تتحدث الأنباء القادمة من العراق إن السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية قد عهد لنائبه السيد عادل عبد المهدي توقيع أحكام الإعدام بحق ثلاثة إرهابيين (فقط لا غير) ارتكبوا جرائم فظيعة بينما جرائم كل الإرهابيين الكبيرة والصغيرة منها هي فظيعة وقذرة. وقد أعطى السيد الطالباني هذه العهدة أو الوكالة لأنه كما قال كان قد وقع قبل سنوات على نداء عالمي أو إنساني لوقف العمل بعقوبة الإعدام!
بالطبع كل الطيبين في العالم يتمنون لو تختفي عقوبة الإعدام من القوانين الجنائية والسياسية والحياة الإنسانية. ويتمنون أكثر لو تختفي الجرائم والفظاعات التي تستدعيها وتجعلها ضرورة لا مناص منها. ولكن التمنيات والأحلام شيء والواقع المرير الأليم شيء آخر. ولو أن بلداً كان قد ألغى عقوبة الإعدام قبل مائة عام وجرى فيه واحد بالمائة مما يجري في العراق اليوم من جرائم الإرهابيين لأعاد العمل بعقوبة الإعدام،وطبقها بهمة ونشاط وحزم. إذ تكون المعادلة إن الخلاص من رجل ثبت عليه جرمه بصورة قانونية أفضل إنسانياً من تركه ليقتل (هو أو غيره) عشرات الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال!
لا يمكن أن يقبل عذر السيد الطالباني إلا في حالة إنه ما زال محامياً أو مثقفاً مستقلاً دون مهمات أو مسئوليات عامة وله الحق أن يتصرف باسمه ومواقفه كيف يشاء. أما أن يكون رئيساً للعراق وفي هذه المرحلة الخطيرة والحرجة فإن الأمر يأخذ منحى آخر ويطرح قضية جوهرية تعكس عقلية الذين يحكمون بلادنا في هذه الأيام العصيبة!
فحتى إذا تجاوزنا إيحاءاتها التي تصور السيد الطالباني أنه قد بلغ من التحضر الإنساني والرقة ما يجعله يترفع أو يستنكف عن توقيع أحكام بشعة بقطع الرؤوس لذلك فقد عهد بها لرجل فظ غليظ القلب غارق في محليته بعيداً عن المواثيق الإنسانية (وهذه بالطبع ليست خصال السيد عادل عبد المهدي،وليست نوايا الطالباني) وحتى إذا تجاوزنا الإشارة الخاطئة أو الصحيحة التي ترسلها للإرهابيين من فلول البعث ومخابراته ومسانديهم السوريين والإيرانيين والمبرقعين بالزرقاوي فإن ما يتبقى هو أخطر من ذلك بكثير. إنها تطرح وبقوة مسألة قانونية وأخلاقية تتلخص بالسؤال التالي: هل يخضع الرجل لضرورات المسئوليات التي تصدى لحملها أم يخضع تلك المسئوليات لمزاجه وقناعاته الفكرية والأخلاقية؟
هناك بالطبع أسس وقواعد متعارف عليها لكل وظيفة عامة خاصة الوظائف القيادية العليا وهي محددة وواضحة،ومشروحة في كتب علم السياسة وفقه القانون الإداري أو شائعة في الأعراف والعادات العامة. وإذا كانت في مجتمعاتنا الشرقية غائرة غائبة مغيبة ككل القضايا الحيوية الأخرى فهي في المجتمعات الديمقراطية واضحة ومفهومة أكثر ويتمسك بها الناس كمقدسات بديلة عن المقدسات الغيبية! وخرقها يشكل فضيحة تتطلب الاستقالة أو الإقالة والمحاكمة.
هي ببساطة تقول : إن المسئول سواء أكان رئيساً أو زيراً أو مديراً عاما فما دون ما هو إلا خادم لشعبه عبر وظيفته ينفذ إرادته وفكره وحاجاته وأهدافه وقراراته وأحكامه الشرعية وإن كان له أن يبدع في منصبه ويضفي عليه لمساته الخاصة فله ذلك شرط أن لا يخل بضرورات وظيفته أو يفرط بشرفها أو بدورها وزخمها وفاعليتها. وهاهي تجارب التاريخ تثبت أن كل من لوى عنق وظيفته ومنصبه لمزاجه أو لتفكيره الخاص مرة استمر في ليها مرات ومرات حتى انتهى إلى أن يكون دكتاتوراً أو متسلطاً مغلق العقل والقلب لا يصغي إلا لصوت نفسه وقناعاته الخاصة التي يكون قد كونها في وقت سابق لتوليه المسئولية!
وإن المجتمع يبدأ أولى خطوات الخنوع،وتقبل سلطة الحاكم المستبد حين يسكت أو تسكت طلائعه السياسية أو مثقفوه عن أول خرق يقوم به الحاكم أو الرئيس لضرورات وقواعد منصبه
أو وظيفته العامة.
لقد استبشرت خيراً بتولي الطالباني رئاسة البلاد وقلت إن اسمه مشتق من الطلبة والدرس بينما اسم صدام يعني في لغة العرب : حمار في رأسه لوثة،يصدم الجدران في سيره!
وإن أفضل مدرسة يتعلم بها شعبنا التلاحم الوطني هي أن يتولى وبشكل حقيقي لا شكلي قيادة البلاد رجال من أعراق وأديان متنوعة،وكم كنت أتمنى لو كان الكرد قد رشحوا وأوصلوا لرئاسة كردستان رجلاً أو امرأة من التركمان أو الكلدوآشوريين،آنذاك كانوا قد ركلوا كل بقايا الشوفينية الكردية ونفسوا الكثير من الاحتقانات القومية وفتحوا آفاقاُ للتصافي والتفاهم داخلياً ودولياً!
إن أهم شرط ينبغي أن يلتزم به رئيس العراق أو كردستان هو أن ينسى وحال توليه منصبه إنه كردي أو عربي أو تركماني أو كلدوآشوري وأن يتمثل الروح العراقية ويقف من العراقيين كافة على مسافة واحدة ويعاملهم بنفس القدر من الحب ويحكم بينهم بالقانون والعدل!
ترى هل تجرد السيد الطالباني من أفكاره المسبقة أو نزعاته الخاصة التي كونها حين كان قائداً لمليشيا مقاتلة في الجبال لسنوات طويلة ولحزب سياسي قومي واجتماعي بحدود معينة(وإن ارتبط بعلاقات معينة مع الاشتراكية الدولية) واندمج في جو وظيفته العامة العليا؟
رغم إن السيد الطالباني وحزبه قد تخلصا من الكثير من النعرات الشوفينية التي جاءهم بعض عدواها وفيروساتها من القوميين المتطرفين العرب وإن الطالباني من خلال أحاديثه وتصرفاته يعبر عن حب واضح لعراق يزخر ويغتني بتنوعه القومي والديني،ويطمح لبقاء الكرد ضمن العراق وعلى أساس حقهم المشروع بالفدرالية إلا إنه يخضع أحياناً لمتطلبات قيادته الحزبية الكردية الخاصة أو ضغوطات التنافس الحزبي في كردستان فيطلق تصريحات أو يتخذ موقفاً ذا طبيعة قومية ضيقة لا وطنية عامة!بينما كان عليه أن يتركها لقادة حزبه الآخرين وينأى بنفسه عنها وعنهم.
ولعل ذروة هذا المنحى قد تجلى في خطابه في احتفالات قوات بدر في ذكرى تأسيسها الأخيرة قبل أسابيع حين بارك عمل هذه الميليشيات وعمل البيشمركة في كردستان وربط بدهاء وجودهما معاً وتعهد بدعمه وتطويره. وبدون الخوض بتقييم دقيق لماضي مليشيات بدر والبيشمركة ورغم ادعاء قادة قوات بدر بالتخلي عن طابع قواتهما العسكري أو عن ارتباطاتهم الخارجية،أو تمترس البيشمركة وراء خصوصية أوضاع كردستان فإن وجودهما الآن وتصاعد نشاطاتهما غير القانونية وعدم تفكيرهما بتحمل المسئولية الوطنية للذوبان أو الاندماج في جسد الدولة الوطنية العسكري أو الأمني والولاء للعراق كله لا لأحزابهما أو لقادتهما المؤسسين سيبقى يشكل عقبة كبرى وكأداء في قيام الدولة العراقية الحديثة الناضجة القادرة على مواجهة تحديات الأمن والإعمار وبناء الإنسان العراقي ومستقبله الجديد!
من المؤسف القول أن موقف السيد الطالباني من الميليشات كان موقفاٌ قوميا وحزبياً ضيقاً وليس عراقياً رحباً وشاملاً . وقد يأتي في سياق تحالفات ومساومات أخرى مع القوى الدينية تؤثر على المنطلقات الأساسية للدستور المقبل وعلى مسيرة البلاد الحضارية كلها!
إنه يبقى مطالباً بتصحيح هذه المواقف وتلافي آثارها الخطرة وطمأنة الناس الذين علقوا عليه آمالاً كبيرة ليس لقيادة العراق في هذه الفترة القصيرة وحسب بل وربما التجديد لولايته الكاملة لقيادة العراق من الحقب السلفية المظلمة إلى هذا العصر حقاً!
كما يبقى الآن وبإلحاح شديد مطالباً أمام الجمعية الوطنية وأمام الشعب العراقي بأن يلعب دوره كاملاً في عملية تصفية الإرهاب في البلد الذي أخذ على عاتقه رئاسته. وحبذا لو ألحق توقيعه المطالب بإلغاء عقوبة الإعدام بالمرحلة الرومانسية من حياته التي جمعته لفترة بحالمين آخرين وقعوا معه على ذلك النداء الجميل بجوهره بلا شك . بعضهم مازال على نقائه وبعضهم لا ندري أين يقف الآن! ألا يسمي بعض اليساريين الدوليين الإرهابيين والقتلة بالمقاومين والثوار؟ وفقط لأنهم يكرهون أمريكا صاروا يكرهون العراقيين ويسترخصون دماءهم! بعضهم لا يقر عقوبة الإعدام رغم قانونيتها لكنه يسكت وبشكل مخزٍ عن جرائم قتل الشرطة والنساء والأطفال في العراق وبالعشرات والمئات كل يوم!
وعلى أي حال فقد كان حظ العراقيين مرة رئيساً حكمهم خمس وثلاثين سنة ولم يستطيعوا إقناعه بالتوقف عن توقيع أحكام الإعدام التي كانت تبلغ عشرات الآلاف في يوم واحد وكانت جائرة فاجرة ولم تكن وفق قانون شرعي،وبرئيس لا يستطيعون إقناعه بتوقيع أحكام إعدام قليلة ضرورية وممحصة ومميزة ووفق القانون. إنها مزحة مضحكة ولكن الناس لا تستطيع الضحك إذا كانت المزحة من القدر أو التاريخ ثقيل الدم!