يتحدث زملاؤه عنه مداعبين أو جادين " جاء القاضي راضي،وذهب القاضي راضي " ولكن القاضي راضي الراضي لم يكن حقيقة راضياً،فقد أدلى قبل أيام بشهادة تليق بمركزه كرئيس للجنة النزاهة أمام المجلس الوطني المؤقت قال فيها : إن معظم وزارات الدولة ومؤسساتها يستشري فيها الفساد ويعيث بها فاسدون ينهبون ويستبيحون بطرق مختلفة أموال الشعب وممتلكاته وتحدث لمدة ساعة بجرأة وشجاعة كاشفاً عن الكثير من هذه الانتهاكات والتجاوزات،التي استمرت وربما بمديات أوسع في العهد الجديد،وعن إحالة المتهمين إلى التحقيق والمحاكمة!ينبغي للقلوب الطيبة أن تكون مع هذا الرجل،كلنا يعرف إن من يشن حملة على الفاسدين في دولة نخرها الفساد لنصف قرن سيترصده هؤلاء بشرهم،ومصير القضاة والصحفيين الذين تصدوا للفساد في دول كثيرة كان أليماً وفاجعاً وإن تكلل بالغار والرياحين!إنها معركة رجال شجعان في زمن الإرهاب والخوف والتدليس والأنانية،هذا الرجل والرجال الذين سيشدون من عضده في المجلس الوطني المؤقت،وفي الحكومة،ورئاسة الدولة هم صناع مصير العراق وحماة حق أجياله القادمة في العيش الرغيد! ولكن من هم هؤلاء الفاسدون الذين لا نعرف أسماءهم وهي كثيرة،الذين تصدى لهم هذا القاضي النزيه ؟ إنهم الهمج،الغزاة الحقيقيون للبلاد والعباد! وحكاية الدولة العراقية معهم طويلة حد الملل والسأم من سردها!أنهم خلطة عجيبة من البشر،تجمع بين انعدام الخلق والجهل والغباء والشراسة وانفلات الغرائز وكره كل ما يمت للعقل والروح بصلة! يأتون على الأغلب من الأرياف ومن البوادي المعزولة المتوحشة ليستولوا على آلة الدولة،فينبهرون ويحنشون بها كأطفال يقعون على لعب مزوقة،ثم لا يلبث أن يلتحق بهم مثقفون ومتعلمون من المدن يكرسون تعليمهم المتقدم وخبراتهم،لتشغيل هذه اللعبة لهم مقابل حصة من المغانم والأسلاب،ثم كثيراً ما يتفوق هؤلاء عليهم بحكم فنونهم الإدارية بالسرقة والنهب وتسجيل ممتلكات الدولة بأسماء أبنائهم وعوائلهم! وتاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها يزخر بأمثلة عن عوائل تمتلك ثروات فاحشة هي في حقيقتها سرقات كبيرة من أموال هذا الشعب الفقير المنهوب منذ أمد طويل! كذلك فعل الهمج الأوباش حين قادوا ما أسموه بدولة البعث في العراق، قدم هؤلاء المحترفون للغزو والاغتصاب من ريف معزول متخلف يرتدون أقنعة القومية،والاشتراكية والوحدة العربية فنسوها تماماً وانشغلوا بحروبهم التي شنوها على الشعب أولاً ثم حين لم يرتووا من دماء العراقيين الكثيرة شنوا حروبهم على الجيران والأشقاء، نخروا الدولة بالفساد والقسوة والوحشية حتى انهارت فوق رؤوس الناس،مع بيوتهم المهدمة وأرواحهم المحطمة !قطعان ذئاب مسعورة تصدرت مسيرة البشر،في غفلة أو رغبة أنانية من عالم آخر متحضر! جلس أحمد حسن البكر على قمة السلطة وهو لا يملك من الثقافة سوى معلومات ثانوية تتعلق بميرة وتموين الجيش، كان حتى في اختصاصه العسكري سلاح سز كما يقال في اصطلاحات العسكر،وليته كان يحمل بديلاً لثقافة العسكر المتغطرسين،جل ثقافته الأخرى إنه كان يحمل سماعة التلفون على مدير الإذاعة والتلفزيون ويطلب منه أن يقطع برامج الإذاعة ويبث أغاني ملا ضيف الجبوري،أو تمثيليات فكاهية ليضحك عليها مع ضيوفه قادة الدولة الذين ليس في رؤوسهم فكرة عن ثقافة أو علم تقتضيه مسئولية الدولة! كل همهم أن يشبعوا نهمهم للسلطة والجاه والمال الحرام،حتى إن الصحاف شكا خائفاً لمقربين له إنه ليس هو الذي يضع برامج الإٌذاعة والتلفزيون بل مجموعة متضاربة الأمزجة من القصر الجمهوري على رأسها أحمد حسن البكر،على هذه الخلفية من الضحالة والغباء والجهالة بنى صدام حسين عصاباته السرية ليزيح البكر ويجلس مكانه متبعاً نهجاً أكثر انحطاطاً وأشد قسوة وبشاعة وتمرغاً بالنزوات والفساد!مطلقاً العنان لأفراد عائلته وعشيرته ليستولوا على أموال ومزارع وقصور الدولة، مغدقاً أموالاً طائلة على الفاسدين من العراقيين والعرب والروس والفرنسيين والإنجليز وأصدقائه من الأمريكيين " علاقة البعثيين مع الأمريكان حلال،وحرام على غيرهم"!كان صدام أكثر جهلاً من صاحبه،فارغاً كل ثقافته شعارات غبية مستهلكة وأفكار عامة ومعلومات دقيقة تماماً عن شقاوات الكرخ وبلطجية شارع الهرم في القاهرة التي حصل فيها بمساعدات المخابرات المصرية على شهادة ثانوية القصر العيني فقدمها لكلية الحقوق في بغداد ولم يحصل على شهادتها إلا بعد أن اصبح رجل السلطة،تحول بسرعة البرق إلى قطب المغناطيس الذي لا يجذب لدولته غير الضحلين والفاسدين وعديمي الكفاءة والأخلاق والشجاعة! وسر ذلك واضح تماماً،هو بذلك يضمن سيطرته علهم واللعب بهم كتماثيل صغيرة صماء!
لم يكن صدام يريد للعراق دولة حديثة تقوم على مؤسسات المجتمع المدني لذلك كرس كل جهده لبناء سلطة قامعة لا تضاهيها سلطة في شراستها وجبروتها،فغابت الدولة على يديه وحلت السلطة المطلقة،جاءه حسين كامل شرطياً منبوذاً على دراجة نارية فصار وزير الوزراء الآمر الناهي بكل الأمور حتى تندر الناس بحكاياته مع المهندسين والموظفين،وحكايات خال صدام،خير الله طلفاح،حرامي بغداد ما تزال تتطلب من الحكومية الحالية أن لا تعاملها كنكات فقط،وسرقات وانتهاكات عدي وقصي لأموال وأرصدة الدولة أكثر من أن تحصى،والأرصدة المسروقة من قبل ساجدة طلفاح وبناتها ينبغي أن تحرج وتخجل من يحميهن اليوم من الحكام العرب، بأمر الهمجي صدام أصبح علي حسن المجيد نائب العريف وزيراً للدفاع وحاكماً للكويت ومالكاً لأكبر المزارع والقصور،والشقاوة الأمي سمير الشيخلي وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي!وحتى ما سميت بالمجموعة البعثية المثقفة والتي من بينها طارق عزيز وسعدون حمادي والصحاف والحديثي كانوا في الحقيقة لا يقلون ضحالة وسخفاً عن قادتهم الهمج،ومن يراجع الوزارات التي قادوها يجد أنها سجلت تراجعاً مريعاً في ظل إدارتهم،واستفحال السرقة والاختلاس وابتزاز الناس،إذ هم أفرغوا عقولهم من كل ثقافة أو خبرة اكتسبوها في حياتهم وخنعوا بشكل مطلق لأوامر قادتهم الهمج،فالصحاف مثلاً سيذكر ولفترة طويلة بعلوجه الفائزة بمسابقة الحمير السمينة لا بأي منجز حققه في مضمار الثقافة أو الإعلام!ضحالة الحكام وجهلهم واستبدادهم هي مرتع الفساد،منها وبها يتكاثر اللصوص والنشالون الكبار بسرعة الجراثيم!
لقد ربى هؤلاء أجيالاً على غرائز الهمج ونزوات الهمج ودونيتهم الخطرة وأورثوهم عقد هم وعنعناتهم وتفاهاتهم،فقطعان الذئاب المسعورة التي تجوب اليوم مدن وطرق العراق تسلب وتنهب وتقطع الرؤوس ومنظورهم من أشباه الكتاب والصحفيين هم من هذه الأجيال المنكودة التي لا تجيد أية مهنة أخرى،فبقوا حتى بعد زوال قبضة سادتهم الهمج عن رقابهم،لا يصلحون لأي شيء سوى إنتاج جرائم السرقات والرشاوى والابتزاز واغتصاب النساء والرجال،وتفجير الدماء البريئة،والتشبث بالتخلف والتسيب وكره الحضارة، عاجزين عن إنقاذ أنفسهم،أو القبول بيد تمتد لإنقاذهم، هم في جوهر وضعهم همج يتحالفون اليوم مع همج بعث سوريا وهمج إسلامي إيران، الغارقين في الفساد إلى ما فوق اللحى والعمائم ! دول الفساد في الشرق الأوسط في خطر لذلك تنادوا يا فاسدي المنطقة :اتحدوا،فتجمعوا مسعورين وراء أقنعة الدين والقومية!الفساد والإرهاب في معادلة صعبة واحدة،أحدهما يغذي الآخر،ولا بد من تصفيتهما معاً! الديمقراطية والشفافية هما المطهر الأعظم للدولة والمجتمع من الفساد،لذا فاللصوص والمختلسون والمرتشون والتمرسون بالمحسوبية والمنسوبية هم أعتى أعداء الديمقراطية والشفافية وتداول السلطة!وهم الجيش الثاني للإرهاب!
من فتح باب الدولة العراقية لهؤلاء الهمج فدخلوها واستباحوا كل هذا الزمن الطويل منجزاتها وقيمها المكونة بالعرق والجهد الكبير غارسين في قلبها صولجانهم القذر الآمر الناهي ؟ إنهم العسكر الظامئون للسلطة الذين داسوا يوم 14 تموز المشئوم من عام 1958 على دستور الدولة ووضعوا مكانه جزمتهم العسكرية لتفوح منها عفونة الدم والتهور والجنون!لقد ظل،هؤلاء العسكر همجاًً رغم بذلاتهم العسكرية ورتبهم العالية وأبوا أن يعيدوا الدولة العراقية لبناة المجتمع المدني رغم ادعاءهم أن ثورتهم كانت ضد الظلم والتعسف والفساد،لقد استنكفوا حتى من ارتداء الثياب المدنية،فحطموا دولة حديثة منجزة رغم عيوبها وسلبياتها وكونها من بذرة العسكر الثائر على الحكم العثماني دون أن يقدموا الدولة الحضرية المتمدنة الأفضل بديلاً عنها! فكانوا هم صناع النكبة العراقية الكبرى ومن فتح الباب على مصراعيه للهمج، وإلا من كان يتصور أن يصعد أتفه شخص في العراق،صدام حسين، ليتبوأ أخطر وأهم مركز فيه لخمس وثلاثين سنة ؟أهم ما يبغي إن يقوم به البرلمان العراقي المقبل أو الذي يليه من اجراءات ومواقف مفصلية هي محاكمة اعتبارية عادلة صارمة لقادة انقلاب 14 تموز 1958 ورد الاعتبار لرجالات الحكم الملكي بما فيهم نوري السعيد وفاضل الجمالي وسعيد قزاز!
فهؤلاء على كل عيوبهم السياسية كانوا نزيهين،أو في الأقل عملوا وقدر ما تسمح بها أوضاع العراق المحلية والدولية على بناء دولة مؤسسات ومجتمع مدني يحارب الفساد والفاسدين! وبغلق باب الانقلابات العسكرية ومنع تدخل العسكر في شئون الدولة يضمن الشعب دولة ديمقراطية مزدهرة تغدو فيها حكايات الرشوة والسرقات والمحسوبية من أجواء ماض لن يعود!