قبل أشهر التقيت امرأة عجوزً في بغداد، سألتني لماذا لا يريدون في أمريكا انتخاب بوش من جديد ؟، سكتت برهة ثم اندفعت تقول " ليأت بوش إلى العراق سننتخبه رئيساً مدى العمر " كانت كلماتها صرخة أو مزحة تقف وراءها حرقة أم فقدت ثلاثة من أبنائها في حروب صدام وسجونه، والآن حدث ما هو صحيح تماماً، أنتخب بوش من جديد في بلاده، وسينتخب العراقيون رئيساً وقادة تشريعيين لهم في بلادهم، لقد انتصرت هذه المرأة العجوز الثاكلة الطيبة بينما هزمت وخابت شراذم البعثيين والإرهابيين في العراق والذين كما قيل إنهم أحضروا المشروبات وأحزمة الرصاص وفرق الكاولية ليحتفلوا بهزيمة بوش بينما جلب الزرقاويون في الفلوجة، صفوفاً من الهاونات، وعلب البخور، والدفوف والأوراق الصفراء ليحتفلوا معهم ومع شياطينهم مقتحمين ثمانين جامعٍ في الفلوجة للصلاة زوراً وبهتاناً!
لقد احتفل بثقة وأمل أنصار التغيير والتحول الديمقراطي في العراق بانتصار بوش إذ أن بقاءه في البيت الأبيض لأربع سنوات جديدة يعني تحقق آمالهم و المضي قدماً بحماية العراق وبعملية تحديثه وتطويره وإعادة اعماره التي بدأها بنفسه ولا يمكن لغيره أن ينجزها بذات الحماس والدأب والخبرة!
إثر فوز بوش شملت العالم أفراح وآمال وأتراح وخيبات ولكن الحقائق تبقى ساطعة دامغة!
سيبقى وضع العراق ووضع الشرق الأوسط مرتبطاً بالوضع الأمريكي لسنوات وربما لحقب طويلة قادمة، تلك ليست أمنيتنا، ولا مشيئة الأقدار، أو سخريتها، إنما هو منطق الأشياء، كان هذا الشرق في عهود غابرة مركزاً إمبراطورياً، حكم نصف العالم، (كانت بغداد قبل أكثر من ألف عام كما واشنطن اليوم ) كان زواله سريعاً لأنه حكم بالدين والسيوف والأساطير، والأوهام، والأمزجة، والآن انتقل المركز الإمبراطوري إلى الجهة الأخرى من العالم ليحكم بالعلم والتكنلوجيا والفلسفة، لذا فهو سيعمر طويلاً، وحتى يمتلك الجميع العالم بالتساوي وبلا دولة حاكمة ودولة محكومة ولا سطوة إلا للعلم والتكنلوجيا والفلسفة وقيم الحضارة!
ما يعطي للمركز الجديد مبررات قدومه إلينا هو ليس النفط والخامات والأسواق التجارية والموقع الاستراتيجي وحسب بل هو نهوض الإسلام السياسي، وتأجج النعرة القومية لدى حكام وقادة في هذه المنطقة والذين يتصرفون وكأن مركزهم الإمبراطويري القديم ما زال حاكماً عبرهم، ومن حقهم بأفكارهم الدينية السياسية الرثة، والقومية المتعجرفة، سحق إرادة شعوبهم وغزو الطرف الآخر المتحصن بالعلم والتكنلوجيا والفلسفة!
من المضحك إن أئمة هذه البدع الخرقاء يطرحون أنفسهم منقذين للغرب من غلوائه المادي، ليدخل فردوسهم الروحي العظيم الذي ينتقلون هم إليه سريعاً بالسيارات المفخخة، أو بالتنانين الطائرة !
من لاحظ المعركة الانتخابية في أمريكا وجد إن محورها الفكري والسايكولوجي هو درء الخوف وتحقيق الطمأنينة للناس القلقين على حياتهم وحضارتهم هناك!
المصيبة إن حكام دول الشرق الأوسط إذ يرفضون أن يأتي الخائفون على حضارتهم من تخلفهم ليساعدونهم في إزالته، يرفضون أن يجروا بأنفسهم أي إصلاح سياسي أو اجتماعي أو تربوي ويتركون الأوضاع المزرية في بلدانهم تزداد تدهوراً تفرخ كل يوم عاطلين عن العمل، ومضطهدين ومحرومين ومعذبين، وناقصي أخلاق وتربية، محشوة رؤوسهم بالشعوذة والتوحش وأشباح ما وراء القبور، ليكونوا أسهل عجينة بيد صناع وعلماء الإرهاب فيشكلوا منهم انتحاريين، وعصابات لقطع الرؤوس واغتيال العلماء والمفكرين والأطباء والمهندسين والصحفيين ضحاياهم الأفضل لديهم!
ذلك شأنهم، وليهربوا ما شاءوا ولكنهم لن يفلتوا من يوم الحساب، فمعركتهم هي ليست مع بوش ولا مع أمريكا، وإنما هي مع استحقاقات الحضارة والتاريخ!
في العراق أنجزت الحلقة الثانية( بعد أفغانستان ) من سلسلة هذا التوجه العالمي الاستراتيجي والذي سيستمر لمدى غير قصير، وقد نتج عنه الكثير، إذ أسقط أبشع نظام عرفه العراق والعالم! لكن الواقع الذي أعقبه لم يكن ساراً لسنة ونصف مضت، فراح البعض يشكك بنجاحه! غير مدرك إنها أزمات تاريخية طبيعية تعقب كل تحول نوعي ولا بد أن تزول وفي وقت غير بعيد!
من الإجحاف تحميل طرف واحد أسباب الوضع الأليم الذي تعيشه بلادنا :إنه يتوزع على أربع جهات :الأولى : أخطاء الإدارة الأمريكية، خاصة في عدم إعدادها لخطة تدابير ومعالجات لأوضاع ما بعد الحرب وملأ الفراغ الحكومي والسياسي في البلاد، فمهمات السلم لا تقل صعوبة عن مهمات الحرب! الثانية :تقصير أحزاب وقوى ومراكز المعارضة العراقية، التي لم تكن تمتلك أيضاً خطة واضحة ومتكاملة لعملها ما بعد سقوط النظام، فهي تضم الكثير من الشرفاء النزيهين والحريصين على بناء عراق جديد لكن الوقائع كشفت أيضاً أنها كانت تحوي في صفوفها الكثير من الفاسدين الذين أول ما انبروا له هو التهالك على المناصب وجني الأموال الحرام والاستيلاء على ممتلكات الشعب والأفراد. الثالثة : الخراب النفسي والأخلاقي والتربوي الذي تعاني منه قطاعات وشرائح واسعة من مجتمعنا العراقي نتيجة ضغوط وحروب وسجون وحصارات صدام، والذي ظهرت فورته الأولى المخزية في عمليات نهب خزائن الدولة والمتاحف والثروات العامة والانتظام في عصابات القتل والخطف والسلب والنهب الرابعة : النشاط المسعور لأعداء خارج الحدود أدركوا أن قيام نظام ديمقراطي في العراق، سيعطي قوة المثل المدمرة لأنظمتهم المستبدة الفاسدة! فتحالفوا لتحطيمه مع فلول النظام المنهار وعناصر القاعدة منتظمين في جبهة أعمال إرهابية بشعة لم يحدث لها مثيل من قبل!
كل هذه العوامل الرئيسية الأربعة، إضافة لعشرات العوامل الثانوية التي تصنعها المصادفات والظروف العامة عملت على عدم استقرار العهد الجديد وعكرت فرحة العراقيين بزوال نظام جرعهم الشقاء، وزرع الرعب والحزن في أوصالهم، وأعاقت انطلاقة الشعب وقياداته لبناء عراق جديد على أسس حضارية وإنسانية جديدة! لكن مرحلة جدية هامة من العهد الجديد ستنطلق قريباً. فالانتخابات العراقية إذا أجريت بصورة صحيحة وسليمة ستأتي بأول حكومة تمثل (أو تقارب ) إرادة الشعب التي غيبت لخمسين عاماً! مما يعني غربلة عامة واسعة تتقدم عبرها العناصر الطيبة والنزيهة لتصل إلى مراكز القرار والمسئولية في البلاد، كما أن القطاعات الكبيرة النظيفة والشريفة من أبناء شعبنا أخذت تخرج من سلبيتها ويأسها القديم وتتجه للعمل السياسي وتعزل الأشخاص والجماعات التي شوهها النظام السابق أو تعمل على إعادة تربيتهم، أما أعداء العراق في الخارج فإن شحناتهم الإرهابية لأرض العراق ستحبط وتصفى كلما قويت الدولة ومؤسساتها الأمنية التي يعاد تشكيلها. أما بقية حساب هؤلاء الأعداء: أشقاء أو جيران، والذين طار صوابهم فستكون مع شعوبهم أو مع أمريكا إذا شاء أي منهما، والعراق على كل حال هو ضحية، ولا يعتدي على أحد!
المرأة العراقية العجوز التي كانت قلقة أن لا ينتخب بوش ثانية، لم تكن تفكر بنفسها فهي بعد أن فقدت أبناءها الثلاثة لم يعد لديها ما تخسره، هي خائفة على أبناء شعبها أن تأكلهم الحروب والسجون والمجاعات إذا عاد العراق لحكم الاستبداد والتخلف والحروب والسجون، وهي تستطيع اليوم أن تفرح ونفرح معها إذ قدمت لنا ببساطتها المحببة نموذجاً للعقل الإنساني الرائي للحقائق الجوهرية في هذا العالم حتى لو كان حزيناً، ومعوزاً ومنزوياً في زقاق معتم تنقطع عنه الكهرباء نصف ساعات اليوم!