تشتد مطالبة عدد كبير من قيادات الحزب الديمقراطي الأمريكي بوضع جدول زمني فوري لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، بينما آخرون في الحزب يطالبون بالانسحاب الفوري مراعاة منهم للعواطف الملتهبة للشارع، ونكاية بكل ما تفعله إدارة بوش. الانسحاب الفوري، أو الجدول الزمني هو أيضا ما تطالب به إيران وسوريا، كما أكدتا مجددا في مؤتمر بغداد المنفض، والذي أصر فيه النظام الإيراني خاصة على إنكار تدخله الواسع والمدمر في العراق. طبعا نعرف مطالبة القاعديين والصداميين، ومقتدى الصدر أخيرا، بالانسحاب الفوري، ليخلو لهم الجو لمواصلة نشر العنف والفوضى. والصراع الطائفي.
كل هذه الأطراف لا تجهل أن القيادات الوطنية، والحكومة العراقية نفسها، لا تريد هذا الانسحاب في هذه المرحلة التي يتفاقم فيها الإرهاب ويزداد ضحاياه. لقد أكد العديد من الكتاب العراقيين مرارا وتكرارا، بأن تحجج الإرهابيين بورقة الوجود الأمريكي مجرد ذريعة بين ترسانة الذرائع المتكدسة عند الإرهابيين. ونقول هل من دليل جديد أقوى من تهديدات القاعدة اليوم لفرنسا وألمانيا، وهما الدولتان اللتان شكلتها مع روسيا محورا لمعارضة حرب إسقاط صدام بكل عنف واستماتة؟ هذا الخطر تنشر عنه الصحف الفرنسية كل يوم تقريا، مع صدور أحكام سجن جديدة ضد متهمين من القاعدة.
إن أي انسحاب أمريكي مستعجل سيزيد من الخطر الأمني في العراق، وسوف يجعل العراق المقر الأول للقاعديين، وذلك خلافا لما يقوله الديمقراطيون الأمريكان وكتاب عراقيون.
إن الوضع العراقي، من حيث الأمن قد أصبح في مقدمة الأوضاع السيئة في العالم، وفي تقرير دولي أخير يتصدر العراق في سوء أوضاعه العامة قائمة الدول، ومعه الصومال والسودان. نضيف بين قوسين بالمناسبة أنه من حيث الفساد أيضا، تؤكد التقارير الدولية على أن العراق هو أيضا في المقدمة، وهو الأول بين الدول العربية!]
إن صحيفة الفيجارو الفرنسية، القريبة من الحزب الديجولي، نشرت في الأسبوع الماضي تقريرا تفصيليا على صفحة كاملة عن خريطة القوى الإرهابية اليوم. إن هذا التقرير الميداني يتحدث عن تزايد قوة وخطر القوى القاعدية المسلحة، التي يبلغ عدد أفرادها، كما تقول، 15000 إرهابي، ومنهم 5000 من جنسيات عربية متعددة، أما الأكثرية من عناصر القاعدة في العراق، فهم عراقيون من بعض مناطق غرب العراق، وإنه يتم أحيانا كثيرة تجنيد شبان بإغراء مالي سخي. يقول التقرير أيضا إن القاعدة تتمدد أكثر فأكثر في مدن غرب العراق، حتى أنها تهمين تماما على مدن الرمادي، وهيت، وحديثة، والقائم، وتقيم هناك حكما طالبانيا مكشوفا. أما عن التمويل، فإن القوى الصدامية المسلحة، تعتمد على المليارات التي سرقها صدام من شعبنا، في حين أن شبكات القاعدة تعتمد على أموال طائلة تردها من الخارج، وخصوصا من السعودية، وباكستان، والإمارات العربية. إن هذا التقرير الموسع يقول إن قوى الإرهاب الصدامية راحت تتضايق من اتساع انتشار القاعدة، رغم تواصل التعاون بين الطرفين في كل ما يؤدي لخلق الفوضى ونشر الرعب وإشعال حرب طائفية شاملة. في بعض المناطق الغربية تقيم بعض العشائر تنسيقا واتحادات لمواجهة القاعدة، في حين أن غيرها يعتبر وجودا أمرا مطلوبا حمايتهم مما يعتبرونه خطر التطهير المذهبي!
أما في بغداد، فالخطر يصدر من عدة جهات وأطراف مسلحة، ومنها المليشيات الحزبية. إننا نعرف أنه إذا كان جيش المهدي قد اتخذ منذ مدة خطة مؤقتة للتهدئة، والتجأ زعيمه الصدر لأسياده في طهران، وإذا كانت كوادر أخرى تلجأ لمدن الجنوب، والأسلحة ما بين مختفية أو تنتشر في الجنوب، فإن كل هذا لا يعني أن خطر جيش المهدي زال. كلا، وهذا هو اليوم يدعو علنا أنصاره لمحاربة العسكريين الأمريكان، معارضا بذلك موقف الحكومة، التي هو جزء منها - ويا للعجب العجاب!! حزب يدعو علنا للعنف، ومسؤول عن جرائم كثيرة معروفة، لا يزال مشاركا في الحكومة بستة وزراء و32 نائبا. حقا هذه أغرب حالة من بين حالات العراق الكثيرة المثيرة للعجب والمرارة.
إن تفجير الغازات قبل أيام في الأنبار، يدل على تصاعد مخيف للخطر الأمني برغم الخطة الأمنية التي حققت حتى اليوم بعض النجاح الجزئي، خصوصا فيما يخص التهجير الطائفي. لم يكشف بعد من المسؤولون عن تلك الجريمة المرعبة، البالغة الوحشية، برغم أن أغلب الظنون توجه الاتهام للقاعديين انتقاما من بعض أهالي المناطق السنية في الأنبار، ممن راحوا يقفون بالسلاح ضد تغلغل القاعدة.
أجل، الوضع الأمني لا يزال شديد التردي والسوء، وهو ما يتطلب لمواجهته الجهود الخيرة للعراقيين ودول الجوار، وليس المطالبة بجدول زمني عاجل لانسحاب أمريكي.
إن أية قرارات أمنية، ومهما كانت إيجابيتها وأهميتها، تبقى مجرد كلام فيما لو لم يجر على الأرض تنفيذها بتكامل غير منحاز لجهة أو أخرى، وأية خطة أمنية مدروسة ومتكاملة لن تنجح كما حقا لو بقيت المليشيات، التابعة لأحزاب حكومية قائمة، بسلاحها، ومنها ما هو إيراني الهوى والتمويل والتسلح، كجيش المهدي.
إن قهر الخطر الإرهابي في العراق لن يكون فقط لصالح شعبنا، بل وكذلك لصالح شعوب المنطقة، مثلما هو يخدم الأمن الأمريكي نفسه، بالعكس من تأكيدات الديمقراطيين.
نعم لا يريد العراقيون وليس من مصلحتهم الانحياز في الانتخابات الأمريكية، ولا أي إضعاف للعلاقة مع الحزب الديمقراطي، ولكن الواقعية، بل المصلحة الأمريكية نفسها، تتطلبان عدم الاتفاق مع مطلب الانسحاب أو الجدول الزمني.
أجل، لقد اقترف الأمريكان أخطاء جسيمة كبرى في العراق وخصوصا في العام الأول وعلى الأخص أمنيا. كما أنهم لم يحسنوا التعامل البصير وبعيد النظر مع كل القوى السياسية الوطنية. أما المبالغة في تعداد الأخطاء، وابتكار أخطاء غير موجودة أصلا، فهذا لا يخدم لا الحقيقة، ولا مصلحتنا الوطنية.
أخيرا، أقول بالمناسبة إن مقالتي الكاتب الساخر المبدع سامي البحيري عن quot;الأخطاء الأمريكيةquot; قد فاجأتاني لما هو معروف عن الكاتب من مواقف موضوعية، بل لقد كتب أكثر من مرة أنه معجب بالولايات المتحدة! نضيف أن سامي البحيري، ككاتب ساخر، هو كاتب فريد في أيامنا، حيث يمزج السياسة بالسخرية، كما كان يفعل مثلا الكاتب السوري الراحل مصباح الغفري. أما دخول مجال التحليل السياسي المتكامل لوضع شديد التعقيد والتشابك كالوضع العراقي، فأرى من باب الود والإعجاب، أن يتركه البحيري الآن وأن يستمر في إتحافنا بمقالاته الساخرة النافذة. مع تحياتي له.