-1-
مرت قبل أيام (16/3/1988) الذكرى التاسعة عشرة لمذبحة الكرد في حلبجة في 16/3/1988 ، والتي كانت بمثابة هولوكوست مرعب وفظيع في تاريخ العرب والكرد على السواء. فلم يفتك العرب بغيرهم كما فتكوا بالكرد في 1988. لقد فتك العرب المسلمون باليهود في المدينة المنورة، فيما عُرف بنكبة اليهود. ولكن هذا الفتك لم يصل الى الحد الذي وصل اليه في 1988 في حلبجة وغيرها من المناطق الكردية. ولقد لعبت الإيديولوجية البعثية النازية دوراً مهماً في تصعيد هذا الفتك ووحشيته. فتاريخ العرب كغيرهم من شعوب الأرض، يقول لنا بأنه كان لنا باع طويل بالفتك باعدائنا قبل الإسلام وبعد الإسلام. ولكن كان الإسلام بتعاليمه السمحة، في معظم الأحيان، عاملاً هاماً في أنسنة الحروب والغزوات التي شنها العرب على غيرهم من شعوب الأرض. ولكن لم يسجل التاريخ فظائع وحشية كما سجلها عام 1988.

-2-
كُتب الكثير عن هولوكوست البعث في العراق، سواء ضد الكرد أو ضد الشيعة، وكذلك ضد السنة من المعارضة العراقية. ويروي الدكتور جواد هاشم وزير التخطيط العراقي السابق، والذي انشق على حكم صدام، ولجأ الى كندا، في كتابه المهم (مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام 1967-2000)، قصة المجازر الجماعية التي كان يقيمها ليس الحكم الذي كان قائماً في العراق، ولكن عصابات البعث الحاكمة في العراق. فلم يكن في العراق حكماً سياسياً، ولكن كانت هناك عصابات تحكم. وكان رئيس هذه العصابات صدام حسين، التي حكمت العراق عشرات السنوات بمنطق العصابة، وليس بأي منطق من نظم الحكم المستبدة والطاغية التي شهدها تاريخ البشرية. ولقد سبقت عصابة البعث في العراق أساليب ووقائع النازية في اجرامها واستبدادها وعنفها. وسنعرف في حلقات الدراسة التي نعدها الآن عن (القهر والعذاب في تاريخ البعثية والنازية) ونبدأ بنشرها قريباً على صفحات quot;إيلافquot; وغيرها من الوسائل الإعلامية الأخرى، ثم نصدرها في كتاب بهذا العنوان، كيف أسس البعث في العراق وسوريا على وجه الخصوص لفقه العنف والطغيان الذي ما زالت آثاره موجود حتى الآن في العالم العربي.

-3-
يروي لنا العراقيون الأحرار، ومنهم عبد الخالق حسين، مشاهد سريعة من هولوكوست البعث أثناء كان في السلطة. فيقول أن حزب البعث عند تسلمه الحكم بعد انقلاب 8 شباط 1963 تبنى إرهاب السلطة ضد الشعب، وتم قتل نحو 20 ألفاً من خيرة المواطنين العراقيين من الديمقراطيين واليساريين. وحوَّل ساحات الملاعب الرياضية والشوارع وقاعات الأندية إلى معتقلات، لأن السجون والمعتقلات امتلأت ولم تكفِ لاستيعاب الألوف من الذين تم اعتقالهم.
ويتابع عبد الخالق حسين سرد مشاهد الهولوكوست البعثي، فيقول: بعد اغتصاب البعث السلطة للمرة الثانية عام 1968، أحالوا العراق إلى أكبر سجن، وأكبر مقبرة جماعية لضحايا إرهابهم، بعد أن استفادوا من تجربة عام 1963 الفاشلة عندما انقلب عليهم حليفهم عبدالسلام عارف، فقرروا في هذه المرة الحفاظ على السلطة بأسنانهم، وأظافرهم وبأي ثمن كان.
ويستشهد عبد الخالق حسين بقول شاهد عيان، وهو الدكتور جواد هاشم وزير التخطيط العراقي في أوائل السبعينات، قوله في كتابه السابق الذكر، أنه في أحد اجتماعات مجلس الوزراء، فاجأهم صدام حسين بالقول أن تجربة عام 1963 سوف لن تتكرر، وحزب البعث جاء إلى السلطة هذه المرة ليحكم، ليس لثلاثين سنة، بل لـ300 سنة. وهذا لا يتم إلا بتخصيص ميزانية قوية لمالية الحزب. فتمَّ إصدار قرار وزاري في ذلك الاجتماع، بتأميم حصة كولبنكيان الـ 5% من النفط، وتخصيصه إلى مالية الحزب. وحسب تقديرات الدكتور جواد هاشم، بلغ هذا المبلغ مع أرباحه المتراكمة حوالي 40 مليار دولار في عام 1990.

-4-
لا كلام جديداً يمكن أن يقال في هذه الذكرى الأليمة، غير تكرار القول، بأن الكرد والعرب الشيعة والمعارضين من العرب السنة، قد ذاقوا وشهدوا من صنوف العذاب والاجرام ما يشيب له الولدان.
هذا مهم.
ولكن الأهم من ذلك، هو أن الشعب العراقي، منذ ذلك الحين، قد اتُهم بالعنف من جانب، ومن جانب آخر بأنه شعب لا يُحكم إلا بالحديد والنار. وهذا خطأ تاريخي جسيم. فالذي رسّخ أيديولوجية العنف والعذاب في تاريخ العراق الحديث، هو حزب البعث، بل هي فئة قليلة من التكارتة البعثيين الذين احتكروا الحكم، بينما ظلت الأكثرية خارج الحكم. وقراءة سريعة لتاريخ العراق، وتاريخ الشعب العراقي، تقول لنا بأن الشعب العراقي بطبعه شعب رقيق وحالم، ومحب للحياة، كاره للعنف، نابذ للعذاب والقهر. وهذا الشعب هو الذي اخرج لنا أجمل الشعراء الرومانسيين منذ بدء العصر العباسي الأول (750-861م) حتى الآن. وفي العصر الحديث ظهر أجمل الشعراء الحداثيين العرب من العراق، بدءاً بنازك الملائكة وانتهاءً بعبد القادر الجنابي، الذي يعتبر في طليعة الشعراء العرب السورياليين. وبلد الشعراء دائماً، هو بلد السلام، والحب، والمحبة. وعندما سطا حزب البعث النازي بامتياز، على الحكم عام 1963 قتل الشعراء العراقيين قهراً، وعذاباً. وطردهم من العراق، ومن الأرض. وأصبح حزب البعث هو الشاعر العراقي الوحيد. وأصبح العراق بلا شعراء حقيقيين، ولكنه كان مليئاً بالجلادين والقتلة المؤدلجين بعناية، منذ بثَّ ساطع الحصري (أبو خلدون) قيم العوربة المستمدة تاريخياً من قيم الألمنة القومية النازية، كما هو معروف. ولهذا قصة طويلة، لا مجال لها هنا.

-5-
ماذا نقول اليوم ndash; نحن العرب المثقفين الليبراليين ndash; للأخوة الكرد؟
أقل ما يقال، أننا كنا مجرمين في حقهم. ورغم هذه الجريمة الكبرى الشنعاء إلا أننا لم نسمع من مسؤول عربي، أو مسلم، أو عراقي، كلمة اعتذار واحدة للأخوة الكرد.
يا الهي على هذه الصلافة وهذه العنجهية. وندعي أننا أمة متحضرة، وبأننا خير أمة اخرجت للناس، وننسى شرط هذا الاختيار الالهي لنا، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمنكر هنا، ليس شرب الخمر، وملامسة النساء، والسرقة، والكذب، وغير ذلك من الرذائل الكريهة. ولكن المنكر هنا هو أيضاً، السكوت عن الحق. فالرجال تُعرف بالحق. ولا يعرف الحق بالرجال. ولقد سكتنا طويلاً عن الحق، وما زلنا ساكتين.
فإلى الآن، لا مثقف عربياً بارزاً اعتذرللكرد نيابة عن عصابات البعث.
يجب أن نقف جميعاً في فجر ذكرى هولوكوست حلبجة من كل عام عراةً حفاةً سراةً ، أمام حقيقة ما ارتكبناه في حق الكرد.
فالألمان، سوف يبقون معتذرين لليهود عما فعله هتلر النازي بهم، إلى يوم يبعثون.
فهل نملك نحن العرب قطرة من المروءة الألمانية، والأخلاق الجرمانية، ذات القيم الانسانية الرفيعة؟
أم أننا ما زلنا لنا الصدر دون العالمين أو القهر، وهو الذي يؤدي الى القبر؟
يا لنا من أمة مضحكة، متعجرفة، ظالمة، ذات كبرياء أجوف، ويلزمها الكثير من عرفان الذات.
السلام عليكم.