال قد ربحوا ولم يخسروا شيئاً، كان الخاسر الأكبر أولئك الأمهات والرجال العاديون في العراق وأميركا الذين ثكلوا أبناءهم وأحبتهم. بالطبع هم سيبكون كثيراً ولا يجدي أن يلعنوا الفضائيات والكامرات الخفية والعلنية كلها!
ولكن الناس في العراق سينسون موتاهم وفجائعهم الأخرى إذ يجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع صدام وعصاباته التي راحت تتكون من جديد وبسرعة الجراثيم وتحصد من رؤوس العراقيين أكثر من السيارات المفخخة وتقطع الماء والكهرباء بحجة جديدة هذه المرة: تنظيف وتوضيب السجون لاستضافة العراقيين كلهم على حساب صدام وتحت شرعية الأمم المتحدة! آنذاك ستبكي النساء والرجال من جديد، بل ستشل أعصابهم وعقولهم!فما دام الأبناء لن يعودوا على كل حال فمن أجل من تبقى سيتمنون لو أن ما جرى كان حقيقة وليس مجرد حلقة من هذه التي يسمونها الكامرة الخفية! وسيلعنون هذه الخصلة التي توارثها العراقيون منذ أزمان سحيقة مثقلة بالنكبات وحروب الآخرين على أرضهم وحيث يزهدون ويسخرون ويضحكون مما في أيديهم ولكنهم ما أن يفقدوه حتى يبكوا عليه حسرة وندماً!
ظل بوش ولوقت طويل يواجه عواصف من النقاد التلفزيونين والسينمائيين ضد كامرته الخفية حيث وصفوها بالوحشية والحالكة السواد لكنه كان يرد عليهم:
ـ أنها على كل حال أقل وحشية وقسوة من حلقات الكامرة الخفية العربية والإسلامية والتي تعرضها الفضائيات كل يوم خاصة في رمضان!