بكى كثيرون شارع المتنبي المنكوب بصدق ونقاء مع إدراكهم أن شارع المتنبي لا يبدأ بسوق السراي جنوباً وينتهي بشارع الرشيد شمالاً، بل هو يمتد اليوم حتى آخر الدنيا، فقد أصر هذا الشارع الحي المترع بالشجن والذكريات، وعبق الأحلام المحطمة أن يمتد ويمشي طويلاً، مع خطى المبدعين والمثقفين العراقيين حيث ما حلوا وارتحلوا، فيطول ويطول مع آلامهم وطموحاتهم ليصب في شتى عواصم العالم، وحيث ما طوحت بهم المنافي، في لندن وباريس وبرلين والسويد والدنمارك وغيرها، مخترقاً دمشق وبيروت والقاهرة وسواها من محطات المنافي الأليمة!

لقد تباكت فضائيات وصحف كثيرة عليه، وذرفت دموعاً مدفوعة الثمن بعد تفجيره! ولكن هذه الدوائر الإعلامية الضخمة ما كانت تلقي نظرة واحدة عليه في نكباته السرية والعلنية طيلة الزمن القاسي الذي جثمت فيه الدكتاتورية على روحه وأرصفته! إنها تدعي بصلافة الآن أن الثقافة العراقية كانت قبل سقوط صدام ثقافة قيم عربية وإسلامية، وإنها كانت رافلة بالخير والسلام والشدو والمدام! وإنها أضحت الساعة ثقافة مارينز وهمبركر وكوكا كولا وستربتيز، لذلك نحرها المجاهدون الأشاوس، وفجروها بما حوت من بشر وكتب ومخطوطات نادرة، كي يبنوا على أنقاضها ثقافة المقاومة والجهاد والأخلاق الكريمة ودولة الخلافة الإسلامية التي ستشمل العالم بأسره خلال السنوات الثلاث القادمة بإذن الله وشفاعة رسوله!

منذ عقود طويلة وشارع المتنبي يفجر، وتشعل فيه الحرائق، وتنتهك روحه وجسده، ويزج بمتاهات الدنيا، حتى ليمكن القول أن شارع الثقافة العراقية هذا هو شارع الهزات الكبرى والتفجيرات والزلازل المتواصلة التي كان بعضها صادرا من خارجها ومدمراً لها، والبعض الآخر كان صادراً منها ومدمراً لما حولها بما في ذلك الناس والتاريخ والأرض، وليس بخاف على أحد أن العراق قد دخل اضطرابه، وخاض بالدم في شوارعه وبيوته، وولج المآسي والكوارث منذ فجر 14 تموز 958، وكان قد رأى الدم ذاك ينضح من قصائد الشعراء أولاً،ومن أقلام طائشة، كثيرة، تنفث تحريضا أهوج في كل صحيفة أو خطاب. ولكن الضربة القاصمة التي وجهت للثقافة العراقية كانت مع استيلاء همج البعث ورعاعه وأميوه على مفاصل ومراكز الثقافة في العراق، مزيحين خيرة مثقفي العراق عن سوح الثقافة والمعرفة، مثلما أزاحوا مثقفين مبدعين حقيقيين كانوا من ضمن صفوف حزب البعث نفسه أو من بين جماهيره، ولكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، ولا يمكن لأحد منا أن يتنكر لدور هؤلاء في الحياة الثقافية العراقية مهما كان رأيه فيهم!
لم يكن شارع المتنبي، الذي ضمت جنباته كنوز الثقافة العراقية والإنسانية، هانئاً مزدهراً سعيداً، لا في عهد صدام، ولا في عهد الحكام الذين تعاقبوا على الحكم بعد سقوط صدام ونظامه! ففي عهد صدام دمرت الثقافة بالحروب والقمع والإرهاب والتسلط، وحشوت في بساطيل السلطة والحكم، وكرست لعبادة الدكتاتور، والتغزل بصورته وأقواله وأفعاله القبيحة، وشاعت ثقافة الصوت الواحد والحزب الواحد والفلسفة الواحدة، واخترعت المرابد للترويج لها عربياً وعالمياً، حيث كان آلاف الأدباء والمتأدبين العرب، والأجانب يحلون في فنادق بغداد الفخمة أياماً وشهوراً، يكرعون الويسكي، ويتبادلون أسرة نومهم، ويزينون معاصمهم بالساعات الذهبية التي تحمل صورة قائدهم الرمز،،ويتسلمون أقلاماً ذهبية ليوقفونها على مديحه، وتبييض صفحاته السوداء، ثم يملئون حقائبهم برزم الدولارات، وكوبونات النفط ! حتى أن قسماً كبيراً منهم امتلك بيوتاً في باريس والقاهرة ولندن، وتزوج بأكثر من أربع نساء، وامتلكت أيمانه ما وسعت غدده منهن، مع حسابات مفتوحة من أموال العراقيين، كل هذا وشعب العراق يتضور جوعاً من حصارات صدام وحروبه التي شنها على العالم، ولم يجد شاعر فلسطين، محمود درويش، غضاضة، وبعد أن تغزل بقمر بغداد الليموني، في أن يتغزل بوزير إعلام صدام، فأسماه بوزير الشعراء، وهو الجاهل الضحاك، لطيف نصيف جاسم، ناسياً حيفا ويافا وليمونهما الحقيقي!

حين كان هؤلاء الوافدون المتعيشون يجتمعون في القاعات الباذخة يقدم لهم شعراء وأدباء السلطة من الأميين والفاشلين والإمعات، وما كانوا هم يسألون عن صفوة مبدعي العراق ومثقفيه الحقيقيين، ولا عن شارع المتنبي الصغير الذي يحتضنه قلب بغداد ناهيك عن امتداده مع خطى المبدعين المنفيين! كانوا سكارى بالقرب من السلطان وبرائحة دولارته وبالسمك المسكوف على شواطئ دجلة، وبالخرفان المشويه على مناسف الرز! وحين لا يخجل ولا يستحي الأدباء والشعراء كيف نرهق الناس البسطاء ونطالبهم بأكثر مما لديهم من كياسة وخلق قويم؟ هل كان هؤلاء المثقفون والأدباء لا يعرفون طليعة مثقفي العراق وأساتذته الكبار؟ وهم الذين تعلموا منهم وفي أعناقهم دين لهم، لكنه الجحود والنكران وغمط الحق!
مثقفو العراق الحقيقيون هؤلاء لم يغادروا شارع المتنبي يوماً ولم يغادرهم هو أيضاًُ، حيث ظل مسكاً بخطاهم وأرواحهم حتى آخر الدنيا مصراً على تشرب ظلالهم وأطيافهم وضحكاتهم ودموعهم ومشاريعهم!

أدباء المرابد العربان منهم والعجمان كانوا مستبشرين في أعماقهم لموت أو صمت المثقف العراقي تحت خوذة الدكتاتورية، مروجين لتلك المقولة السيئة التعيسة من أن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ بينما الحقيقة أن بغداد كان يمكن أن تواصل شوطها الحضاري القديم العظيم فتظل تكتب وتطبع وتقرأ لنفسها ولغيرها ويقرأ معها من العرب من يريد أن يقرأ الكلمة النيرة الصادقة الشجاعة!

وبعد سقوط نظام صدام أراد كثير من مثقفي ومبدعي العراق أن يعفوا شارع المتنبي من التطواف والتغرب معهم في أصقاع العالم الباردة ويعودوا به إلى حجمه الصغير الأليف في قلب بغداد، فعادوا رغم علمهم أن هذه العودة قد تكلفهم حياتهم!، لكنهم ووجهوا بحملة شعواء قادتها حفنة من مثقفي وكتبة صدام ممن استمرؤوا طعم جرائمه وأنين ضحاياه من آلاف الثكلى واليتامى ماداموا يعيشون على موائده، وهدياه لهم من السيارات والبيوت والمزارع، فافتعلوا معركة مع أدباء الخارج، وراحوا يقاومون عودتهم، ويتهمونهم بشتى النعوت أقلها العودة على ظهور الدبابات الأمريكية.
لم يطلب مثقفو الخارج المشردون سنين طويلة من هؤلاء أن يعتذروا عما اقترفوه من جرائم بحق ثقافة العراق وشعب العراق بل أنهم، وعلى العكس، قد دعوا للتسامح وطي صفحة الماضي الأليم، لكن هؤلاء أخذتهم العزة بالإثم وراحوا يطلبون من مثقفي الخارج أن يعتذروا لهم، وأن يقروا لهم بنضالات موهومة كاذبة، zwj;ولهذا تظافروا على مضايقتهم وتهديدهم، وأشهروا مخالبهم مع الإرهابيين وضباط المخابرات المنهارة، وراحوا يطاردونهم ويعدون التقارير التي يجيدون كتابتها لتسهيل خطفهم أو قتلهم، وبذا لم يستطع هؤلاء المثقفون المكوث في شارع المتنبي البغدادي طويلاً، فعادوا إلى منافيهم أو إلى شارع المتنبي العالمي الذي سار معهم كروح حارسة أمينة.

لقد ظلت الثقافة العراقية، أو بتعبير أدق ما تبقى منها ومن روحها العنيدة، تصارع قوى مختلفة كثيرة، رافضة أن تلفظ أنفاسها الأخيرة رغم جراحاتها العميقة ونزفها الطويل، وهي تقف مرتبكة حائرة أمام العنف الذي انبعث من جديد، وتفجر بأشكال مختلفة معقدة بعد أن أمسك الدين بقبضته الصارمة على السياسة، وأمسكت السياسة بقبضتها الحديدية على الدين، وراحت تستعمله مرة كسيف مسلط على الرقاب ومرة كمفتاح لجنان الأوهام والمغريات وجلب الأتباع !

فلقد واصل ما تبقى من البعثيين، الذين لا يريدون أن يدركوا متغيرات التاريخ، وحركته الجارفة، شوطهم التخريبي، فتحالفوا مع البهائم المعممة ممن يسمون بجند القاعدة والمجاهدين، وعملوا على محق كل أثر لثقافة حرة نقية متفتحة، ليشيعوا مكانها ثقافة الظلام والموت، والوجوه الملثمة،وعاهرات الجنة ثمنا لقتل رجال العراق ونسائه وأطفاله واغتيال كتابه وصحفييه وأساتذة جامعاته، وأطباءه ومهندسيه، وهد دور العلم والمعاهد والمكتبات على رؤوس طلابها وروادها، محيلين بغداد والأجزاء الغربية والشمالية من العراق إلى سجن كبير مظلم، لا يوجد به سوى حرابهم وأقنعتهم وصلواتهم الأقرب إلى زئير الوحوش! zwj;بينما انطلقت من الجهة الأخرى مواكب غبراء بشعة هادرة تريد بعث كراهية وأوهام ألف وأربعمائة عام، متحدثة عن مظالم موهومة وعن حقها في التسلط الطائفي الأرعن، مفجرة عقد اضطهاد مرضية، وأكاذيب أرضعها لهم مراجع غرباء أشرار طامعون zwj;تتقدمهم ميليشيات وفرق موت وتدمير، تشكلت في إيران وتدربت فيها، ووجدت أوكارها في وزارات الداخلية والدفاع والصحة ومقرات أحزابهم الدينية، يقودها رجال دين عرفوا بسرقاتهم وفجورهم وشذوذهم وكرههم لكل ما يمت للثقافة العراقية بصلة، إذ ثقافتهم في الأصل تعاليم الصفوية التوسعية التي يقوم مشروعها القديم والحديث على ابتلاع العراق، ووضعه تحت النفوذ الفارسي! وحين أمسك هؤلاء السلطة بأيديهم انطلقوا لمسخ الثقافة والتربية والتعليم في العراق، وصاغوها وفق تعليمات وأوامر ملالي قم وضباط اطلاعات الذين أضحوا يقيمون في العراق فعلا، ويديرون أعمالهم الإجرامية من الحسينيات والمقرات السرية، مركزين في نشاطاتهم على هدم روح العراق، وثقافة العراق، وذاكرة العراق فلم يتبق تمثال أو نصب يؤكد هوية العراق إلا فجروه، ولا مخطوطة نادرة إلا وسرقوها، مواصلين صولتهم العبادية التي تألقوا بها في (الحواسم) المخزية عندما ساهموا بقوة وبتوجيه من إيران بسرقة و نهب محتويات المتحف العراقي ومكتبة المخطوطات لأنها تحمل صلب تاريخ العراق الذي يتركز هوسهم على إطفائه اليوم، وعلى مسخه وإلحاقه بتاريخ أولئك الذين هدموا حضارة بابل القديمة.

فهم من احتل شارع المتنبي أخيرا، وهم من ساهم في المحاولة الأخيرة لاغتياله عندما ملؤوه بأكداس كتب مطبوعة في إيران، تعتمد تشويه تاريخ العرب والمسلمين، وتمنح طائفتهم ورموزها أمجاداً مختلقة، وتحقر الطائفة الأخرى وأئمتها ومذاهبها وتاريخها، هذا مع تلال من الصور الملونة الكبيرة لخامنائي والخميني والحكيم والسستاني ومقتدى الصدر وغيرهم من وجوه الفتنة الطائفية، والتي صارت تدب على وجه هذه الشارع الجميل دبيب الخلايا السرطانية! وبذلك ساهموا في زيادة سعار الإرهابيين فوق سعارهم، فاستهدفوا هذا الشارع بعد أن كان قد نجا من جرائمهم وجنونهم طيلة الفترة الإرهابية القائمة! وهكذا جر الطرفان المتعصبان شارع المتنبي لصراعاتهما القذرة!

إن نظرة سريعة على المناطق التي يهيمن عليها هؤلاء الطائفيون المهوسون بالمذهب أكثر من الدين نفسه نجدها اليوم خالية من أية نأمة ثقافية أو حضارية، فلا سينما هناك، ولا مسرح، ولا معرض لفنون أو حتى لمنتوجات صناعية، بينما كان أبناء الجنوب هم الرواد الأوائل وأصحاب المواهب الرائعة المتأججة في الشعر والرواية والغناء والموسيقى والعلم والسياسية وكانت البصرة، والناصرية والمدن الجنوبية الأخرى مراكز إبداع وإشعاع ونشاط ثقافي كبير يفيض بأنواره حتى على دول الخليج العربي البعيدة!

لقد أفلح هؤلاء القادة الطائفيون في تكوين مجتمع يهتز لتفجير مرقد قيل إنه للمهدي المنتظر الذي هو ليس سوى وهم صارخ وكذبة كبيرة، فيقومون في ليلة واحدة بقتل أكثر من ألف ومائتي إنسان برئ وهدم مئات المساجد والبيوت، مطلقين أعنف حملة انتقام وحقد في تاريخ العراق والمنطقة بأسرها، منظرين لها بثقافة طائفية بشعة مسعورة، بينما لا تهتز عمامة واحد منهم حين يفجر شارع الثقافة ويهجر أبناؤه الأحياء من أدباء وعلماء وأساتذة وأطباء وفنانين ومهندسين، ولكنهم على العكس من ذلك يسدرون في غيهم لتدمير مرتكزات تلك الثقافة بحجة نشر ما يسمى بثقافة أهل البيت والمنبر الحسيني!

zwj;لقد تباكوا فقط على الكتب الإيرانية وصور حكام إيران وعملائهم من المراجع وتلك الصور التي التهمتها النيران في الشارع المهدم، وأظهرتها شاشات تلفزيوناتهم ممرغة بالأوحال!
لقد دارت قبل أيام معركة بين وزير الثقافة الذي يقال إنه كان مؤذناً وخطيباً في جامع يحث الناس منه على الأعمال الإرهابية ونشر الثقافة السلفية والتكفيرية ووصايا بن لادن وبين وكيله الذي يريد إخراج المواكب الحسينية من بناية وزارة الثقافة، قائلاً أن محتوى الثقافة العراقية ينبغي أن يكون ثقافة عاشوراء! ولا حاجة لأن يوضح هذا الوكيل ما هي ثقافة عاشوراء هذه؟ فهذه الثقافة ما هي إلا ثقافة العويل واللطم والتطبير وشق رؤوس الأطفال وتفجير دمائهم أمام التلفزيونات العالمية! وليت الأمر ينتهي بهذه التظاهرات الدموية لمناسبة أو مناسبتين في العام، لكن هذه التظاهرات والمواكب الدموية الوحشية البشعة مستمرة على مدار السنة، فما أن تنتهي مواكب مناسبة حتى يبدأ الإعداد لمواكب المناسبة القادمة حيث أوقف الناس نشاطهم وحياتهم، وسدت الطرق والشوارع، وحصرت الدول كل نشطها على هذه المواكب، وصار شغلها وهمها الأكبر تأمين سلامتها وشعاراتها وبثها الإعلامي وإشاعة ثقافتهما المدمرة القائمة على فرض الموت وعبادته، وإطلاق صيحات الحقد والوعيد بالانتقام حتى صارت تنطبق على هذه الدولة الطائفية المؤمنة جداً الأغنية المصرية المشهورة التي تقول ( رايحة جاية من الحسين... ) ويمكن لوزارة الثقافة أن تطلبها من الإذاعة المصرية وتجعلها النشيد الوطني لعراق اليوم!
بالطبع لا بد لأمثال هؤلاء الحكام الطائفيين المتحجرين أن يفرحوا بتفجير شارع المتنبي فهم يعرفون ولو بالغريزة أنه القائل :

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟ يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ

وهو القائل : نامت نوطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ

وهو أستاذ الشاعر الذي لم يستنكف من أية كلمة في وصف أمثالهم في أواخر العصر العباسي لشدة وجعه منهم حين قال:

وإن زماناُ أنتم حكماؤه حري بأن ٌيخرى عليه ويضرطا

قادة كهؤلاء لا يمكن أن يصنعوا حياة ولا ثقافة! إنهم في الحقيقة عدميون مدمرون للحياة وللثقافة وهم لا يقلون خطراً على العراق من صدام وعلى الكيمياوي وطة الجزراوي، وأعظم فضل يسدونه للعراق وثقافة العراق هو أن يذهبوا للسكن قريباً من المقابر ليشبعوا هواياتهم في البكاء والعويل واللطم بعد أن يسلموا الحكم لمتحضرين يقدرون الحياة ويحترمونها ويجلون ثقافة الحياة والعمل والفرح الإنساني!
أما مثقفو الحالة التي يمكن أن نسميها بالوسطية في الحقل الثقافي، والذين حاولوا أن ينأوا بأنفسهم عن التجاذبات الرهيبة لكلا الجانبين الشرسين المجنونين ويحافظوا قدر استطاعتهم على استقلالهم ونقائهم النفسي والإبداعي فهم الآن يعيشون أجواء الإرهاب وغياب الأجواء التي تمكن من خلق اتحادات أدبية منتخبة ديمقراطياً بعيداً عن المحاصصة التي غزت أجواءهم أيضاً وانتفاء الخدمات خاصة الكهرباء والماء والنقل، لذلك أضحوا شبه مشلولين عن العمل. بل إن أخبار أصدقائي من العراق تتحدث عن معاناتهم القاسية من حالات كآبة قاتلة ومحاولات انتحار لدى بعضهم. كما إن قسماً كبيراً منهم غادر العراق ملتحقاً بقوافل المنفيين من المبدعين والمثقفين التي تسير على خطى شارع المتنبي وهو يشق طريقه صعوداً باتجاه القطبين! لقد تنادى كثيرون ساسة ومثقفون لنصرتهم والوقوف إلى جانبهم. وبالطبع ينبغي المشاركة ودعم وإسناد الجهود الحقيقية التي تعمل على مساعدة مثقفي العراق وهم في محنتهم وإسعاف الثقافة العراقية للخروج من مأزقها ومحنتها الراهنة، ولكن بنفس الوقت ينبغي الحذر من أولئك الذين يحاولون استغلال ظروف المثقفين الصعبة والنشاط بينهم لأغراض شخصية أو سياسية.

فلقد وجد متصيدو الأدمغة والأقلام، العريقون بالنصب والاحتيال في تردي أوضاع المثقفين وعثرات الثقافة المتواصلة فرصة ذهبية يلتحقون من خلالها بتجار الحروب. فعملوا جاهدين على استغفال المثقفين والمبدعين وتحويل الثقافة من وراء ظهورهم إلى تجارة وسمسرة ومقاولات! فثمة مؤتمرات عقدت أو ستعقد في عمان ودمشق والقاهرة وبيروت واليمن وبعض دول الخليج وباريس ولندن، وبالطبع لا يمكن الحكم عليها بالسوء قبل ظهور نتائج أعمالها، وعلينا أن نغلب حسن النية أولاً متمنين أن لا تكون أعمالها كغيرها : شعارها الدفاع عن الثقافة العراقية والمثقفين العراقيين وباطنها التكسب والارتزاق وجني الأموال من منح دول عربية وأجنبية حين يصرفون أموال هذه المنح الطائلة التي يحصلون عليها لهذه المؤتمرات على أجور بطاقات الطائرات للضيوف القادمين من الخارج والفنادق الراقية والولائم المتخمة و(إنزال ما تبقى في جيوبهم وهي الحصة الأكبر) وهم لو أرادوا خدمة الثقافة لصرفوها على إنعاش أوضاع المثقفين ومساعدة عوائلهم المعوزة والمشردة أو أيجاد أعمال لهم. ثمة سمسار آخر يعرف الكثيرون إنه جاهل أفاق أقحم نفسه على عالم المثقفين بالهوية الحزبية وجمع ثروته الكبيرة من سرقة دماء شهداء حزبه لكنه الآن صار( زعيم) ثقافة و يلقى دعماً من قيادات مليشيات كردية أمدته بالمال الوفير والحماية فصار هو وأعوانه يضغطون على هؤلاء المبدعين والمثقفين لجرهم للعبهم الخبيثة وقد نجحوا للأسف في تخريب جانب من العالم الثقافي والنفسي لهؤلاء المثقفين والمبدعين. لقد وقع شطر من الثقافة العراقية تحت سطوة هذه الهيمنة الغريبة المشوهة والتي لم تعد غامضة ولكن من الصعب حقاً أن يفهم المرء كيف يتولى شئون الثقافة العربية في العراق أبناء قومية أخرى باسم ميليشياتهم لا باسم الدولة الوطنية! إن لهؤلاء الكرد بالطبع حقهم في تقرير مصيرهم و بناء ثقافتهم ولغتهم واستعادة تراثهم، ولكن هل لهم حق التدخل في شئون ثقافة القومية الأخرى؟ هل لهم الحق في استغلال ثقافة قومية أخرى لأغراضهم السياسية؟ ترى هل وراء ذلك عطف وشفقة على عزيز قوم ذل كما يقولون ؟ وهل تبنى الثقافة الأصيلة المعتزة بنفسها وتاريخها على العطف والشفقة؟ هل يمكن لثقافة حقيقية أن يبنيها سمسار معروف بجشعه وضحالته وانحطاطه الخلقي؟

ومن الواضح إن المعيار الواضح لسلامة المؤتمرات أو المشاريع الثقافية لمساندة الثقافة العراقية والمثقفين في هذه المرحلة الحرجة هي نصاعة تاريخ القائمين عليها وبعدها عن الأغراض السياسية وشفافية مصادر التمويل وطرائق الإنفاق والجدوى الحقيقية المتحققة من المشاريع المقترحة!
وحين يتصدر قيادة العراق على المستوى الرسمي والشعبي قادة كرسوا كل هذا الخراب الحضاري والثقافي وزادوا عليه كثيراً في تخلفهم وتحجرهم، هل يتبق مجال لطرح مشروع ثقافي يعمل على جلاء القوات الأمريكية ومن معها؟ ألا يعني هذا تسليم كل مقدرات البلد لهؤلاء القادة ومشروعهم الثقافي القائم على الجهل والغيبيات وجر البلد للتناحر الديني والطائفي والاستغلال التجاري والوضاعة الخلقية ؟
لا يسع الحال سوى الاستنجاد بالمتنبي ثانية ليقدم نصيحته :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بدٌ
وبالطبع سوف يكون الأمر أهون إذا استطعنا أن نحول العدو إلى صديق حتى يحين اليوم المناسب لجلائه و بالثقافة وقوتها ومنطقها القانوني لا بالحرب غير المتكافئة التي يسمونها مقاومة وهي تقتل مقابل الجندي الأمريكي الواحد مائة عراقي بريء! لقد قالت العرب قديماً (عدو عاقل خير من صديق جاهل) وبالطبع لا يمكن القول أن الأمريكيين عقلاء وحكماء فهم لديهم طبعاً خطاياهم وأخطاءهم وغباءهم لكنهم يظلون أعقل من القادة الطائفيين الأنانيين الفارغين المغلقين على طوائفهم، وأعقل من جند القاعدة ومن يتعاون معهم أو يحتضنهم ويريد تحرير البلاد تحت فكرهم ومشاريعهم التدميرية والظلامية! والأمريكيون في الأقل يعترفون بأخطائهم ويحاولون التكفير عنها أو تلافيها وهم أصحاب حضارة وأصحاب علم ويمكن الاستفادة منهم كثيراً سواء أحببناهم أم كرهناهم لذا يمكن القول إن عدواً عالماً متحضراً خير من قريب أو شقيق جاهل متخلف أحمق مجنون! أمام نضوب ثقافة القادة والتجمعات التي ستبقى مهيمنة على العراق إلى أمد بعيد بالسطوة الدينية والفتاوى المقدسة والتي تريد سجن العراق في ماض مندثر مقفر وإلى الأبد يبدو أن ثقافة تحويل العدو الأمريكي إلى صديق ثم الخلاص منه تدريجياً وفق مقتضيات تطور البلاد الأمني والحضاري هي ليست ثقافة همبركر وستربتيز! إنها أكثر جدية من ذلك بكثير! وهي لن تتعارض مطلقاً مع المشروع الثقافي الوطني الذي يعمل على إجلاء الجوهر الأصيل والحقيقي لثقافة العراق وترسيخ كل قيمها الصحيحة والإيجابية وطرح كل ما تراكم عليها من أكاذيب وأوهام وشعارات فضفاضة وقشور براقة خاصة بعد إن ابتلعها الدين اليوم تماماً. لقد هضمت الثقافة العراقية عبر تاريخا الطويل صدمات كل الغزوات القديمة بما فيها مفاهيم الفتح الإسلامي للعراق وقد ظلت في كل تطلعاتها أقرب لروح ملحمة جلجامش وقصائد أور وآشور والمعتزلة والتمردات العظيمة على صولجانات الخلافة وشيوخ الإسلام النائمين في حرير السلاطين!

لا يمكن القول أن شارع المتنبي الممتد خارج العراق يزخر فقط بمبدعين ومثقفين منسجمين منصرفين للإبداع والعطاء الغزير. لابد من الاعتراف أن ظواهر وعقد المنافي ترهق أرواح الكثيرين منهم، وأن ثمة صراعات ومناكفات وضغائن ما تزال بينهم، بعضها امتداد لتفتت أو عطب أصاب الروح العراقية في الداخل والخارج وبعضها نتاج لضغوط حياة المنفى ومتاعبه خاصة ما تركته أحزاب وقوى المعارضة من عقابيل وبقايا وراءها وهي تذهب لبغداد وتقدم أداءها السيئ المعروف! ولكن مبدعي المنافي استعاضوا عن وحدتهم الصعبة والقاسية بالعودة لذواتهم وتأملاتهم الخاصة وكثير منهم لاذ بمشغله أو مرصده الخاص يعمل به بصمت وهدوء. لذا فإن العطاء العراقي في الجانب الخارجي من شارع المتنبي في الأدب والفن التشكيلي والسينمائي والمسرحي والعلمي ما يزال يتدفق رائعاً و متميزاً وإن هؤلاء المبدعين الذين شابت رؤوسهم في المنافي مع تمسكهم بأفقهم الإنساني الرحيب ما زالوا يتشبثون بجذوة العراق مشتعلة أو دافئة في أعماقهم مؤكدين انتمائهم للعراق لا للطائفة أو القبيلة وهم اليوم مع أشقائهم من المبدعين الحقيقيين في الداخل أمل العراقيين بعراق حر مزدهر خال من التميز الطائفي أو العرقي يقوم عل قيم التسامح والحرية والديمقراطية آخذاً مكانه المرموق بين شعوب العالم المتحضرة السعيدة!
لابد من يوم قريب يبني به المثقفون شارع المتنبي على طراز يجمع بين بدايته الشرقية في بغداد وامتداده العالمي ولا بد لشرفاته أن تضج بهديل الحمائم الزاجلة والنوارس البيضاء ولا بد لشمس العراق أن تصعد الأفق نقية صافية دافئة كما هي في الذاكرة والقلب!