لا شعيرة تهز الذات المؤمنة في دين الله مثل ( الأذان )، تلك الشعيرة المحتشدة بالمعاني الرائعة، دعوة شفافة تبدأ من التوحيد الجميل لتنتهي بالحث السريع على الإ نجاز الإنساني الرفيع ( حي على الفلاح ، حي على خير العمل / وانا من المؤمنين أن الشعيرة الاخيرة جزء من الأذان حذفت للأ سف الشديد )، وكم جميل أن يكون النداء صوتا إنسانا يجوب الآفاق بنغم مؤثر حنين، يباشر النفس بهدوء وسكينة وإطمئنان، يصمم مسيرة الوجود من الإعتراف الربوبي إلى تعبيد الإنسان بالعمل الصالح قبل أي شيء آخر. حقا أن الأذان الإسلامي دعوة سلام وحب وعطاء وعمل وبذل في سبيل الإنسان وا لمجتمع والحياة الخيرة.
الأذان مشروع توحيدي، يصهر المسافات بين المسلمين في نقطة إلتقاء مترعة بالوجد والحنان والشعور بأن الجميع مهما اختلفوا وتنافسوا وتشاجروا تجمعهم خيمة واحدة، منسوجة الصلة ببعضها، بل هو من جانب آخر توحيد للبشر على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم في سياق شرف لا يعلوه شرف، وجمال لا يفوقه جمال، ذلك هو العمل الصالح، فإذا كانت الدعوة إلى الصلاة ( حي على الصلاة ) تخص المسلم، فإن الدعوة إلى الإنجاز المعطاء ( حي على الفلاح، حي على خير العمل ) لا تخص مسلما، بل هي دعوة إنسانية للجميع، فالأذان الإسلامي بهذه الفقرتين الحضاريتين الشائقتين عالمي، وليس إسلاميا صرفا، وفي ذلك يكفيه فخرا.
ولكن رغم ما للأذان الإسلامي كل هذا الجمال والسناء والروعة و الاناقة يتحول إلى باعث شحناء وضغناء ومناقشات لا طائل من ورائها عندما تتبناه ( الفضائية العراقية ) ولا أريد أن افصل بالسبب، فإن توزيع الأذان زمانيا في فضائية رسمية بصيغتين مذهبيتين إسلامية سنية و إسلامية شيعية مبعث أ سى وحزن وألم، ومن هنا أرى أ ن الغاء مشروع الأذان بصيغتيه من الفضائية العراقية مطلب موضوعي، ويلتقي مع كل رغبة تهدف سد كل ذرائع الصراع الطائفي، وتحجيم كل فرص التصيد بالماء العكر، فهل من المعقول أن يتحول الأذان إلى سبب فرقة لا جمع ؟ هل من المعقول أن يتحول الأان إلى سبب إثارة ذكريات مؤلمة وفتن نائمة ؟
نعم، أن مشروع ( التوازن ) المذهبي في الأذان على الفضائية العراقية الرسمية التي تمثل العراق رسميا يعد كارثة إخلاقية في تصوري، لأنه يساهم بشكل وآخر، اليوم او غدا، هنا أو هناك بما من شأنه تجسيد الحس الطائفي، وتحفيز الحزازت البدائية، وشحن الجو العراقي العام بالنتن الطائفي البغيض. ثم ألا يكفي مئات بل آلاف المساجد السنية والشيعية تصدح بالأذان التي تحبذ صيغته، وترجح مشروعيته، وكم أنا معجب أشد الإعجاب بقناة ( المنار اللبنانية الشيعية ) وهي قناة إسلامية بامتياز لدى الإسلاميين من سنة وشيعة كما أعلم فيما برامجها لا تتضمنا ( الأذان ) سواء بصيغته الشيعية أو السنية !!!
الآذان في الفضائية العراقية مبعث فتنة وأوجاع وآلام، وليس مبعث راحة نفسية، وأعني ما أقول، وذلك ليس بسبب الشعيرة المقدسة والعياذ بالله، بل بسبب ظروفها وآلياتها ومجالها، الآذان في الفضائية العراقية أشبه بالصلاة على محمد وآل محمد في البرلمان العراقي ــ والحمد لله إن الظاهرة المذكورة تراجعت كثيرا ـــ حيث يشكل إختراقا لحقيقة سامية رائعة، تلك هي أن العراق للعراقيين جميعا، وبالتالي، يجب الإ نطلاق من المشتركات التي لا خلاف عليها، والعمل بروح هذه المشتركات.
الفضائية العراقية للمسلمين والمسيحيين والصابئة والأشوريين واليزيديين ولكل النحل والملل في عراقنا الديمقراطي المتعدد، بل هي كذلك للإسلاميين والشيوعيين والقوميين والإشتراكيين، فأين موقع الآذان هنا بشقين مذهبيين غير موقع الأختراق الوطني لمهمة الفضائية ؟
لا يتنافى ذلك مع كون الإسلام أحد المصادر او حتى إذا كان مصدرا رئيسيا للتشريع في العراق، فكون الإذان مادة تلفزيونية تتواصل مع مبدا السلامة الوطنية وليس الحقوق الشعبية، وإذا كان الد ستور ينص على المسا واة بين العراقيين من دون تمييز وترجيح، فعلى الفضائية العراقية أن تسمح للاخوة المسيحيين أن يمارسوا حقهم بنقل دق نواقيسهم، وكذلك اليهود العراقيين بنقل نقر أبواقهم كذلك بقية الملل والنحل.
الفضائية العراقية يجب أن تكون عراقية، لا إسلامية ولا مسيحية ولا مندائية، لا شيوعية ولا قومية، عراقية بحتة، ذلك هو منطق العراق الديمقراطي التعددي، بل منطق العراق الإسلامي بكل صراحة، فإن الإسلام يريد للجميع أن يمارسوا حقوقهم، ومن حق الجميع أن تكون له حصة في زمن الفضائية العراقية خاصة على صعيد الشعار المنادي والمميِّز، فكيف والفضائية العراقية تعلن أنها عراقية، وإنها لكل العراقيين، والدولة تعلن في دستورها أنها ليست دولة دينية ؟
وإنها لحقيقة مرة أ ن نسمع الأذان العراقي السني او الشيعي في فضائيتنا العراقية وبعد دقائق معدودة تنساب الأجساد بشهوتها الدفينة على شاشة الفضائية تلمع من وهج الإغراء، فيتوارى صوت المؤذن السني أو الشيعي غير مأسوف عليه، لنسمع آهة حب تثير حتى الصخر، وتحفز كل غرائز التجلي الجسدي في ثوبه البدائي !
إنقذوا الأذان الإسلامي من هذه الكارثة...
لتكن للأذان حرمته، ولا أعتقد أ ن حرمة الأذان تسمح أن يعقبه عناق عاشقين كاذبين، ومن ثم تبادل قبلات سمجة، تحول الصدق الصريح الى كذب صريح، فإ ن القبلة كما سماها نبي الله رسول، فيما هي على الشاشة كذبة كبيرة.
إنقذوا حرمة الأذان...
لا أذان سني ولا أذان شيعي في الفضائية العراقية... فلسنا في حاجة إلى ما ينكأ الجروح، ويثير الفتن، ويستحث الجدل الأعمى...
بل لا شعائر دينية شيعية ولا شعائر دينية سنية... لأن الإسلام فوق السنة والشيعة....
بل لا شعائر دينية في الفضائية العراقية... بل شعائر وطنية...
علمانية ولكن تحترم الأ ديان، علمانية ولكنها محتشمة...
أليست هي فضائية عراقية...؟
كل طائفة، كل دين، كل قومية... لها الحق ان تكون لها فضائيتها الخاصة بها، وهناك تستطيع أ ن تستهل وتختم برامجها بأذانها وشعارها وصوتها، أما الفضائية العراقية فشعارها... الوطن... وكفى...