تتحدث بعض الأنباء أو الاجتهادات والتكهنات أن ثلثي سكان ثلاث محافظات أكثريتها سنية (الأنبار وصلاح الدين ونينوى) قد صوتوا ب(لا) على مسودة الدستور في الاستفتاء الذي جرى عليها السبت الماضي. قد لا يكون ذلك صحيحاً وهو ما أتمناه(رغم عدم قناعتي بهذه المسودة التي جاءت أغلب موادها منصاعة للابتزاز والإرهاب الدينين وطافحة بإصرار على التخلف ، وبالتعصب،ومستند أمنيتي فقط هو أن يتحقق إجماع وطني على وثيقة قابلة للتغير،وكنت سأفرح أشد الفرح لو كان للعلمانيين والتقدميين القوة الفاعلة ليقولوا لا ولا لهذا الدستور القادمة معظم مواده من القرون الوسطى).
لا بد من احترام (لا) والامتثال لها إذا ما ظهرت غالبة، وطي المسودة الحالية والتوجه للانتخابات المقبلة بتفاؤل أشد وتكوين جمعية وطنية جديدة تعد لمقترح دستوري جديد أفضل يحمل القدر الكافي من أنوار هذا الزمان!
(لا)غالبة هي ليست نهاية العملية السياسية المحتدمة في العراق لعامين ونصف، إنها في الحقيقة البداية الصحيحة المطلوبة لها، ولا بد لمخاضها العسير والدموي أن يلد الحكمة أيضاً بعد أن أنجب الكثير من الجنون والدم والمقعدين والمشوهين!
من الواضح لكل مراقب موضوعي أن سكان هذه المحافظات الثلاث مظلومون ومختطفون ومنذ أمد طويل وقبل سقوط صدام وهم اليوم أو في غالبيتهم مختطفون من فلول البعث وشراذم مخابراته المتخفين خلف الزرقاوي وعصابته القذرة الذين لا يريدون أن يدركوا أن قوانينهم القرقوشية و زمانهم التعيس قد ولى وانقضى إلى الأبد!(من الغريب أن بعض كتاب المقالات حتى الدكاترة منهم يشتمون الناس المدعوين بالسنة قاطبة دون فرز أو تمحيص).
من الواضح وبنفس القدر أن سكان هذه المحافظات بدأوا يتململون وينتزعون إرادتهم تدريجياً من سطوة مختطفيهم ويشاركون في العملية السياسية مظهرين ندمهم على عدم المشاركة في الانتخابات السابقة عاقدين العزم على المشاركة في الانتخابات المقبلة مما يقتضي تفهم ظروفهم واحتضانهم ومداواة جراحهم وتسهيل مشاركتهم بها كطرف أصيل وكبير ومهما كانت شعاراتهم ومشاريعهم متباينة ومتعارضة ما دامت تجري في أطر العملية السياسية السلمية والشرعية القانونية، وبعيداً عما يسمى الجمع بين الأعمال المسلحة والمناورات السياسية!
ومن لا يزل لم يكمل عملية خروجه من ظلمة الاختطاف والعزل الإرهابي لا يمكن أن نتوقع لعينيه وضوح الرؤية وحسن القراءة والتأويل ثم مشاركة إيجابية (بنعم) أو (لا) واعية غير مفروضة. فماذا تعني الفدرالية وحقوق الإنسان وقضايا المجتمع المدني لأناس لم ينتخبوا يوماً بحرية ولو مختار محلتهم وكانوا ممنوعين من استعمال أجهزة التقاط الفضائيات والانترنيت والتلفون النقال وإذا قيض لأحدهم الحصول على شيء منها فقد توجه له تهمة التجسس والتخابر مع الأجنبي والتي عقوبتها الإعدام!
معظم هؤلاء لم يقرأوا الدستور وإذا قرأوه استعصى عليهم فهم مواده ومصطلحاته أو مصادره والتي جوبهت منذ البدء بحملات التشويه والتحريف من دعاة متمرسين بالكذب والمخاتلة رغم إن المادة الدينية المتصلبة التي صيغت منها معظم مواد الدستور هي كل المخزون الثقافي الذي تحمله هذه الجمهرة من الناس والتي تعميها الأمية بنسب عالية. وقد زاد الأمر تعقيداً ما تحمله المسودة حقاً من فجاجة خاصة في النصوص المتعلقة بالطقوس الدينية المذهبية والديباجة الطائفية الاستفزازية والمقحمة كبثور الجدري على وجه دستور يريد أن يخرج بالبلاد من شرور الطائفية! كما أن الضجة حول الفدرالية لم تثر من أجل الأخذ بها تدريجياً وفي عموم العراق بل طرحت على عجالة مريبة ومرتبطة بمناطق محاذية لإيران حققت فيها (إطلاعات) الإيرانية وعملاؤها فعلاً تواجداً خطيراً يصل حد التبعية السافرة!
ومع ذلك فإن أكثرية من رفض مسودة الدستور من هؤلاء لا يدرون لماذا رفضوه، ربما قال لهم متزعموهم إنه يقسم العراق ،ربما قالوا لهم إنه يخالف تعاليم الإسلام، ربما قالوا لهم إنه سيكرس هيمنة طائفة أخرى عليهم، ربما قالوا لهم إنه يأخذ بعثيين أبرياء بجريرة بعثيين مجرمين، ولكنهم لم يسألوا متزعميهم أو حتى أنفسهم: ألم يكن صدام وقوانينه وسياسته المجنونة هما من قسم العراق وقطع أوصاله وفرط بأرضه وحدوده وسيادته الوطنية وأوصله للاحتلال؟ لماذا تريدوننا أن نعزل بسب البعث مرتين، مرة حين كان يحكم ولم تصب غالبيتنا منه غير الكراهية وموت أبنائنا بحروبه وإرهابه، ومرة حين سقط وفرضتم علينا مهمة إعادته المستحيلة إلى السلطة؟ ثم لو قيض لبعض الجهات السياسية والدينية التي تدعي تمثيلهم كهيئة علماء المسلمين وجماعة أهل العراق كتابة الدستور، هل سيأتون بلائحة أفضل من تلك التي جرى الاستفتاء عليها؟ هل سيكونون بلا نزعة واستعلاء وضيق أفق طائفي؟ هل سيهتمون بتحديث العراق وتطويره حضارياً؟ هل سيكونون أقرب لهموم الناس وتطلعاتهم ولطبيعة العصر وآفاقه؟ كلا بالطبع! فتراثهم السياسي غير بعيد عن تراث البعث إن لم يكن من صلبه كما هو من صلبهم،وتراثهم القانوني والفقهي هو الآخر لا يتعدى المصادر الدينية المغلقة والمتحجرة والتي امتثلت لها مسودة الدستور تماما،بل جاءت آية من آياتها! وكما يقول المثلان الشامي والمصري (هالكعك من هالعجين) (ومفيش حد أحسن من حد)!وبغض النظر عن كل الاعتبارات التي يجب أن تقال فإن المطلوب وبقوة أنه في حالة ظهور النتائج برفض ثلثي سكان ثلاث محافظات سنية أو سنية وشيعية فلا بد من احترامها!
قد تكون النتيجة غلبة (نعم) كما يرجو المتطلعون لمشاركة الجميع في العمل السياسي ولو على وثيقة (عليها الكثير من الرفض والتحفظات) من أجل أن تنساب العملية السياسية سلسة إلى الأمام ودون تفجرات دموية ،وهنا ينبغي الاستعداد لإجراء تعديلات برلمانية عليها ريثما تحدث هزة كبرى تطيح بالعمائم السوداء والبيضاء عن مائدة صياغة الدستور. أما الآن فينبغي الاستعداد الحقيقي ل (لا) وتحاشي أية محاولة مجنونة أو حمقاء للقفز عليها (بنعم) انفعالية. إن أية خطوة مخبولة لطمس (لا) أو المغالطة بشأنها أو التلاعب بالحقائق وتمرير الدستور الحالي ستكون بداية الكارثة وأمامنا التجربة الجزائرية ماثلة وما تزال تنزف دماً بعد حرب أهلية طاحنة معلنة أو غير معلنة!
إن الاعتراف بنتيجة التصويت سلبية كانت أم إيجابية، واستعداد قادة الحكم الحالي لقبول كل ما يترتب عليها من خطوات سياسية بعقل متفتح وضمير نزيه هو الطريق الصحيح لنقل العراق إلى العمل السياسي الصحي والمعافي والمتسم بالنبل والشجاعة!
كما هي ستكون فرصة للعلمانيين والمفكرين الأحرار لأن يستثمروا تعطل شطري العقلية المتخلفة والمهيمنة على مقدرات العراق لطرح مشروع عقلاني حضاري حر نزيه لا يرتضي بأقل من فصل الدين عن الدولة وإبعاد أيادي رجال الدين سنة وشيعة عن أن يقرروا وحدهم مصير البلاد!
كما أن المطلوب وبنفس القدر من القوى والأحزاب التي تمثل بهذا القدر أو ذاك شرائح من السنة أن تمتثل وتقبل ب(نعم) إذا جاءت من المحافظات التي كانت تنتظر منها (لا)، بل وتعتبرها فرصة لتحولها لمزيد من الإيجابية والتفاعل العميق مع العمل السياسي البناء ويمكنها ترك بصماتها عليه بمزيد من الاجتهاد لتفهم ظروفه وآفاقه ومنجزات حضارة تتطور كل يوم! فالفدرالية مثلاً تأخذ بها عشرات وعشرات الدول في العالم فلم تقسم بلدانها أو شعوبها على العكس زادتها لحمة وتماسكاً وقوة وازدهاراً! وسيجربون هم ذلك في حكم مناطقهم بنظام فدرالي ضمن العراق الواحد الموحد! كما سيسجل لهم تاريخ العراق أنهم استطاعوا انتزاع إمكانية النظر في الدستور وتعديله خلال فترة قصيرة وعدم تحويله من قبل البعض إلى وثيقة دينية لا يجوز مسها أو تطويرها!
والأفق واضح! فقمع(لا) بنعم قسرية وبالحديد والنار سيؤدي إلى مزيد من الدماء والصراعات المجنونة التي ستكرس الحرب الأهلية وتؤجج أوارها لا محالة!
بينما الاعتراف بها يعني جذب الناس الحذرين والمتحفظين أو حتى المعادين للعمل السياسي التاريخي طويل الأمد إذ سيشعرون أن كلمتهم لم تذهب سدى وأن مفعولها أقوى من الأربيجي والهاونات والسيارات المفخخة. وخطوة بعد أخرى ويوماً بعد آخر سيفهم هؤلاء وعبر الحياة والممارسة نص ورح دستور جديد مهما تكن عيوبه وقد استعصى عليهم أو (استعصاه) عليهم الإرهابيون أو القادة السياسيون الذين يخوضون غمار العملية السياسية بينما عيونهم على صناديق الديناميت متوهمين أنهم يستطيعون أن يكونوا إرهابيين في الليل وقادة سياسيين في النهار وعلى شاشات التلفزيون فقط!
انتصار (لا) لا يعني انتصار الإرهابيين وحثالات وثفالات البعث. المتنصر هو شعبنا وقيم العهد الجديد إذ أثبتت صدقها ونزاهتها وتوجهها الديمقراطي وتكون قد أسست لأجواء الصدق والثقة بالمستقبل وأن الوعود التي أطلقاها القادة الحاليون والجمعية الوطنية لم يكن رصيدها الهواء فقط . إن احترام (لا) مهما يكلف من جهد ووقت ومال أمر رائع فهو سيكون من أجل (نعم) لدستور أفضل ولكل الهياكل والبناءات القائمة والواعدة، و(لا)أخرى كبرى قد يحتاجها الشعب يوماً على طريق تصفية الاحتلال واستكمال السيادة الوطنية . فمهما تكن فضائل (نعم) ففضائل (لا) كثيرة أيضاً! ف (لا) الرافضين قد تشيع أسلحتهم لمثواها الأخير وتؤسس لسلام ونعم لهم ولشعبهم وللمنطقة كلها!
إن احترام نعم من قبل أهل (لا) واحترام لا من قبل أهل (نعم) يعني أن العراقيين أضحوا قادرين على التمتع بفضائي هاتين الكلمتين اللتين لكل منهما عالم غني لا متناه.وأنهم أضحوا قادرين على استعمالهما حسب حاجتهم وقناعاتهم بعد أن كانوا لا يستطيعون استعمال سوى واحدة منهما وحسب رغبة الحاكم! ومن حقنا اليوم أن نطالب الطرف الأقوى بان يحترم (لا) الطرف الآخر المغتصب والمنهك الجريح ،ويقترب منه لا بصفته منتمياً لمذهب آخر ،وطائفة أخرى بل لكونه جزء أساسي من شعبه ينبغي يكون معه بنفس درجة المواطنة والحقوق للعمل معاً على تغيير خطابهما الطائفي وصياغة خطاب جديد ينسجم ونبض الحياة وروح العصر لبناء عراق جديد المعيار الأساس فيه للحكم وتبوء المناصب هو الكفاءة والنزاهة والاستعداد للعطاء والتضحية من أجل العراقيين والعراق، آنذاك سيسارع الجميع لإلقاء تاريخ التمييز الطائفي والقومي والديني على أكوام نفايات الماضي!