يتنافس النقاد على إعطاء تفسير مقنع لمغربي البندقية، قاهر البحار، الأسود غليظ الشفة، الحائز على إعجاب ملوكه، وأخيرا وليس آخرا زواجه من الشابة الرومانية الجميلة، ديزمونة!
والغريب أن يفتش النقاد عن تفسير مقنع، وكأن النفس الانسانية سواء على مستوى عطيل أو غيره قطعة حديد! ومن هنا يأخذني العجب حقا عندما اقرا أن (عطيل) كان ذكيا، أو

الأولى

الثانية

كان غبيا ساذجا، وإنه كان أصيل الشعور بذاته، فيما نقرا عند أخرين بانه كان يحس بالوحشة الأجتماعية، يعيش في د اخله وحش ضاري، على عكس ما يراه نقاد على طرف ثان، بأنه ذاك الساذج الروح، بريئا، سليم الطوية...
هذه القراءات المختلفة قادت إلى القول أن (عطيل) سر لم يُكتَشف بعد، أو إن إكتشافه ما زال ناقص الهوية والتعريف والتفصيل، وما زال هناك جهد بل جهود جبارة تنتظر هذا الكشف الذي سيكون عظيما.
وكل مدرسة تستشهد بنصوص ومواقف يرتفع بموقفها الى مستوى القطع في تصور اساطينها، وتبدا عمليات التأويل لما يوحي بالخلاف، فكان ما كُتِبَ عن (عطيل) أضعاف ما كُتِبَ عن شخصيات أدبية أخرى لها حظ كبير في عالم النقد والتقييم والحكم.
أليس هذا بمثابة استخفا ف بالنفس الإ نسانية؟
عطيل ليس عطيلا واحدا، بل هو أكثر من عطيل، يحمل في داخله ما لا يحصى من الشخصيات، ومن المستحيل تظهيره على نحو المطلق، فتلك خرافة، بل هو غرور...
لم يكن كل تفسير بريئا، فـ (عطيل) في مدرسةٍ تدعي الغور في بواطن اللاشعور، هو ذلك المغربي الذي ينحدر من سلالة تاريخية تأصّلت رذيلتها الفكرية والخلقية، لا ينفك عنها ولا تنفك عنه، تهدأ لكي ترجع زائدة على سابق تاريخها بما يؤكد أصالتها بالفطرة والوراثة، سواد وجهه وسواد قلبه متماهيان، ليس صدفة ولكن حكمة قريبة اقتضتها حكمة بعيدة، تلك هي حكمة التفاوت في قمية الخلق، كي يستمر ويدوم!
هل هناك أكثر من شهادة عطيل على نفسه؟
ـــ [أظن زوجتي شريفة، واظنها غير شريفة
وأظنك ـ مخاطبا ياغو ــ منصفا وأظنك غير منصف.
أريد برهانا ما. ان اسمها الذي بقى نقيا كوجه ديانا // ملوّث أسود الآن كوجهي أنا //]
لا يتكلم عطيل عن سواد وجهه، بل عن سواد روحه، عن تلك اللوثة التي أبتلته بها حكمة الوجود المزعومة لغرضِ استمرار الوجود، الغرض الذي تدعيه بعض النزعات الفلسفية العنصرية، وسواد الوجه مجرد إشارة إلى تلك اللوثة المرعبة التي تنطلق فجأة من داخل أعماقة نارا محرقة، فلا تعرف من الوجود غير أنه لقمة سائغة لغضبها الذي لا يعرف الحدود!
ـــ [... أبدا، يا يا غو، كالبحر البنطّي....
...
ستبقى أفكاري الدموية، في خطوها العنيف،
ترفض النظر إلى الوراء،أو الجزر إلى الحب المتضع،
إلى أن يبتلعها إنتقام عريض شامل ]
سورة غضب من نوع خاص، لا تقتصر على موضوعها المحدد حقا أو باطلا، بل تمتد لتشمل الكون كله، تلتهم الاخضر واليابس، تشعل نارها في صميم الكون كي تزحف ألسنتها الحارقة إلى آخر نقطة على خارطة هذا الكون الرحيب!
تلك هي غضبة (العبد الأسود!) كما تصوره حكايات زمان قديم، ساعدت عليها فلسفات عرقية مشينة، ورعتها صراعات شعوب وحضارات ومدنيات، وما زا لت تستعر في ضمير بشر، يدعون أنهم رسل الانسانية!
ولكن هي ليست شهادة(عطيل) على نفسه فقط، بل شهادة آخرين كانوا على صلة بمجمل الملحمة، فهذا(مونتانو/ حاكم قبرص قبل عطيل وحاضر عملية القتل) يصف هذا (العبد الأسود) بالتهور والنذالة والغلظة مشفوعة بذلك الوصف الذي يؤطر لكل هذه المواصفات القاسية (المغربي)!
(برابانتيو) والد ذلك الملاك الطاهر كان يتحرق من الوجع وهي تتماهى بحبها الى حد الذوبان الشهودي في روح هذاالعبد الاسود، فهذا عطيل قد استحوذ على قلب أبنته ساحرا، مشعوذا، كان يتوسل بـ (حروز ورقي وطقوس سحرية)، كان نموذجا في ممارسة فن الخدعة، لم يلتزم شرعا ولا قانونا!
يقول عنه أحد سادة البندقية (رود ريغو) وهو يعلق على زواجه من تلك الحمامة الملائكية (ما أغناه حظا غليظ الشفتين هذا..).
لم تكن هذه الصفات الجسدية في سياق النص منفصلة عن مملكة رؤيةٍ يبدو كانت شائعة في ذلك المقطع من التاريخ، بل وما زالت شائعة، تلك الرؤية التي تجمع بين هذه الصفات وبين سجايا الذات، ومكوناته الجوهرية، ومذخورها من الاخلاق والنعوت!
ها هو برايانتيو يحاور عطيل : ــ
ـــ [ هل يعقل أن صبية مثلها رقيقة، حسناء، سعيدة
تصد عن الزواج، متحاشة
كل عزيز ثري مرسل الشعر من أمتنا
ومن ثم تطلب أن تغدو أهزوءة الجميع
فتهرب من حما تها إلى أحضان مخلوق
أسخم مثلك ليفزعها، لا ليمتعها؟]
ليست مقارنة بين جسدين، بل بين حضارتين، ليست مقارنة بين أسود وأبيض، بل بين شرق وغرب، ليست مقارنة بين شعر كث وشعر مرسل، بل بين لغة و لغة...
يلتقط (ياغو)نفسه هذه المفارقة، ليخاطب بها عطيل أيضا!!
ــ [ ولو أنني أخشى
أن شهوتها، إذ تثوب إلى حسن إدراكها.
ربما راحت تقارنك بأشكال قومها،
وإذا هي تندم!]
كان إذن عطيل ــ كما يبدو ــ من هذه النصوص محل تهمة، تهمته انه مغربي، أ سود، شهوي، غليظ الشفة، كث الشعر، قبيح الوجه! وكما قلت إن الصفات الجسدية من لون وطول وقوام تعبير عن خصائص حضارية، تعبير عن نزعات، تعبير عن هويات ثقافية! لذلك ليس غريبا أن يعمد مسرحيون إلى إظهار عطيل وحشا، حيوانا يزحف، آفة بشرية مزعجة!!
هو ذلك الفاسق في نظر (رودريغو) الغلام السائب، المؤجّر من قبل الجميع! هو ذلك الغريب الجوال الهائم على وجهه (هنا وفي كل مكان) / ص 62 /
ولكن أغرب ما وصف به (عطيل) تلك الخلة التي تواصلت بحدة وكثافة مع تاريخ متصدع بالريبة والخوف و النفي بين شقِّي هذا الكون الكبير!!
يقول عنه والد ديزدمونة : ــ
ــ [... لذا فإنني ألقي القبض عليك واحترزك.
متهما أياك بأنك (خادع العالم)، وتمارس
فنونا محرّمة، خارجة على الشرع والقانون...
إمسكوا به، وإذا قاوم
اخضعوه ولو لقي الأ ذى ] ص 69 من طبعة جبرا.
كلمة جامعة تلهب الفكر النقدي مديات بحرية من صلاحية التأويل، ليمتد لآفاق تغدو اكثر مما يطاق في فن المبالغة والتصوير،وتتحدى الخيال أن يستوعب مفرداتها على شكل حصري!
فعطيل خادع العالم!
أي عالم؟
يبدو أن (دزدميونة) في نظر أبيها هي العالم، ليست بشخصها ولكن بنوعها، ذلك الجنس الابيض الذي لا يطيق لونا مضادا، رغم علمه أن التضاد بناء الأكوان! ورغم أن منطقه الفكري يستمد شرعيته من إقرار التضا د كحقيقة منطقية لا مناص منها، بل هو مقياس الألفة الذهنية السليمة، ومعبر الدخول إلى أفاق المجهول، وبدون نظام التضاد يفسد الفكر والعالم!
وعطيل (يخدع) هذا العالم، هو غاز، يتلاعب ببنائه الروحي والجسدي معا، شيطان وليس غبيا كما طغت على الكثيرين فتنة التماهي والتساوي بين السواد والغباء! علاقة عداء جوهري.
فهذا السيد (البندقي) الابيض يختزن في داخله سوء ظن متأصل تجاه هذا (المغربي) الأسود، فهذا الاخير يمثل نزوة الغزو، تسيطر عليه روحية الإستحواذ، الاستحواذ على العالم كله، استحواذ تخريبي، تسلطي!
يرتفع حسُ بعض النقاد من ذوي النزعة الإنسانية بهذا (العبد الأسود)، الذي خنق أجمل فتاة عصره، تلك الطفلة السماوية البريئة،، يرتفع بهذا الوحش الغريزي الضاري إلى مصاف العذوبة ذاتها، فقد كان (عطيل) نسيج روحه من سذاجة فطرية، لم تلوثها مشاغل الغريزة في هياجها وعنفها وعبثها وطمعها وسورتها، بريء كما هي (ديزدمونة)، كلاهما طير سماوي، بياض سماوي، كلاهما خاطرة ربانية في لحظة صفاء رباني، في لحظة كان فيها الإله خالصا مع ذاته الى حد التطابق الكامل، حتى (ياغو)، ذلك العدو الشرس الذي لم تسلم منه خليقة من خلائق الكون الحي أو الميت، الواقعي أ والمتصور... لم تسلم من شكوكه الضارية التي تعصف بالروح والسكينة والحياة... حتى هذا الرجل المشتعل بدنس الريبة المنظمة على دقات قلبه وخواطر روحه... حتى هذا يعترف بنبل هذا (المغربي)!
يقول في وصفه : ــ
ــ [ والمغربي سمح الطبع، صريحه،
هو ليّن الإنقياد من أنفه كالحمير..]
ــ [ والمغربي (مهما أكن لا أتحمله)
ذو طبع نبيل، محب، وفيّ... ].
رغم أنه كان يكنُّ داخله أحتقارا لعطيل بسبب لونه!
ــ [... يطيب لهم أن يشربوا نخب صحة الاسود عطيل ] ص 102.
هذه شهادة مهمة، لان عطيل كان الغريم الأول بالنسة لـ (ياغو)، وكانت هي الشهادة ذاتها على لسان ملازمه الهادئ الطيب (كاسيو) والكثير من الجند والقواد، وربما يشفع له في ذلك تفانيه في خدمة الدولة، وشجاعته المنقطعة النظير، وفنونه الحربية، ومغامراته في البحار والمحيطات...
لم يكن عطيل من النوع الذي يغور في قراءة الأخر، بل شديد الثقة بالاخرين، يندفع في ذلك من فطرة سليمة، وهذه الفطرة هي ذاتها التي طبعته على حب المغامرة، وتحمُّل المشاق (أني أجد في المشاق حافزا فطريا وعفويا)
فأين هي الحقيقة؟
من الصعب الفصل في هذه التقييمات، لسنا ندري هي مجرد إنطباعات شخصية أم هي ناتجة عن فكر فلسفي وحضاري مستقر في اللاشعور الجمعي، ومن الصعب البت بأن تكون نهائية أم مؤقتة، أي هي حكم قد أبرم ومضت عليه ريشة القدر بخلود الموقع من لوح الواقع النفسي لأصحابه، أم هي مجرد رد فعل أو موقف فرضته ظروف طارئة، فهذه زوجة ياغو، أي (أميليا) كانت تنظر إلى الرجل نبيلا، خالد الطهر، قلبه في عينيه، ولكن عندما قتل ديزدمونة أنفجرت في وجهه صارخة : ــ
ــ [ إنها / ديزدمونة / ملاك يزداد نقاء على نقاء
وأنت شيطان يزداد سواد على سواد! ].
فهل نجرأ لنقس مواقف الاخرين على موقف (أميليا)؟
ليست سوى أنطباعات تتأسس في ظرفها، وليست نعوتا محكوما عليها بالثبوت الطبعي بحيث تحولت أو هي جزء من الطبيعة وليس الثقافة!
لم يكن عطيل شخصية خالصة، فهو غريب، يعيش في وسط غريب، بربري أعتنق المسيحية، جاب البحار، خاض معارك شرسة، خاض مغامرات عاتية، كان هائما على وجهه كما يصفه رودريغو، عطيل ينطوي على ما لانهاية من الشخصيات...
فهل يجازف ناقد ليختصر هذه الشخصية المعقدة بحكم أحادي مانوي نهائي؟
لقد دافع عطيل عن نفسه، وكان ينعت نفسه بالشريف،حتى بلغ به الأمر أن أقترح تسمية لذاته تتركب من الذنب والطهر بعد أن إكتشف أنه مخدوع (قولوا إن شئتم، قاتل شريف) / ص 199 /، وكان شديد الإعتزاز بماضيه المشرق (هذا هو الذي كان يوما عطيل) / ص 199 /. صبره ليس عاديا، بل هو ذلك الصبر المحسوب بدقة الذكاء المنبعث من تقدير عالي الحساب للظروف والمعطيات (ستجدني شديد المكر في صبري) / ص 154 /.
والآن...
أين الحقيقة؟
أين هو عطيل؟
حيرة النقاد في تفسير (عطيل) شكسبير مشتقة من حيرة شكسبير بـ (عطيل) نفسه، فقد كان شكيبير أمام شخصية مركبة، كأي شخصية في هذه الدنيا، ولكنها شديدة التركيب، بفعل الظروف الصعبة التي مضت عليه، والتحولات الهائلة التي مرّ بها، رغم أن هناك ثابتا يبدو كان جوهر الموقف تجاهه على كل حال، فهو دائما ذلك (المغربي!).
كان شكسبير يستعرض هذه الشخصية بهذا التركيب الهائل من القوى والنزعات والمواقف والتغييرات، كان يريد أن يحيرنا معه!
إن عطيل هو الذي خلق شكسبير وليس العكس، هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود، كان الفضل لعطيل، لهذا المغربي البندقي، الأسود اللون، الأبيض القلب، الغيلظ الشفة، الر قيق المشاعر، القاتل الشريف، الشجاع الشفاف، الغريب الحاضر، البربري المسيحي، الذكي الساذج، الصبور المتهور...
وهل ذنب الخلق إلا هذا؟
وهل ذنب الوجود الذي أنعم علينا بشرفه إلا هذا؟
سلام على كل من صفا قلبه، وحسب الأخر ملاكا مهما كان هذا الآخر سيء الظن