لم يجب رئيس مجلس النوّاب اللبناني السيّد نبيه برّي عن أي من الأسئلة الحقيقية المطروحة في لبنان. واذا كان مؤتمره الصحافي محاولة للتغطية على الأعتصام الذي يشهده وسط بيروت منذ الأوّل من ديسمبر- كانون الأوّل الماضي، فالأكيد انّه لم يكن موفّقاً في ذلك. لم يكن موفّقاً، خصوصا انّه حاول تبرير هذا الأعتصام الذي يستهدف اللبنانيين، كل اللبنانيين، من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق بأستثناء أولئك الذين يقبضون مخصّصاتهم الشهرية أو اليومية من ألنظام الأيراني في طبيعة الحال. هؤلاء أيضاً من كلّ الطوائف والمذهب والمناطق وهو ما يجب أن تُشكر عليه طهران لعدم تفريقها بين لبناني وآخر متى كان الأمر يتعلّق بتعطيل الحياة في الوطن الصغير ونشر البؤس والتخلّف فيه تمهيداً لضمّه ألى المحور الأيراني-السوري...
لو كانت لدى الرئيس برّي كلمة حق يستطيع قولها، لكان سارع ألى التنديد بالأعتصام والمعتصمين وسأل quot;حزب اللهquot; كيف يمكن أن يسمح لنفسه بتوجيه سلاحه ألى لبنان واللبنانيين والأضرار بمصالح البلد؟ هل يتجرّأ رئيس مجلس النواب على طرح مل هذا النوع من الأسئلة، أم انّه ممنوع من ذلك ولا يستطيع حتى مقاربة مثل هذا النوع من المسائل التي لا مفرّ من معالجتها في حال كان مطلوباً تفادي حرب أهلية في لبنان ووضع حدّ للشرخ المذهبي والطائفي في البلد.
حاول برّي اغراق اللبنانيين في التفاصيل، تفاصيل المحكمة ذات الطابع الدولي وتفاصيل تشكيل حكومة لبنانية جديدة، فيها الثلث المعطّل الذي لا يستقيل بضمانة سعودية، وكأنّ قضيّة المحكمة قضيّة لبنانية لا علاقة للنظام السوري بها. يريد من اللبنانيين أن يصدّقوا ما قاله الرئيس بشّار الأسد عن أن المحكمة ذات الطابع لدولي في قضية أغتيال الرئيس رفيق الحريري شأن لبناني لا علاقة للنظام السوري به،وأن المحكمة في حدّ ذاتها موضع خلاف بين اللبنانيين. كلّ ما فعله رئيس مجلس النواب اللبناني أنّه أراد ابلاغ مواطنيه والعالم أن الرئيس السوري على حقّ وأن لا علاقة لنظامه بأغتيال الحريري والشخصيات اللبنانية الأخرى أبتداء من سمير قصير وأنتهاء ببيار أمين الجميّل مروراً بجورج حاوي وجبران تويني... ولا حتى بعصابة quot;فتح الأسلامquot;، التنظيم المسؤول عن تفجيري عين علق في الثاث عشر من فبراير- شباط الماضي.
كان المؤتمر الصحافي لرئيس مجلس النوّاب اللبناني مناورة ذات أهداف عدّة تصبّ في أتجاه واحد هو تعطيل الحياة السياسية في البلد على غرار ما حصل بعد السادس من فبراير-شباط 1984 في عهد الرئيس أمين الجميّل. وقتذاك، نزلت ميليشيات المعارضة ألى الشارع وطردت الجيش اللبناني من بيروت الغربية أثر ما سمّي quot;أنتفاضة السادس من شباطquot;. أستطاعت المعارضة، وكانت تضمّ ميليشيا الحزب الأشتراكي، بعد الأنتفاضة quot;المجيدةquot; فرض quot;حكومة أقطابquot; برئاسة الرئيس رشيد كرامي، رحمة الله عليه، على الرئيس الجميّل. والواقع أن عهد أمين الجميّل أنتهى في تلك اللحظة، اذ تعطّلت الحياة السياسية في البلد... ولم يخرج لبنان من حروبه الداخلية وحروبه الصغيرة وحروب الآخرين على أرضه ألاّ أثر أنهاء تمرّد ميشال عون الذي كان يحتلّ قصر بعبدا، ميشال عون الذي سهّل بغبائه المعهود، الذي يبدو أن لا حدود له، فرض السلام السوري على البلد.
لم يتغيّر شيء في عقل نبيه برّي. لا يزال يعيش أنتفاضة السادس من شباط من العام 1984 التي جلبت الويلات على بيروت، أذ قضت على ما بقي من آثار الحضارة في المدينة وهجّرت كل شاب يمتلك مؤهلات وقادر على أيجاد فرصة عمل في الخارج.
في هذه الأيام، لا توجد سوى ميليشيا واحدة في البلد، مهما حاول برّي الحديث عن تسليح وتدريبات لدى آخرين. هذه الميليشيا هي ميليشيا quot;حزب اللهquot; الذي لم يستطع أحتلال بيروت الغربية كلّها، كما فشلت أداته المستأجرة الممثلة بquot;الجنرالquot; في السيطرة على بيروت الشرقية. أنّه حزب أخذ لبنان ألى حرب الصيف الماضي التي أوقفت الحوار بين اللبنانيين وجلبت لهم ولبلدهم الكوارث. هذا الحزب لا يفكّر سوى بالأمساك مجدداً بالمدينة بغية أستكمال الأنقلاب على الشرعية أرضاء للرغبة السورية. ولذلك ليس صدفة أحتلاله لوسط بيروت من أجل زرع بذور التقسيم في البلد وتكريس الشرخ المذهبي فيه. كلّ كلام مختلف لا فائدة منه. هذا هو الواقع الذي يعيشه لبنان والذي أراد رئيس مجلس النوّاب تغطيته، حتّى لا نقول تكريسه، عبر مؤتمره الصحافي. لم يكن موفّقاً في ذلك لسبب في غاية البساطة يتمثّل في أنّه يسعى، على غرار النظام السوري، ألى أستعادة تجربة من عصر مختلف. الكتاب الذي يقرأ منه نبيه برّي هو والنظام السوري واحد في حين أنّ العصر مختلف. قبل كلّ شيء، أن سعد الحريري ليس بالسذاجة التي يتصورها رئيس مجلس النوّاب الذي يراهن على التفريق بينه وبين الزعيم الوطني العربي وليد جنبلاط. والأهمّ من ذلك كلّه أن السنّة في لبنان تغيّروا فيما أدرك المسيحيون، ولو متأخّرين، خطورة ما يمثّله ميشال عون عليهم وعلى مستقبلهم. أضافة ألى ذلك كلّه، نسي الرئيس نبيه برّي شيئاً واحداً هو أن السنّة بنزولهم ألى الشارع أثر أغتيال رفيق الحريري أخرجوا الجيش السوري من لبنان... وانّهم رأس الحربة في معركة الأستقلال وأقرار المحكمة ذات الطابع الدولي التي لا يستطيع النظام السوري حتى السماع بأسمها!