قراءة في كتاب quot;دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطينquot;

في مسعاها البحثي الجاد تحاول الباحثة ( نائلة الوعري) الإجابة عن المزيد من الأسئلة العالقة حول موضوع قديم جديد، ما انفك يحضر في المحافل والمنتديات الثقافية والبحثية، فيما تكون الإجابات حوله تعاني من التعويم والتهويم ، بل وفي الكثير من الأحيان التداخل، ولعل غلبة الحماس وطغيان العواطف، كانت بمثابة المعيق الذي يقف في وجه القراءة العلمية الهادئة الرصينة، ومن هذا الباب تتبدى أهمية دراسة الباحثة( الوعري)، الصادر عن دار الشروق عام 2007، في 401 صفحة من القطع الكبير. والتي استندت فيها إلى روح المراجعة الهادئة والقراءة الرصينة البعيدة عن الأحكام الجاهزة والمسلمات الثابتة.

الرؤية والمنطلقات
ركزت الباحثة فترة دراستها بين العامين 1840-1914، حيث الأحوال والأوضاع التي راحت تبرز بقسماتها على الدولة العثمانية، لا سيما في منطقة نفوذها عند سواحل البحر المتوسط، والمدى الذي سعت فيه القوى الأوربية، من أجل فرض حضورها ، إنطلاقا من واقع التنافس الدولي القائم فيم بينها، فيما كان لسيطرة محمد علي باشا على بلاد الشام خلال العام 1831 دوره البالغ في ظهور مصطلح المسألة الشرقية ، والذي راح يتم تداوله بين القوى الأوربية، حول مسألة التركة والوراثة لأملاك الدولة العثمانية، والتي راحت تعاني من الوهن والتمزق والتفكك.فيما ساهمت الحركات الانفصالية والتي برزت في العديد من أقاليم بلاد الشام، في إضعاف السيطرة العثمانية ، وفسح المجال واسعا أمام القناصل الأجانب لمد نفوذهم في المنطقة ، فيما شهدت القدس خلال الفترة الواقعة بين 1831-1840 نموا واسعا لنفوذ هؤلاء في مدينة القدس.والواقع أن القنصليات البريطانية والفرنسية والروسية كان لها الدور البارز في توجيه بدايات الهجرة، والباحثة الوعري تضع يدها على مفارقة تاريخية شديدة التلميح حين تشير(( إن قناصل الدول الأوربية وبخاصة القناصل البريطانيين استطاعوا إحباط روح المقاومة ضد الحكم العثماني، ليس حبا في العثمانيين أو دعما لهم وإنما في محاولة من هذه الدول الاستفادة من علاقتها بالدولة العثمانية لزيادة تغلغلها في بلاد الشام وفلسطين)) ص 35.

الركائز والمحاولات
الإشارة الأبرز تكمن في المحاولة التي ندت عن نابليون بونابرت خلال حملته العسكرية على بلاد الشام عام 1799، ومحاولته الاتصال بالزعامات اليهودية من أجل دعمه، فيما كان موقفهم الرفض بحساب الخشية على مصالحهم وارتباطاتهم القوية مع الدولة العثمانية، وفي ذات الوقت يكون الرصد لمجمل التوجهات الفرنسية حول القضية اليهودية ، والتي تمثلت في الإجراءات الرسمية حيث التطلع إلى مساواة الجالية اليهودية بالمواطنين الفرنسيين أما القانون، والنشاط الذي بذله المجلس اليهودي الفرنسي من أجل الحظوة بالدعم من قبل الحكومة في دعم مشروع إنشاء وطن قومي لهم.
توجهت بريطانيا نحو غرس نفوذها في بلاد فلسطين، عبر تعيينها وليم يونج عام 1838 في مدينة القدس، هذا الأخير الذي لم يدخر وسعا في سبيل دعم النفوذ اليهودي، إلى الحد الذي غدا فيه مصدرا للمعلومات وأداة للضغط على الرأي العام.وجاءت حرب القرم 1854- 1856 ، لتوسع مدار التدخل الأوربي في بلاد الشام ، مما كان له الأثر البالغ في توجيه أنظار الحركة اليهودية نحو فلسطين، ولم يغب دور القناصل في مجال الضغوط الدينية والمذهبية ، غذ قدمت روسيا نفسها بوصفها المدافع والمنافح عن مصالح الأرثوذكس، في الوقت الذي تحرك الجانب الفرنسي نحو حماية مصالح الكاثوليك في المنطقة.وكان للعامل الاقتصادي دوره في تعزيز سيطرة القوى الأوربية على موجهات المصالح ، حيث تم العمل على تحييد الدور العثماني، والعمل على إفساح المجال أمام النفوذ اليهودي لتوسيع دوره في المنطقة، بحكم القوة المالية التي يملكون. ومن هذا الواقع قيض للحركة اليهودية المنظمة من تحديد مسار الهجرة إلى أرض فلسطين ، حيث بلغ عدد المهاجرين خلال الفترة 1882-1903 حوالي 20- 30 ألفا قدموا من روسيا ورومانيا وبولندا.أما الفترة الواقعة بين 1904- 1914 فقد توسعت فيها الهجرة القادمة من روسيا، حيث بلغ أعداد المهاجرين ما يقارب الـ 35- 40 ألفا.

خيوط النشاط
تترصد الباحثة إشكالية الوقوف على نشأة النظام القنصلي، ومن هذا تسعى نحو تتبع خيوطه، عبر ترصد نشوء نظام الامتيازات الأجنبية والذي تم إقراره خلال عهد السلطان سليمان القانوني عام 1535، وحالة الاعتماد على القناصل في توجيه المصالح والمشاريع الاقتصادية التابعة لها.حتى قيض لسردينيا من إنشاء أول قنصلية لها في القدس، لتعقبها الدول الأوربية الأخرى، حيث شهدت الفترة الواقعة بين 1839-1914 تعاقب ثمانية قناصل بريطانيين، وتسعة ألمان وأربعة عشر فرنسيا، وثلاثة نمساويين. وقد تركزت مجمل أنشطتهم في المجال التجاري والاجتماعي ومتابعة شؤون الأقليات الدينية.والواقع أن الجانب التنافسي بين القوى الأوربية كانت آثاره قد برزت على صعيد حالة الموالاة والانقسامية المفرطة التي عززتها المصالح الأوربية، حتى بدت فرنسا تقدم نفسها مدافعة عن مصالح الموارنة في جبل لبنان، فيما راحت بريطانيا تعزز من رصيد علاقاتها مع الدروز.
من هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، برزت حالة الصدام المباشر، والذي اتخذ بعده الطائفي في جبل لبنان، أو الصراع العائلي في مدن نابلس والقدس، وبإزاء المحاباة الواضحة التي درج عليها البريطانيون والفرنسيون في علاقتهم بالمسيحيين، فإن المسلمين راحوا يرصدون هذا الواقع بعين الريبة والشك والحذر الشديد. ولم يفت على القناصل محاولة زعزعة السلام الاجتماعي، عبر التدخل في التفاصيل اليومية ومحاولة تحريض الأقليات ضد السكان، فقد سعى القنصل البريطاني في صفد إلى تضخيم حالة الصدام التي شهدتها المدينة بين اليهود والمسلمين. أو حالة التطلع نحو تفعيل عمل الجمعيات والمؤسسات التبشيرية، فيما تصاعد دور مساعدي القناصل، والذين تم اختيارهم بناء على تقسيمات دينية من أجل بث الفتنة بين الزعماء المحليين ، تحت ذريعة حماية المصالح التجارية.

المساعي البريطانية
على الرغم من التتبع التاريخي لدور القناصل الأوربيين في فلسطين، إلا أن الباحثة تتوقف وبتفصيل أدق عند دور القناصل البريطانيين ، وهذا بحكم سعة الدور وقوته، حيث بات التركيز على المناطق الساحلية، فقد تم إنشاء مكاتب تمثيل قنصلي في حيفا وعكا ويافا.وقد ارتبط هذا الأمر بمراقبة مجمل النشاط التجاري في الموانئ، بالإضافة إلى محاولة إحكام الجانب العسكري البريطاني على السواحل.وكانت القنصلية البريطانية في القدس قد بدأت مساعيها خلال العام 1858 ، في تقديم حمايتها المباشرة للرعايا اليهود القادمين لزيارة الأراضي المقدسة تحت دوى حمايتهم.هذا بالإضافة إلى حماية مصالح البروتستانت، والواقع أن القنصل يونج قد جعل من القنصلية بمثابة الإدارة الأجنبية الساعية إلى تمثيل المصالح اليهودية في القدس، وهذا ما توضح في المكاتبات الرسمية الصادرة عن القنصل، والموجهة إلى قاضي مدينة القدس.ولم يختلف أسلوب القنصل الجديد جيمس فن عن سلفه ، والذي راح يعمل على تكريس حالة توثيق العلاقة مع الطائفة اليهودية في القدس، والسعي على التدخل في الشؤون الداخلية والعمل على بث الصراعات الطائفية والعرقية.
توسعت دائرة اهتمامات القنصل البريطاني المستر فن ، عند المجال الاقتصادي ، حتى راح يوطد علاقاته بكبار الملاك والمنتجين ، وعمد للتفاوض حول قضايا تصدير الزيتون والقطن وتركيز النشاط في ميناء يافا، تلك المدينة التي راح يسعى فيها إلى توسعة البوابة في سورها من أجل العمل على نقل البضائع وبكميات كبيرة إلى الميناء.أما التطور الأخطر في دور القناصل فإنه يتبدى في الدور الذي لعبه القنصل تمبل مور الذي عين في منصبه عام 1863، وكان نشاطه قد تركز في مجال مساعدة اليهود في شراء المزيد من الأراضي في فلسطين.