فوجئت شخصياً بحجم الفرحة الشعبية العارمة، التي اجتاحت الكل الفلسطيني في بلادنا، إثر الإعلان عن اتفاق تشكيل حكومة الوحدة في مكة. فرحة عارمة لم تعرفها بلادنا، على هذا المستوى الواسع والرائع، إلا حين عادت طلائع قوات جيش التحرير بعد اتفاقية أوسلو الشهيرة.
منذ ذلك التاريخ، لم نعرف طعم هذه الفرحة. جيشان شعبي ومسيرات حاشدة وتكبيرات في المساجد. بهجة تعمّ الشوارع والبيوت. ألعاب نارية تضيء ليل قطاع غزة. زغاريد العجائز والنسوة والصبايا ترصّع الأفق، والمحلات التجارية تفتح أبوابها بعد العاشرة مساء، هي التي كانت مقفلة في عزّ النهار. أيضاً الرُزّ والماء يُرش والحلوى توزع على المحتفلين في الميادين العامة وفي أزقة المخيمات بالمجان.
وأجمل ما رأيت، حتى اغرورقت عيناي بالدموع، مشهد احتضان المئات من أفراد القوة التنفيذية التابعة لحماس، لمئات من أفراد الأمن الوطني التابع للرئاسة ورقصهم رقصة الدبكة الفلسطينية معاً ويداً بيد.
لقد عاد الشعب الفلسطيني إلى صوابه ورشده، بعد سنة كاملة من المشاحنات والمناكفات وصولاً إلى حافة الحرب الأهلية.
الرصاص الذي كان يوجّه من بندقية الأخ إلى قلب أخيه، قبل يومين، فيصيب قلب الشعب الفلسطيني بأسره، يُوجه الآن، ومن جميع البنادق، إلى الفضاء، ابتهاجاً وانفعالاً بالاتفاق الجديد.
قطاع غزة بكامله والضفة بكاملها تعمّهما الفرحة، وعشرات الألوف من الناس خرجوا من بيوتهم، رغم الليل والصقيع، هاتفين بالوحدة الوطنية وبأسماء الشهداء والأسرى.
فالحمد لله. والشكر الجزيل للأخوة السعوديين وللسعودية ملكاً وحكومة وشعباً. فلولاهم ما انفرج ليلنا، ولا ابتهجنا بهذه الليلة التاريخية حقاً، بعد طول انتظار وطول معاناة.
لقد كنا دخلنا في المرحلة الحرجة بل الأكثر حراجة في تاريخنا وتاريخ قضيتنا. ولقد وصل بنا التشاؤم حدوده القصوى، حتى وضعنا أيدينا على قلوبنا، مفكرين بالهجرة، أو لائذين بالصمت والغَصص.
والآن ماذا يتوجب على قيادتنا أن تعمل؟ وما هي الخطوة التالية بعد الاحتفال؟ لا نريد أن نفسد فرحتنا العاطفية، لكن ثمة بعض النقاط الجوهرية الملحة لا بد من مناقشتها في هذه المرحلة.
أولاً : نقول لهم لا تخذلوا شعبكم المجروح. ها أنتم ترون مدى فرحته، فرحة العطشان للماء، فلا تخدشوا هذه المشاعر النبيلة المقدسة. وليس من طريق لتحقيق هذا الأمر، غير طوي صفحة التناحر السوداء إلى الأبد. فلا هذا يليق بنا كأصحاب أعدل قضية، ولا ظروفنا تحتمل ولا شروطنا السياسية المعقدة تسمح بذلك. إنّ هذه الفرحة العفوية الهائلة تستحق منكم أن تتغيّروا أنتم كذلك من أعماقكم، وأن تضعوا عقولكم وقلوبكم على عقول وقلوب شعبكم، بكل أطيافه وتعدد ألوانه الجميل.
وعليه فيجب أن يدوم هذا الاتفاق التاريخي، وأن يثبُت على الأرض، فلا يُسمح لأيّ جهةٍ كانت، خارجية أو داخلية، أن تتلاعب به، مهما كان ثقلها ونفوذها. فهذا اتفاق شعب ومصير شعب. كما يجب أن يُعالج أي خلاف بعد هذا التاريخ بالحوار والحوار فقط. فيكفينا ما رأينا من أيام دامية ما زالت صورها تقض مضاجعنا وتمنع عنا غفوة النوم.
ثانياً : إنكم مطالبون الآن وفي المستقبل القريب بإنهاء ملف منظمة التحرير، الذي أكل عليه الدهر وشرب. وكذلك مطالبون برفع الحصار [ فلا تنسوا أنّ فرحة شعبكم هي بالأساس فرحته بتشكيل حكومة الوحدة التي تعني له أول ما تعني : رفع الحصار الظالم عنه، وإعادة ضخ المساعدات ] فالشعب جاع وذاق الأمرّين خلال السنة الماضية، ولا يريد لذكرياتها السيئة أن تُعاد.
ثالثاً : يجب إنهاء ملف الفلتان الأمني، بأقصى سرعة، فهو ملف داخلي لا يقبل التأجيل، فضلاً عن أنه بات يؤرّق الجميع ويشكو منه الجميع، وذلك بالاتفاق بين جميع الفصائل، وبتنفيذ وحضور كثيف من الحكومة القادمة، ممثلة بوزارة داخليتها. ولن يتحقق هذا الشأن الحساس، إلا بتوحيد الأجهزة الأمنية كلها تحت إمرة وزارة واحدة.
رابعاً : العودة إلى طاولة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، ووضع الكرة في ملعبهم هم، بعدما تحققت الكثير من مطالب الرباعية بتشكيل الحكومة واعترافها بالاتفاقات الموقعة بيننا وبين إسرائيل. وهنا لا بد من إشراك جميع الأطراف الفاعلة في الساحتين العربية والدولية، للضغط على حكومة أولمرت، والبدء في مفاوضات الحل النهائي، وفقاً لمعاهدة السلام العربية وقرارات الأمم المتحدة.
إنّ شعبنا يأمل، والبعض منه متفائل وتائق، بعدما انقشعت هذه الغمّة، إلى تحقيق السلام والعيش الكريم داخل حدود أرضه، في دولة مستقلة مسالمة قابلة للحياة، هو الذي حُرمَ منهما طويلاً : الدولة والحياة. فلا تفسدوا تفاؤله ولا تكسروا أمله، ولا تخفّضوا من منسوب هذا التوق، جرياً وراء شعارات وأيدولوجيات، ثبتت لاواقعيتها، وثبتَ أنها تأخذنا فقط إلى الوراء فاللحظة الدولية تبدو جد مناسبة، والفرصة ربما تكون مؤاتية إلى تحقيق حلمه الذي استعصى وطال.
أخيراً، وعلى هامش هذه الاحتفالات، لفت نظري مشهد لم نتعوّده من قبل : وهو أنّ الناس تذهب الآن وفي هذه اللحظات إلى مكان إطلاق النار في الهواء، هم الذين كانوا يرتعبون منها منذ أيام قليلة فقط. فهم يعرفون أنها الآن طلقات وحدة ومحبة وفرح، لا طلقات موت وتخريب وترهيب [ مع رفضنا لهذه العادة السيئة، وأملنا في أن تنتهي من حياتنا ]
فماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن شعبنا كله تعب وكَلَّ وملّ. يعني أنه مشتاق للانفراج، مشتاق للخروج من النفق الأسود : من بطن الحوت. مشتاق للعودة إلى حياته الطبيعية، خاصة بعد خروج قوات المحتل من القطاع. يعني أيضاً شوقه للتعمير وللبدء في تضميد جراحاته التي خلّفها الاحتلال.

أيها القادة :
اجلسوا واتفقوا وكونوا على مستوى تضحيات هذا الشعب. هذا ما يريده شعبنا منكم. وهذا ليس بالأمر العسير عليكم فيما لو خلصت النية وصحّ العزم ووضعت فلسطين فوق الجميع.
إننا بعد ليلتنا العظيمة هذه، لن نقبل منكم أقلّ من الاتفاق في كل القضايا المختَلف عليها. فقد طال انتظارنا حقاً لهذا النبأ السعيد، ولهذه الليلة المباركة، اللذين لولا المملكة ولولا توازن قوى الفرقاء في الميدان، ما كانا، فلا تخذلونا مرة أخرى أبداً.

أبداً.