بلا ريب، أن انقلاب البعث العراقي على حكم عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط 1963 مهد بعد شهر الطريق أمام مجموعة من الضباط البعثيين السوريين، من بينهم الرئيس الراحل حافظ الأسد، للانقلاب على حكم الانفصال في دمشق والاطاحة بالرئيس ناظم القدسي. وقد قدم الانقلابيون، في كل من بغداد ودمشق، حركتهم على أنها ثورة جماهيرية شعبية فجرها حزب البعث وانتصار تاريخي للمشروع القومي العربي الوحدوي التحرري على الرجعية والتخلف والإقطاع. لكن لم تمض أشهر حتى بدأت تسوء العلاقة بين البلدين الجارين وسرعان ما تعمقت التناقضات السياسية والعقائدية والحزبية بين جناحي البعث بلغت مستوى التهديد بنشوب نزاع مسلح بين سوريا والعراق، واستمرت القطيعة الدبلوماسية بين البلدين حتى قبيل الغزو الأمريكي للعراق وسقوط بغداد في التاسع من شهر نيسان 2003 وانهاء حكم البعث في العراق.
كما هو حال جميع أنظمة الحزب الواحد، أقام البعث في سوريا حكماً شمولياً احتكر لنفسه السلطة والقرار ولم يوفر جهداً في قمع الآراء الخارجة عن الخط الرسمي للنظام واعتبار كل رأي معارض خروج عن الشرعية الثورية وتهديد للوحدة الوطنية وإضعاف الشعور القومي و النيل من هيبة الدولة وتوهين نفسية الأمة. حتى أضحت هذه النعوت اليوم تهم جاهزة يدان بها غالبية المعارضين والناشطين السياسيين من قبل المحاكم الاستثنائية التي تشكلت في سوريا بموجب قانون الطوارئ الذي فرضه البعث على البلاد منذ اليوم الأول لانقلابه على السلطة. حمل انقلاب التصحيح الذي قاده الرئيس الراحل حافظ الأسد في تشرين الثاني 1970، بعض التغيرات والإصلاحات على النظام السياسي وآليات الحكم في سوريا، ابرزها إحداث مجلس الشعب- أعلى سلطة تشريعية- وتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية، ضمت غالبية الأحزاب الموجودة على الساحة السورية آنذاك، لكن من غير أن تُحدث هذه الهيئات والأطر السياسية المستحدثة أي تغير مهم على بنية النظام القائم وهي لم تفيد كثيراً الحياة السياسية في سوريا، لا بل أنها مكنت النظام من التمسك بالسلطة بشكل افضل وإحكام سيطرته على جميع مفاصل الدولة والمجتمع. وبحسب، الباحث والمحلل السياسي الفرنسي، باتريك سيل: ))كان حافظ الأسد ينظر الى الديمقراطية على أنها الفوضى التي قد تهدد وتفكك وحدة وتماسك كيان الدولة السورية من جهة، ويخشى من أن تتحول الديمقراطية الفعلية الى مصدر قلق وارباك لحكمه وتحد من طموحاته الإقليمية((. وبالفعل اتسمت السياسية السورية بالانغماس المتزايد في القضايا العربية والإقليمية في عهد الرئيس حافظ الأسد الذي كان يبحث لنفسه عن دور و نفوذ سياسي قوي أكبر من حجمها ووزن سوريا في ادارة أزمات المنطقة، مستفيداً من ظروف الحرب الباردة وتناقضات المجتمع الدولي، كان هذا الدور على حساب قضايا داخلية عديدة واساسية كقضية التنمية والديمقراطية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الحليف التقليدي للنظام السوري، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على العالم بدأت سوريا تدفع ثمن تلك السياسات الإقليمية الخاطئة، حيث هي تعاني منذ سنوات من عزلة إقليمية ودولية على خلفية العديد من الملفات الإقليمية الساخنة. في تموز 2000 دخلت سوريا عهداً سياسياً جديداً مع الرئيس الشاب بشار الأسد، الذي خلف والده في الحكم بطريقة هادئة ومن غير أن يحصل ما كان يتوقعه أو يخشاه البعض. فقد شكل خطاب القسم للرئيس بشار، بما حمله من لغة سياسية جديدة تجاه الرأي الآخر ووعوداً باجراء اصلاحات هامة في سوريا ، مصدر تفاؤل وارتياح لدى مختلف الأوساط السورية. وبعد عقود طويلة من الانحباس السياسي والتضييق على المعارضة والعسف بها، شهدت سوريا حراكاً سياسياً وثقافياً وإعلامياً وحقوقياً معارضاً لنهج السلطة ولخطاب البعث الحاكم، بدت فيه المعارضة وكأنها في سباق مع الزمن السوري من أجل إحداث معجزة سياسية ما، ينتظرها الشعب السوري المستاء من أوضاعه الاقتصادية والسياسية، من غير أن تزن وتقدر المعارضة وزنها الحقيقي في الشارع ومدى قدرتها على التحدي والدفاع عن فسيحات الحرية التي وفرها العهد الجديد في سياق جملة تحولات مهمة وعميقة حصلت في المناخ الإقليمي والدولي لصالح قضية الديمقراطية والحريات في العالم. إذ لم تمض أشهر حتى تراجع النظام السوري عن هذا الهامش المحدود من الحريات وأقدمت السلطات الأمنية على إغلاق المنتديات والمنابر التي أقامتها المعارضة وقمع الاعتصامات الرمزية التي كانت تنفذها احتجاجاً على استمرار حالة الطوارئ في البلاد، متذرعاً (النظام)بالضغوط الخارجية المتزايدة على سوريا، زاعماً بوجود مؤامرة تستهدف أمن واستقرار البلاد، ومتهماً بعض قوى المعارضة بالتواطؤ مع هذه الضغوط والاستفادة منها في سعيها لزعزعة الاستقرار الداخلي ، خاصة وقد تزامن تأسيس (اعلان دمشق) للتغير الديمقراطي الذي انضوت تحته غالبية قوى المعارضة العربية والكردية والآشورية في تشرين الثاني 2005، مع ذروة هذه الضغوط الخارجية التي تصاعدت على النظام بسبب الأزمة اللبنانية. هذه الاجراءات الأمنية دفعت المعارضة السورية للانكماش والانكفاء على الذات من جديد، وعادت معها مشاعر الإحباط واليأس الى الشارع السوري. تأتي ذكرى انقلاب البعث هذا العام عشية موسم الانتخابات السورية، انتخابات مجلس الشعب، مجالس البلديات، الاستفتاء على ولاية ثانية للرئيس. بالطبع لا أحد يراهن على هذه الانتخابات في إحداث تغيير سياسي ما في سوريا، باعتبارها ستجري في ظل دستور وضعه البعث فرض بموجبه نفسه قائداً للدولة والمجتمع وبغياب قانون يرخص عمل الأحزاب كما أنها ستجرى وفق قانون انتخاب يضمن للبعث الحاكم أغلبية المقاعد فضلاً عن التدخل المباشر وغير المباشر للأجهزة الأمنية في ترشح وانتخاب النواب المستقلين، لهذا قررت قوى المعارضة المحظورة تلك المنضوية في اعلان دمشق مقاطعة هذه الانتخابات. وبالنسبة للاستفتاء على تجديد ولاية الرئيس بشار لا أظن أحداً في أوساط المعارضة السورية يقف عندها و يناقشها لأنها قضية محسومة. جدير بالذكر أن الرئيس بشار الاسد في لقاء متلفز له مع الوفد الاعلامي الامريكي، بدمشق يوم الخميس 13-5-2004، قال: ))الانتخابات الحرة في سوريا قادمة. أنا لا اهتم بمنصبي، فقد أكون خارج وظيفتي في اية دقيقة. لكنني كسوري لدي واجب تجاه بلدي. هذه هي الطريقة الوحيدة للحكم من هذا المنصب. وعندما اشعر بأنه لا يمكنني أن أقدم شيئاً لبلدي قد أغادر.. ((. يبدو أن موعد الانتخابات الحرة والديمقراطية وتداول السلطة في سوريا لم يحن بعد. وهذا يعني أن مسيرة الإصلاح والتطوير، التي أكد الرئيس بشار على أنها ستستمر بالرغم من كل ما يعترضها من عقبات وعثرات، لم تنطلق بعد. إذ ما من مجتمع يمكنه التطور والتقدم، بدون وجود مناخ كاف من الحريات الديمقراطية والسياسية والاقتصادية والفكرية تعمل وتتنشط فيه فعاليات المجتمع المدني ومختلف قواه الحية. ومن غير صحافة حرة، ومعارضة سياسية في الداخل، تكتب، بحرية وبدون خوف. تقييم دور الحكومة وتنتقدها على أخطاءها وتقصيراتها وتلاحق مصادر الفساد في أجهزة الدولة، وكذلك من غير قضاء نزيه ومستقل يحاكم ويحاسب المسيئين والمقصرين. لا جدال على وجود مصاعب حقيقة تعترض اصلاح الدولة السورية التي ترهلت بسبب البيروقراطية والمحسوبيات والفساد السياسي والمالي المستشري فيها، وقد شبه الرئيس بشار في أحد خطاباته حال الدولة السورية بسيارة قديمة لا قدرة لها على السير بسرعة عالية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل هذه المصاعب تبرر كل هذا البطء والتأخير والجمود في مسيرة الإصلاح والتحديث وقد شارفت الولاية الأولى للرئيس بشار على الانتهاء، خاصة إذا ما توفرت إرادة حقيقة للإصلاح؟. حتى فيما يخص الإصلاحات الاقتصادية التي أعطاها الرئيس الأولوية ما أنجز منها لا يذكر. ويبدو أن القرارات والتوصيات التي اتخذها المؤتمر القطري الأخير (العاشر) لحزب البعث الحاكم الذي عقد صيف 2005، المتعلقة بتصحيح العلاقة بين الحزب والسلطة وصدور قانون الأحزاب وتعديل قانون المطبوعات ومنح الجنسية السورية للمحرومين منها، تأجل تنفيذها وربما تم التخلي عنها. اليوم وقد مضى نحو نصف قرن على حكم البعث لسوريا، يبدو الزمن السوري قد توقف عند تلك الشعارات والمقولات الآيديولوجية المهزومة والمتآكلة التي تحصن البعث بها مسوغاً لانقلابه على السلطة واحتكاره لها، أضرت كثيراً بالمفاهيم الديمقراطية وبحقوق الإنسان وحقوق المواطنة، حتى أضحت سوريا اليوم دولة خرج عصرها.